معرفة الذات واللقاء الإسلامي - المسيحي

معرفة الذات واللقاء الإسلامي - المسيحي
        

كتبت هذه الكلمة أمام ميناء سيدني. وسيدني هاربور بالنسبة لي أجمل ما في سيدني وفي أستراليا لما توحيه لي أنا بالذات. أحد المعاني القاموسية لكلمة «هاربور» الإنجليزية: «ملجأ ومكان أمين». و«مينا» العربية المأخوذة عن اليونانية «ميناس» لها معان مماثلة.

          عرفت سيدني هاربور منذ حوالي عشرين سنة. جئت إلى أستراليا من بروكسيل في بلجيكا, حيث كنت أعدّ الدكتوراه في وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي. ومثل أكثر البلدان الأوربية كانت بلجيكا يومها، في أواسط الثمانينيات، تشهد صعود اليمين المتطرف، وازدياد العنصرية بمختلف أنواعها من تمييز عرقي وديني وثقافي. في تلك السنة، استغرقني الحصول على قبول بالإقامة من البلدية التي كنت أسكن فيها أكثر من ستة أشهر. بعد عدة محاولات فاشلة قبلت البلدية أن تمنحني «بطاقة هوية» أو بالأحرى «بطاقة إقامة» تقرّ بأني مقيمة «شرعيًا» في تلك الدائرة السكنية وتوافرت لي الاستفادة من الخدمات الطبية والمواصلات العامة بالأسعار المعمول بها للمقيمين الشرعيين كافة، هذا على الرغم من أني كنت أحمل تأشيرة دخول طلابية حصلت عليها بكفالة مصرفية عالية، وكنت أدفع رسومًا جامعية مرتفعة مثل كل الطلاب الأجانب.

          طبعًا من الضروري أن نفهم هذه التجربة على خلفية المجتمع الأوربي آنذاك وما كان يتفاعل فيه من أفكار مسبقة ومقولبة، وتمييز عنصري ضد العرب والمسلمين، خاصة القادمين من شمال إفريقيا. كوني فتاة لبنانية مسيحية ما غيّر كثيرًا في المسألة. فالحرب المستمرة منذ العام 1975 والتي مزّقت لبنان في الداخل كانت كافية للإساءة إلى صورة اللبنانيين - كل اللبنانيين - في الخارج. كل اللبنانيين، مسيحيين ومسلمين، وُصفوا بالرجعية واللاعقلانية والتعصّب والعنف وعدم التسامح، وفوق كل ذلك، بالعنصرية. وما كان من الصعب على الأعداء - وحتى الأصدقاء - أن يجدوا حجة تؤكّد لهم أننا نستحق هذه النظرة.

          في ذلك الوقت، كانت أستراليا تعيش أحلى أيام التعدّدية الثقافية. كل الأستراليين متساوون أمام القانون بغضّ النظر عن خلفيتهم الإثنية أو الدينية أو الثقافية. وكلهم كانوا فخورين بتراثهم الثقافي ليس فقط لأن سياسة البلاد تسمح لهم بل لأنها فوق هذا تشجّعهم على ذلك. حتى قبل أن أصبح مواطنة أسترالية، قدّمت لي أستراليا أضعاف ما منحني إياه وطني الأم. وإذا كان يؤسفني ويحزنني أن أُحرم من حقي في العيش الحر الكريم في وطني الأول فإنه، من دواعي اعتزازي أن أجد في أستراليا الوطن الثاني الذي فتح لي قلبه لأمارس وطنيتي وأساهم بحق في بنائه. في أستراليا انفتحت لي أبواب الفرص الكثيرة، كلها في إطار التكافؤ والاحترام والاعتزاز. تركت لبنان بعد أن حُرمت من منحة دراسية - استحققتها عن جدارة - لمتابعة دراستي العليا في الخارج. وفي أستراليا وصلني حقي! في السنة الأولى لدخولي الجامعة حصلت - وعن جدارة أيضًا - على المنحة التي أهّلَتني لتحقيق الحلم الذي راودني منذ وعيت على الكتاب والدفتر.

نفتح على الثقافات الأخرى

          الأهم من ذلك، أنه في هذا الجو الاجتماعي العابق بالدفء والتفاهم والاحترام المتبادلين، تفتّحت آفاقي في أستراليا على الشعوب والثقافات الأخرى. وتوافرت لي فرص أفضل لمعرفة ناسي وأهل بلدي. خارج إطار الأقرباء والعائلة، كان أول أصدقائي في سيدني مسلمين: نساء ورجالا من مناطق مختلفة من لبنان والوطن العربي، التقيت بهم لأول مرة في أستراليا. طبعًا هذا لا يعني أني أقلّل من أهمية أصدقائي الآخرين الذين تعرّفت عليهم فيما بعد، وهم كثر ومن مختلف الانتماءات، عرب وغير عرب. ولكن ما أودّ قوله إن صداقاتي في أستراليا قامت من البداية دون سؤال «شو دينك»؟ الذين عجزوا عن فهم انفتاحي سألوني أكثر من مرة: «كيف يمكنك أن تثقي بهؤلاء الغرباء؟ ناس مش من ديننا ولا دينهم!؟» ولكن الحقيقة أن هؤلاء الناس بالذات هم الذين عرّفوني على أستراليا الثمانينيات، وهم الذين جعلوا استقراري في أستراليا سهلاً وحقيقيًا. وأنا مدينة لهم بذلك دائمًا. رجل لبناني مسلم كان أول من عرّفني على الجالية العربية وعلى مؤسسات وتجمعات أخرى في المجتمع الاسترالي. هو الذي عرّفني على طالبة جامعية لبنانية مسلمة، وهي عرّفتني بدورها على أستاذها العربي المسلم، الذي قبل طلبي لدراسة الدكتوراه في قسم الدراسات العربية والإسلامية، ومازال زميلاً وصديقًا لا يُقدّر بثمن.

          ولدت في بلدة جنوبية في لبنان من أم قدّيسة بإيمانها البريء وقلبها الكبير. إيمانها عظيم لا يطرح الأسئلة وقلبها يسع كل العالم دون النظر إلى إيمانهم أو دينهم. شعارها في الحياة: «كل من على دينه الله يعينه». أبي، وعيت عليه يقرأ الكثير ويحكي القليل. من هذا القليل أذكر قصة رواها لنا أكثر من مرة، كيف هدّد باللجوء إلى الشيخ لأن الخوري رفض تزويجه، هو الرجل الروم الكاثوليكي، من امرأة مارونية. وعلى الرغم من الرفض، أصبحت هذه المرأة زوجته وأمًا لأولاده التسعة، كنت أنا السابعة بينهم.

          من أمي الأميّة تعلمت صلاتي اليومية وخدمة القدّاس وتراتيل الميلاد والآلام والقيامة. أذكر يوم الجمعة العظيمة، كانت تقسم بالتساوي الأزهار البرية (سكوكو وعصاية الراعي) التي كنا نجمعها لجناز المسيح وتقول: «هذه لمار مارون وهذه للسيدة» (كنيسة الروم الكاثوليك في جزّين). وكانت في يوم الجمعة العظيمة تأخذنا بيدها من كنيسة لأخرى. كنا نتعب ولا نشتكي. من أمي تعلمت أيضًا «السلام عليك يا مريم» و«أبانا الذي في السماوات» و«نؤمن بإله واحد». كنت أرددها وراءها كالببغاء بالعربية الفصحى. وكم تساءلت أنا الطفلة كيف تعلمت أمي لغة الكتابة في صلاتها وهي التي ما دخلت المدرسة يومًا في حياتها؟!» إيمان أمي وتعبّدها وتفانيها بالصلاة لايهزه إلا شعورها بالتقصير بسبب مسئولياتها العائلية الكثيرة. تفكر بالمرأة المسلمة كنموذج للتفاني في الصلاة وتقول لنا بعفوية: «المرأة المسلمة لا تقوم عن صلاتها حتى لو زلزلت الأرض من تحتها»! لغاية اليوم، تتمنى أمي لو يكون لها تعبّد المصلية المسلمة وتتحسّر لعجزها عن قراءة الإنجيل مثلما كان يفعل أبي.

          في يد أبي رأيت لأول مرة في حياتي الإنجيل والقرآن. منه سمعت لأول مرة عبارات مثل «بسم الله» و«لا إله إلا الله» و«أعوذ بالله»، و«لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم». ودخلت هذه العبارات في قاموسي اللغوي. من أبي تعلمت أيضًا حب القراءة وحب اللغة العربية كما في الكتابين المقدسين. علمني تاريخ الإسلام كما قرأه في القصص وكتب التاريخ العربية. ومثله بدأت أزيّن لغتي، وكلامي وكتابات الإنشاء، بآيات قرآنية كان يشرحها لي بحسب ما كانت قدرتي العقلية الطفلة قادرة على فهمه آنذاك.

          لم أفهم ردة فعل الراهبة يوم كانت تشرح تاريخ صدر الإسلام وتبـرّعت أنا بأن أجلب من البيت نسخة القرآن الكريم ليراها رفاقي في الصف. وما فهمت غضبها في مناسبة أخرى عندما حلفت «بالله العظيم» أني أقول الحق. نظرت إليّ وفي عينيها رعب وقالت: «أي بنت مسيحية أنتِ تحلفين بالله العظيم!» عبثًا حاولت أن أفهم ما كانت خطيئتي يومها. كنت في الثانية عشرة من عمري. وكان علي أنا البنت المسيحية أن أدرك أنه بإمكاني أن أقول «وحياة الله» و«حياة بيّي» أما الله العظيم! فلا، أبدًا! لأني مسيحية!

          منذ أشهر، كنت أشاهد على التلفزيون مسيرة جنازة الصحفي النائب جبران تويني في بيروت. كانت مكبرات الصوت تردّد كلماته المسجَّلة ويرددها المشيّعون: «نقسم بالله العظيم، مسلمين ومسيحيين، أن نبقى موحدين إلى أبد الآبدين آمين». كم تساءلت يومها ترى ما العقاب الذي يمكن أن تفرضه الراهبة على جبران تويني لو أنها سمعته يقسم بالله العظيم؟!

          طبعًا «حادثة الراهبة» وقعت قبل الحوادث الأليمة التي عصفت بلبناننا الحبيب بسنوات، ولا يمكن تفسيرها بالتعصب الطائفي الذي سمّم حياة اللبنانيين، مسلمين ومسيحيين على السواء، في ظروف الحرب. ولكن الراهبة نفسها كانت من خارج البلدة، ما كانت من جزّين.

مدينة منفتحة

          جزّين، حيث ولدت ونشأت بلدة تسكنها أكثرية مارونية وعدد من العائلات التابعة لطائفة الروم الكاثوليك الملكيين. ولكن حتى خلال الحرب كانت جزّين بشعبها ورموزها، بتمثال العذراء المرتفع على مدخلها وبكنائسها ومدارسها، دائمًا منفتحة على غيرها من المناطق اللبنانية ذات الأكثرية غير المسيحية. صيدا، المدينة الساحلية، فيها أكثرية سكانية سنية ومخيم كبير للاجئين الفلسطينيين. كانت دائما بمدارسها ومستشفياتها وأسواقها، نافذتنا إلى كل لبنان وإلى العالم الخارجي. وكما كانت صيدا خزان الحياة لنا صيفًا وشتاءً، كانت عروس الشلال، جزّين «المسيحية»، ملجأ «الصيادنة» المسلمين يتبرّدون فيها من حر الصيف ويتفيأون في ظل صنوبرها من لهيب يوليو وأغسطس. ولمدة أشهر من كل سنة، كان أكثر من سبعين في المائة من الجزّينيين المسيحيين ينامون مع الصيادنة المسلمين تحت سقف بيت واحد لا يفصل بينهم أحيانًا كثيرة غير ستار قماشي أو حائط خشبي مؤقت.

          لمدة سنوات كان بيتنا مضافة لعائلة مسلمة في موسم التفاح. كنا نأكل وننام تحت سقف واحد. وكنا نحن الأولاد نلعب ونصلي معًا. شاهدنا أمهم تصلي. ورافقونا إلى الكنيسة. اثنان من الصبيان تزوجا فيما بعد من فتاتين مسيحيتين، ولم يخفيا تقديرهما لتأثيرنا على قرارهما. ما رافقناهم نحن إلى الجامع. ففي لبنان يومها ما كان يُسمح للنساء بدخول المسجد. دخلت الجامع لأول مرة في سيدني. وهذا دليل آخر على انفتاح الجالية الإسلامية وتساهلها في ظل أجواء التعددية الثقافية التي تنعم بها أستراليا.

          كانت تجربة الطفولة مهمة جدًا في تمهيد الطريق أمامي لمسيرة أطول في قبول واحترام الآخرين كما هم. وتوصلت إلى قناعة بأنه دون معرفة الآخرين لا يمكن أن نعرف الذات. وهكذا ابتدأت مسيرتي الفكرية لتعزيز هذه القناعة.

          ما كانت سنوات شبابي ودراستي الجامعية في لبنان دون تحديات. في الجامعة، بدأت أعرف لماذا يرفض شاب مسلم مصافحتي مثلاً؟! أو لماذا تغطي فتاة مسلمة شابة شعرها حتى ولو بـ «إيشارب» ملون شفاف؟ كنت أسأل عن السبب وأقبل اختيارهم وأحترمه. وبقيت صديقة لكثير من المسلمين من الجنسين على الرغم من خطوط الحقد والنار التي كانت تمزق وطننا الحبيب.

          ابتدأت الحرب حرفيًا في صفنا عندما تقاتل شابان من طلاب الصف. كانا من حزبين سياسيين مختلفين وصدف أن أحدهما مسيحي والآخر مسلم. ولم تتمكن أهوال الحرب والقتل على الهوية، والمجازر المدنية التي طالت المسيحيين والمسلمين على السواء من تغيير قناعتي بأن الصراع الدموي لم يكن حربًا بين المسيحية والإسلام مهما حاولت الحروب الأيديولوجية والدعايات السامة تصويره على هذا الشكل.

          كثير من مدرسينا في الجامعة - مسيحيين ومسلمين - ساهموا في توعيتنا على هذه الحقيقة. أذكر منهم ميشال عاصي أستاذ الجماليات وفلسفة الفن، كان على ما أعتقد ينتمي إلى طائفة الروم الكاثوليك الملكيين، وكان متزوجًا من امرأة مسلمة. وأذكر أيضًا الشاعر أدونيس (علي أحمد سعيد). بسلوكهم الشخصي وجهودهم الفكرية تمكن هؤلاء في السنة الأولى من الحرب، وعلى الرغم من الدعاية السامة التي كان يبثها بعض الأساتذة المتعصبين، من توجيهنا نحن الشباب - مسلمين ومسيحيين - في المسيرة الصعبة، مسيرة التسامح والتساهل واحترام الغير. سمعت فيما بعد أن ميشال عاصي توفي بنوبة قلبية خلال الحرب الأهلية. أما أدونيس فيعيش في منفى اختياري في أوربا منذ سنوات.

          خلال الحرب تطوعت للعمل مع الصليب الأحمر اللبناني. ويدًا بيد، وجنبًا إلى جنب مع عدد كبير من الشباب المسيحيين والمسلمين الذين يشاركونني إيماني بإنسانية الإنسان، ساهمت قدر إمكاني بالمجهود الإنساني لتخفيف آلام الأبرياء من اللبنانيين بغض النظر عن هويتهم أو انتمائهم. لا يمكنني أن أصف شعوري يوم بلغني أن فرع الإسعافات الأولية في الصليب الأحمر تبنّى شعارًا أطلقته أنا في أحد مخيمات التدريب كشعار عام له: «لكل إنسان في كل مكان».

المعلم والموجه

          في أستراليا - متعددة الثقافات - تأكد إيماني بقيمة الإنسان. بعد فترة قصيرة من وصولي، بدأت العمل الاجتماعي الطوعي مع الجالية اللبنانية والعربية. وساهمت بتواضع في بعض النشاطات لخدمة الأستراليين العرب واللبنانيين - مسلمين ومسيحيين - في مجالات التربية والعمل والشبيبة والمرأة والإعلام. واستأنفت دراستي الجامعية في قسم الدراسات العربية والإسلامية بإشراف أكاديمي عربي مسلم ذي أخلاق علمية عالية، ومعرفة واسعة بالإسلام والمسيحية. وكان لي بكرمه وحكمته واتساع أفقه أفضل معلّم وموجّه.

          هو الذي قادني في مسيرتي الفكرية وعرّفني على عدد من المفكرين الإنسانيين العرب المسيحيين والمسلمين الذين يؤمنون مثله بقيمة الإنسان والإنسانية فوق كل شيء. من هؤلاء أذكر بشكل خاص أمين الريحاني وإدوارد سعيد. كل منهما كان أمريكيًا عربيًا. ولكن نشاطهما وأعمالهما الفكرية تعكس التزاما متكافئًا بقضايا المجتمع العربي وبقضايا الإنسان في العالم. كيف وصلا إلى الالتزام بالإنسانية؟ وهو ما يعنيني في حديثي هذه الليلة.

          كان أمين الريحاني مفكرًا متعمقًا وأديبًا واقعيًا وناشطًا اجتماعيًا وسياسيًا كرّس حياته الفكرية لمد الجسور بين الثقافات: الشعوب العربية فيما بينها، وبين المسيحيين والمسلمين وبين الشرق والغرب. كان الريحاني مارونيًا لبنانيًا بالولادة. من أهم شعاراته: «أنا لبناني في خدمة البلاد العربية وكلنا منها وأنا عربي في خدمة الإنسانية وكلنا منها». بمثل هذا الزخم والاعتزاز والشجاعة التي لا تتزعزع دعا الريحاني غيره من العرب المسيحيين والمسلمين للتمثل به.

          هذه الرؤيا الإنسانية تبناها الريحاني كردة فعل إيجابية على مسيرته الفكرية عبر الثقافات وتكوينه في عالمين مختلفين: الشرق والغرب. ودون شك لم تخلُ مسيرة حياته الذاتية والفكرية من الألم. لكنه ما فقد الأمل على الرغم من الصعوبات. وما وفّر جهدًا لإقامة التوازن في انتمائه إلى الشرق والغرب معًا في عملية ديناميكية تهدف إلى جمع العالمين من أجل خير كل منهم وخير الإنسانية جمعاء.

          كان الريحاني يتمنى أن يرى العرب في موقعهم الحقيقي يساهمون في الحضارة الإنسانية ويلعبون دورًا مهمًا على المسرح العالمي. والتزم برؤية مجتمع عربي جديد قائم على العقلانية وأسس عالمية أخرى للتقدم الإنساني: أسس الحرية والعدل والمساواة بغض النظر عن العرق أو الدين أو الجنس (رجل/امرأة) أو الطبقة الاجتماعية.

الثورات لا تساعد

          ما تعب الريحاني من الدفاع عن مبادئه الإنسانية عبر حملة طويلة الأمد - وطويلة النفس - للتوعية الاجتماعية. سنة 1929 كتب في رسالة لرئيس الجامعة الأمريكية في بيروت: «الثورات لا تساعد. التربية هي الحل الوحيد. عندي فكرة أن أفتح بيتي في الفريكة لعشرة أو اثني عشر زائرًا من خريجي جامعات مختلفة ليشاركوني حياتي وآرائي وآمالي. أريدهم أن يكونوا من خلفيات دينية مختلفة ليعيشوا في بيتي. سأقدم لهم حديثًا يوميًا عن حقبة أو أخرى من أهداف الأمم السامية. سنناقش عددًا من المواضيع الدينية والاجتماعية والسلوكية والاقتصادية والفنية. وحدة الله ستكون أساسًا تعليميًا دينيًا. كل زائر سيبقى منتميًا لدينه. والدين الحقيقي الذي سنمارسه سيقوم على أساس أخوة الإنسان. أما السياسة الضيقة فستبقى خارج الحلقة». (من رسائل أمين الريحاني غير المنشورة - الترجمة عن الإنجليزية للكاتبة).

          كان الريحاني أول مسيحي عربي ترجم الثقافة العربية والإسلامية للغرب، وأول من مثّل أو حكى بلسان العرب والمسلمين في الغرب، خاصة في الولايات المتحدة الأمريكية. في عصرنا الراهن، يقوم بهذه المهمة أحد أهم المفكرين في العالم، إدوارد سعيد الذي، حتى بعد موته، مازال أبرع وأشجع المدافعين عن العرب والمسلمين والإسلام في الغرب منذ أكثر من ثلاثين سنة.

إدوارد سعيد وفهم القرآن

          كان إدوارد سعيد مسيحيًا من القدس. درس ودرّس في الولايات المتحدة منذ الخمسينيات. ولسنوات عديدة كان المدافع الأكبر عن القضية الفلسطينية في أمريكا. وبسبب التزامه هذا ودفاعه عن الإسلام والعرب والمسلمين اتُّهم بأنه أستاذ و«بروفسور الإرهاب».

          ينطلق إدوارد سعيد في دفاعه من أن في الغرب فكرة قديمة عن الإسلام تصوّر المسلمين والعرب على أنهم يشكلون الخطر / التهديد «الآخر» وتصفهم بالتعصب واللاعقلانية والعنف والشهوانية وغير ذلك. ويقول إدوارد سعيد إن هذه الصورة متأصلة في الغرب، لأنها تنطلق من أصول دينية تعتقد أن الإسلام منافس للمسيحية وفي صراع معها.

          طبعًا لا يتجاهل إدوارد سعيد الحقبة التاريخية الطويلة التي سيطر خلالها المسلمون على أوربا. ولكنه يرى أن استمرار التصور الخاطئ للإسلام تعود أسبابه إلى ما يسميه هو بالاستشراق، حيث ارتبطت دراسة الإسلام خلال الحقبة الاستعمارية بسياسة الهيمنة الغربية على العالم الإسلامي.

          يشدّد إدوارد سعيد على ضرورة دراسة القرآن لفهم الإسلام. ويحث المؤسسات والمعاهد التربوية والجامعات الغربية على تدريس القرآن واللغة العربية لمعرفة الإسلام والعالم العربي والعالم الإسلامي معرفة حقة. وينتقد إدوارد سعيد وسائل الإعلام الغربية التي تصدر تعميمات غير عقلانية لمهاجمة الإسلام - والعرب خاصة - لأنهم يقاومون الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين. وهكذا يبدو الإسلام في الغرب كما تصوره وسائل الإعلام والأكاديميون والمؤسسات الحكومية، مرادفًا للإرهاب والهستيريا الدينية. وفي الوقت نفسه يفضح إدوارد سعيد الحكومات العربية والإسلامية التي تستغل الإسلام لتبرير استمرار هيمنة أنظمتها غير الديمقراطية.

          يقول إدوارد سعيد: «من السهل إطلاق التعميمات المجنونة عن الإسلام والمرتبطة بالتطرّف والشر، وبأن ثقافة العرب فاسدة... وغير ذلك. يستحيل في أمريكا اليوم إطلاق مثل هذه التعميمات ضد أي من الأديان أو الإثنيات الأخرى في العالم. وإذا كانت هذه التعميمات مستمرة ضد العرب والمسلمين فالسبب الأساسي يعود إلى غيابهم عن التفاعل الحقيقي مع هذا الجدل الدائر. ليس هناك الآن أي وعي أو سياسة ثقافية للدخول في جدل أو حوار مع «الآخر». حوار الثقافات فيما يخص الإسلام والعرب غائب. إسرائيل تلعب دورًا مهمًا في هذا التغييب... وليس من السهل التفاوض حول هذه المسألة، لأن الطريق مزروعة بالحفر والمطبات السياسية».

حوار الثقافات

          لا شك أنه على الرغم من بعض الصعوبات، خاصة خلال الأزمات، يمكن أن نتتبع تاريخًا طويلاً ومستمرًا من التعايش المسيحي - المسلم في الثقافة والمجتمعات العربية.

          اخترت لفظة «لقاء» في عنوان مقالي بدلاً من «حوار» لأن الحوار - خاصة كما عرفناه في إطار السياسة اللبنانية مثلا - يوحي بالكلام بين طرفين متخاصمين حاقدين بعد عداوة أو اعتداء. وهذا لا ينطبق بأي شكل على منتدانا الليلة أو على المسيحيين والمسلمين في أستراليا.

          مسيرتي الذاتية والفكرية علمتني أننا بحاجة لتمهيد الطريق لمثل هذا اللقاء. والتربية البيتية لها الدور الأساسي في هذا المجال، كما لتأثير الأهل والكبار في حياتنا. مثل هذا التمهيد يُعدّنا لمعرفة الآخرين ومعرفة الذات في الوقت نفسه. ولهذ أعتقد بضرورة تبنّي سياسة ثقافية وإيجاد جو عام من التساهل والانفتاح لهذه التربية. ونحن بحاجة لتنبيه حكوماتنا لأهمية هذه السياسة الثقافية، خاصة مع ما نشهده من تراجع لسياسة التساهل والتعددية الثقافية يومًا بعد آخر.

          الجهل سبب التعصب، والمعرفة فقط تولّد التفاهم: فهم «الذات الأخرى» لفهم «الذات الأولى»، في الأوضاع الراهنة، مع كل ما يجري في العالم اليوم، وما يجري في العالمين العربي والإسلامي، وحوادث شغب وجرائم تورّطت فيها الشبيبة الأسترالية من خلفيات عربية وإسلامية، في هذه الأجواء، نحن بحاجة للتشديد على أهمية دور التربية وحملات التوعية الاجتماعية طويلة الأمد لحل مشاكلنا القائمة فعلاً ولتحسين صورة العرب المسلمين والمسيحيين ولمواجهة الحملات الدعائية المضادة.إلى ذلك، من الضروري أن نحافظ على مواقف الانفتاح واحترام الآخرين بغض النظر عن الفروقات التي يمكن أن تفصلنا، خاصة أن الفروقات الدينية ليست جوهرية ويمكن أن نتغاضى عنها ونتخطاها معًا باحترام متبادل. وفي أستراليا خاصة، هناك قواسم كثيرة مشتركة تجمع بين المسيحيين والمسلمين العرب. هناك اللغة والثقافة، وهناك أيضًا تاريخ طويل من العيش المشترك والتعاون والتقبل المتبادل. وكل العرب تواجههم التحديات نفسها وتجمعهم المصالح المشتركة في الوطن الأم وفي وطنهم الثاني أستراليا. المسيحيون والمسلمون العرب على السواء عانوا الكثير من انعدام الفرص في أوطانهم الأولى، وعانوا فقدان الديمقراطية والحرية وكرامة الإنسان. وقد وجدوا في أستراليا وطنًا ثانيًا وملجأً أمينًا حيث انفتحت أمامهم - الرجال والنساء - فرص جديدة لهم ولأولادهم، أجيال المستقبل.

 

نجمة حجّار