ما بعد الفكر الغربي.. د. شوقي جلال

ما بعد الفكر الغربي.. د. شوقي جلال
        

جسدت المركزية الأوربية تلك النزعة للهوية، هذه النزعة الغربية بكل انحيازاتها منذ ما عرف باسم التنوير والنهضة. وتجلى هذا الانحياز في الفلسفة والاقتصاد والدراسات الاجتماعية وفي السياسة والتاريخ... إلخ. وظل الغرب على مدى القرون الخمسة الأخيرة هو مصدر إنتاج الفكر والثقافة والعلم والتكنولوجيا.

          قرون خمسة والغرب هو القوة المهيمنة اقتصادًا وفكرًا وثقافة وعلمًا وتقانة، هو الحداثة، ومنهجه هو التحديث، ومسار الحضارة البشرية على مدى التاريخ مقصده، هو الغاية والروح الكلي، حضارات البشر خطى تمهيدية، خطو على الطريق إليه حيث الكمال على يد الإنسان الأبيض ذي العقل «العبقري المتميز والمتفرد». وصاغ العقل الغربي، في أوربا أولاً ثم الولايات المتحدة معها إطارًا فكريًا صاغ قوانين الفكر الإنساني، وصاغ رؤيته، أو ما زعم أنه قانون الكلية والجوهر وإطار بارادايم Paradigm الحداثة. إذ إن ما يجري في الغرب تجلٍّ لجوهر ينفرد به الغرب دون الشعوب الأخرى، وحداثة الغرب مفهوم كلي، ولا حداثة غيرها، ولا تحديث إلا بالتزام خطى الغرب، ولا فكر أو تفكير إلا وفق قوانين الفكر الغربي.

          واستعاد التنوير الأوربي على مدى القرون 15، 16، 17 وصل ما انقطع بين أوربا والإغريق قديمًا. وزعم من منظوره أن الإغريق هم الفلاسفة والعلماء والآباء المؤسسون والسلف الصالح للإنسان الأبيض. ورأى مفكرو التنوير أن سبيلهم إلى تأكيد هوية أوربا - الإنسان الأبيض، وحقه في الهيمنة على العالم هو تأكيد تفرد الإغريق وإعجازهم. وكان هذا أساسًا للمحورية الغربية. وشاعت على الألسنة عبارات ترسخ هذا النهج بينما بلدان الجنوب شرقًا وغربًا في سبات أو خاضعة لهيمنة الغرب فكرًا وثقافة وسياسة واقتصادًا.

          مثال ذلك عبارة قالها سير توماس هيث وسلمت بصوابها شعوب الجنوب دون نقد مما أكد لديهم مشاعر الدونية. يقول سير توماس هيث في كتابه «الرياضيات عند الإغريق» (أكسفورد 1921): «ترى ما تلك الملكة الخاصة التي تميز بها الإغريق في مجال الرياضيات»؟ ويجيب في ثقة: «إن الإغريق، دون شعوب العالم قاطبة، توافر لديهم حب المعرفة من أجل المعرفة ذاتها، والحقيقة الجوهرية أن الإغريق سلالة مفكرين». ويقول أرنولد ريمون في كتابه الصادر عام 1927: «العلم عند الإغريق في العصر القديم»، «بالمقارنة بالمعارف الخبرية المتناثرة التي بذلت شعوب الشرق جهودًا مضنية لجمعها على مدى قرون طويلة يؤلف العلم عند الإغريق معجزة حقيقية بكل معنى الكلمة». وهكذا أصبح عقل الغرب قيدًا ثقيل الوطأة يكبل فكر شعوب الجنوب قبل التحرير.

صحوة الشـرق

          ولكن مع خمسينيات القرن العشرين حررت شعوب المستعمرات في الجنوب، وتجلت أزمة الأنا (الغرب) والآخر (الشعوب المحررة). وتفاقمت الأزمة في وجدان مفكري الغرب. وسعت بعض شعوب الجنوب، مثل الصين والهند، إلى تأكيد ذاتيتها ضمن مسارها النهضوي، وإلى استعادة ماضيها وإعادة كتابة تاريخها وتمحيص تراثها. وبدأ الغرب يتأمل ذاته في مواجهة الآخر الحادث الجديد. وظهرت تيارات فكر ما بعد المودرنزم أو ما بعد التنوير تنقد وتفند إطار فكر التنوير والمحورية الغربية. ورفضوا القول بالنزعة الكلية وإنما قالوا بالنسبية الثقافية. ورفضوا القول بجوهرية ثقافة أو عرق أو سلالة، وإنما هناك تفاعل وتكامل بين المجتمعات، وشمل النقد والتفنيد علوم وفلسفات الغرب.

          واتسع أفق الدراسات النقدية لفكر التنوير وعلوم الغرب باتساع آفاق المجتمعات الإنسانية الناهضة. وألقت مجتمعات شرق وجنوب آسيا بثقلها في ساحة الفكر تجسيدًا لثقلها النهضوي في تطوير مجتمعاتها. وأصبح فكر أبناء آسيا موضوعًا للتفكير. وتوصل الباحثون إلى نتائج مثيرة في مجالات العلوم المختلفة بما في ذلك المنطق، أي قوانين الفكر.

          وبرزت قضايا نوعية جديدة موضوعًا للدراسة والحوار داخل مدارس الفكر العالمي. ماذا عن الوجه الآسيوي للفكر وكيف سيكون تأثيره؟ هل صعود شرق وجنوب آسيا سيؤدي إلى إعادة تشكيل الإطار الفكري ضمن إعادة تشكيل المنظومة التاريخية للعالم؟ هل البشرية بسبيلها الآن إلى تغيير أسس وقوانين الفكر جذريًا؟ هل أصبح لزامًا مراجعة أسس الفكر الإنساني؟

          إن إحدى مسلمات فكر التنوير الغربي أن أنماط الفكر البشري واحدة، أينما كان البشر في الغرب أم في الشرق. وساد هذا الاعتقاد كقانون حاكم للفكر، وأن طبيعة الفكر البشري كونية أو كلية. معنى هذا أن الناس أينما كانوا وأيًا كانت ثقافاتهم يفكرون ويستقرئون ويستدلون وفق منهج ومنطق واحد، ويصنفون الوجود ويرونه ويدركونه على نحو نمطي واحد. هل هذا صواب كليًا؟

          عشنا قرونًا نؤمن بأن العقل - الفكر واحد بين البشر، وأن منهج التفكير الصحيح أو المنطق واحد في كل زمان ومكان، ورؤيتنا للعالم واحدة. وظلت السيادة للفكر الصوري الأرسطي، منذ الإغريق، إذ كان هو القاعدة والمرجعية، ثم ظهرت معه ومن بعده منذ عصر النهضة مدارس منطقية إضافة إليه وتحديدًا لمجال تطبيقه دون أن تنفي أو تعدل بعض أسسه ومبادئه. ذلك من مثل قانون أو مبدأ عدم التناقض الذي يفيد أن القضية لا تكون صادقة وزائفة في آن واحد، ويمتنع أن يوجد الشيء وألا يوجد في آن واحد، أو من حيث علاقة الجزء بالكل والقول إن العالم مؤلف من أجزاء، وأجزاء اليوم هي أجزاء الأمس والغد. ناهيك عن القول بالحتمية والموقف من الفعالية الإنسانية.

          ولكن هل آن لنا أن نسمع ونقرأ عن نهاية أو ما بعد مدارس المنطق الغربية وتظهر مدارس جديدة لمنطق جديد؟

          إن النظرة الاستقصائية النقدية لعالمنا تكشف عن أن العالم مع مفتتح القرن الواحد والعشرين أصبح ظاهرة فريدة جديدة غير مسبوقة، ظاهرة حبلى بالتناقضات والنذر والبشائر وكذلك بتحولات نوعية في مسيرة تطور البشرية.

          ولقد كان القرن العشرون جسرًا نحو عالم جديد كل الجدة من حيث الآفاق والقدرات والإمكانات والإنجازات والفعاليات التي تهيأت للبشرية.

          شهد القرن العشرون أخطر ثورة ثقافية، ثورة كونية الأبعاد والأصداء، لا تزال آثارها آخذة في الامتداد والتسارع، حتى ليمكن القول إن الفكر الإنساني يشهد بدايات تحول جذري من حيث الأسس والنطاق والمناهج. النظرة السريعة تؤكد أن العالم الآن مخاض تحول جذري، إننا نعيش مرحلة انتقال، أو لنقل مرحلة فراغ انتقالي من طور إلى طور، فراغ مرحلة انتقال من تقليد سابق إلى تقليد لاحق. هذه المرحلة ساحة تفاعل بين تناقضات جديدة عميقة على الطريق نحو طور نوعي جديد.. وضاعف من هذه الثورة الثقافية أنها اقترنت بتطورات علمية وتكنولوجية وكأنهما معا على موعد لتمتد الآثار إلى أبعاد الكوكب ولكي تنفذ إلى أعماق الوعي الإنساني، ويضعان البشرية مع مستهل ثورة كونية في الفكر والثقافة والاتصال والعلوم.

          وتتجلى أهم أبعاد الثورة العلمية والتقانية في ثورة الاتصالات والمعلومات وثورة المعرفة من حيث الكم المنتج ومن حيث الكيف، الذي تبذل العقول المنتجة للفكر جهدها لصوغه نسقيًا وملء الفراغ الحادث. وأضحت البشرية تدرك أن ما كان حتى بضعة عقود فكرًا حداثيًا بات تقليدًا باليًا، ويلزم عليه إفساح الطريق لفكر جديد ونظريات جديدة. ويعني هذا أن البشرية إزاء مهام تاريخية جديدة هي صياغة ثورية إبداعية لنظريات تنسق الحصاد الجديد وتفسر الرؤى الجديدة وتتنبأ بما تحمله الأيام من تأثيرات. ويلح أهل الفكر المستنير على ضرورة أن تنضو البشرية عنها ثوب التقليد على طريق التكيف والملاءمة فكرًا وعملاً مع واقع متطور جديد، وأن تصوغ فلسفة تنويرية جديدة، وبناء محيط عقلي كوكبي ملتزم بقيم جديدة وفكر إنساني أصيل، جامع بين البشر دون تمييز.

          ويواكب هذا الواقع والوضع جهود جديرة بأن نصفها بأنها جهود فاصلة تدعو إلى أن العالم كله بصدد أن يمثل مخًا كوكبيًا واحدًا متآزر الفعالية والجهد يتعين أن يكون أداة تكيف لصالح الإنسانية جمعاء. ويدعو هؤلاء إلى ضرورة التزام نهج كوكبي جديد في إبداع واستثمار المعارف الجديدة في إطار من التعاون البشري والفعالية الفردية والاجتماعية معًا، والمشتركة بين الناس على قدم المساواة. وعلاوة على الجهود من أجل ظهور مخ كوكبي، يدور الحديث عما يسمى المصادر المفتوحة على نطاق شبكة فضائية كوكبية للمعلومات، أي إتاحة مصادر المعرفة لجميع أهل الفكر والإنتاج عبر الشبكة الفضائية (الإنترنت) على صعيد العالم. ويرى هؤلاء أن هذه سبيلنا الوحيدة لخلق تضامن عالمي وتعاون إنساني في ظل من الشفافية لبناء مجتمعات ينتفي فيها طغيان أحد على آخر فيما عدا العاطلين من قدرات الإبداع والإنتاج.

التحرر الوطني ومسألة الهوية

          وتجسدت أيضًا الثورة الثقافية الكونية، التي انطلقت مع انتصاف القرن العشرين في اتساع نطاق حركة التحرر الوطني، ونتائج ذلك ثقافيًا أن استعادت شعوب ومجتمعات كثيرة حريتها في آسيا وإفريقيا وفي أمريكا الجنوبية. وشرعت غالبية هذه الشعوب في بذل الجهد وفق استراتيجيات واضحة لكي تستعيد ذاكرتها التاريخية وثقافاتها التقليدية والتكيف مع حضارة العصر. وفرضت هذه الجهود قضية الهوية القومية في سياق جديد تأسيسا على رؤى نقدية لفكر الغرب. لم تكن حقبة التحرر الوطني مجرد تحرر سياسي أو اقتصادي فقط، بل حقبة شك في كل ما صاغه الغرب عن هذه المجتمعات تاريخًا وثقافة وهي الحقبة المعروفة باسم ما بعد الكولونيالية. وبدأت الغالبية في إعادة كتابة تاريخها من وجهة نظرها ليمثل هذا ثروة إضافية نقدية لفكر الغرب. وانطلقت على طريق البحث عن الذات وتأكيدها كثقافة تاريخية وفعل عصري إبداعي متطور في ضوء تأويلات جديدة لتغدو ثقافة عصرية وامتدادا حضاريا وثيق الصلة بالتطور الاجتماعي والتكيف مع البعد العالمي الجديد. وظهرت نظريات نقدية تحدثنا عن النسبية الثقافية ضد الرؤية الغربية المطلقة عن ثقافة الحداثة كثقافة واحدة كلية مطلقة.

          وأصبح العلم ساحة صراع فكري ضد السرديات الكبرى على لسان منهج جديد يحمل اسم ما بعد المودرنزم، أو كما شاع عنه «ما بعد الحداثة»، وزخرت الساحة برؤى نقدية للفكر الحداثي الغربي ويصفه البعض بالفكر الغربي التقليدي.

          وتهاوت نظريات وفلسفات وقوانين صاغت إدراكاتنا وعقولنا. وأصبحنا نعيش عصر النهايات والمابعد، نهاية السرديات الكبرى، ما بعد المودرنزم، نهاية الاشتراكية، نهاية الفلسفة، نهاية القوميات، إلى آخر ذلك داخل سياق من فراغ البحث عن جديد يكفل مرحليًا سداد الرأي والرؤية لعالم متداخل - عولمة لعالم بات قرية، ولكن بلا ضابط أو قوانين.

ثورة ثقافية كونية

          وتهيأت بفضل الثورة الثقافية الكونية وبفضل التطورات العلمية والتقانية فرص الاطلاع على ثقافات الشعوب من زوايا جديدة ووفق مناهج بحث علمي، معنى الثقافة وتطورها وتنوعها والإبداع الثقافي وكيف نفكر وأسس التفكير مع اختلاف الزمان والمكان. وأدى هذا الوضع الكوكبي إلى زيادة الشفافية وعرفت الشعوب بعضها، وإن اقترن هذا الواقع بنقيضه، إذ تكثفت العداوات الإثنية والثقافية، واقع جمع بين انفتاح وانغلاق في آن واحد، انفتاح إعلامي وثقافي وعلمي وثورات انغلاق ثقافي على الذات، وردة إلى ما يعرف بالأصولية أو السلفية هي ردة دفاعية عن الذات. وصاغت هذه الإنجازات والتناقضات معالم ظاهرة جديدة لعالم جديد يستلزم منهجًا بحثيًا جديدًا وفكرًا جديدًا.

          وإذا كان الاتصال هو أساس الاجتماع ومنطلق نشوء الرمز - اللغة، مع ظهور الهومو سابينس أو الإنسان العاقل منذ قرابة مائتي ألف سنة، ثم كان الاتصال المكتوب ثورة جديدة لطور جديد، فإن لنا أن نتوقع أن تكون ثورة الاتصالات الجديدة إيذانًا بنقلة كيفية في مجالات كثيرة: الاجتماع واللغة - الفكر، الفنون، وظهور منظومة ذهنية جديدة.

          فتحت حركات التحرر الوطني والبعث الجديد لشعوب الشرق وأمريكا الجنوبية مجالات بحثية جديدة تكشف عن أن الإنسان - المجتمع، العالم ظاهرة جديدة. عكف علماء الغرب وعلماء المستعمرات السابقة على دراسة هذه الظاهرة في مجالات الثقافة والفكر وتطورهما في الزمان والمكان، وقالوا ورثت الإنسانية عن الغرب صياغات أو نظريات عن العالم وميتافيزيقا العالم والمعتقدات الأساسية عن طبيعة العالم، وطرحوا أسئلة كثيرة هي من وحي الواقع الجديد المتنوع.

تمايز الفكر مع التنوع الثقافي

          في ظل هذه التساؤلات والتناقضات والتطورات العلمية والعالمية عكف باحثون قليلون جدًا على دراسة العالم، الظاهرة الجديدة. ونذكر كمثال كتاب «جغرافية الفكر» تأليف عالم النفس الثقافي ريتشارد نصيبيت أحد هذه الجهود البحثية العلمية الرائدة. والكتاب فريد جديد في موضوعه ونتائجه. إنه كما وصفه البعض صيحة انتباه أو دعوة استيقاظ للبشرية كي تصحو من سبات فكري أو غفلة فكرية امتدت قرونًا لتفهم حقيقة جديدة عن الفكر البشري. ويحاول المؤلف الإجابة عن تلك التساؤلات، التي تشكّل محورًا مهمًا لدراسة الفكر، والتي أسلفنا بعضًا منها.

          ويخلص الكتاب إلى نتائج تشكّل في مجموعها قواعد جديدة لرؤية نقدية بنّاءة لثقافة الغرب وللثقافات جميعًا في الشرق والغرب على حد سواء وصولاً إلى تفاهم مشترك وإلى فهم جديد. فهم نقدي جديد لذواتنا الاجتماعية في التاريخ، ولقضايانا الساخنة عن الهوية والتراث.. إلخ، وفهم نقدي جديد لتحولات عالم بات صغيرًا جدًا تكثف فيه الزمان والمكان، وتكاثفت وتكافأت فيه النقائض، التي تكاد تصدع وعي ووجود الإنسان، يعيش الإنسان بوعيه وفكره عالمًا تلاشت فيه حدود التباعد والغربة بفضل ثورة الاتصالات، ولكنه يلوذ بنفسه وبذاته العرقية، وبتاريخه دفاعًا أو دفعًا خشية الذوبان، أو خشية تلاشي ذات تاريخية هي حصاد تكوينه الاجتماعي التاريخي أو أساس شعوره بكيانه في الزمان والمكان.

          ويكشف الكتاب تمايز أنماط التفكير وتباين قواعده وقوانينه بفعل ثقافات هي حصاد تفاعل إيكولوجي بين الإنسان/المجتمع - البيئة، أي بسبب تفاعل الإنسان - المجتمع من أجل صناعة وجوده في بيئته الطبيعية والثقافية على مدى بعدي الزمان والمكان. ويحاول البحث تجريبيًا الإجابة عن شواهد عدة ذات دلالة مثل السبب في تميز الصينيين القدامى في الجبر والحساب دون الهندسة، التي كانت قلعة الإغريق. وامتد هذا التميز مع الأجيال حتى أن الطلاب الآسيويين المحدثين يثبتون تميزهم على طلاب الغرب في الرياضيات والعلم، ولكنهم دون الغربيين في المعارف ذات الطبيعة الثورية، بمعنى أنهم أميل إلى المحافظة من الغربيين. وأوضحت تجاربه أن الغربيين أقدر نسبيًا من الآسيويين الشرقيين على إدراك الجزء مستقلاً عن الكل، وفصل الموضوع عن الإطار المحيط به. هذا على عكس الآسيوي الشرقي لا يرى الموضوع ولا يفهمه إلا في سياقه.

قوانين الفكر هي عادات ثقافية

          ومن طرائف أبحاثه التجريبية أن الأطفال في الغرب يتعلمون الأسماء أسرع من الأفعال على عكس أطفال شرق آسيا، ويسأل عن دلالة ذلك ثقافيًا وبيئيًا. وينزع الغربيون إلى تطبيق المنطق الصوري عند الاستدلال في شئون حياتهم اليومية، وقد يوقعهم هذا في أخطاء. بينما ينزع أبناء شرق آسيا إلى النظر في القضايا وفهمها في إطار تناقضاتها مما يعني اجتماع النقيضين وصولاً للفهم. وساعدهم هذا على الوصول إلى الحقائق.

          معنى هذا أن ما ظنناه قواعد وقوانين الفكر هي عادات وليست قوانين كلية فطرية، إنها منظومات أو أنساق ترسّخت قرونًا بفضل هذا التفاعل، وتباينت شرقًا وغربًا بسبب تباين هذا التفاعل زمانًا ومكانًا ومحتوى ونهجًا. ينزع أبناء شرق آسيا إلى الالتزام بالجدل في الفكر أي الجمع بين النقيضين، إذ يلتزمون بالمبادئ المنطقية، التي تتعارض مع النزعة الجدلية في فكر شرق آسيا. مثال ذلك قانون الهوية الذي يقرر أن الشيء هو هو وليس آخر، يؤكد قانون الهوية على الاتساق بين المواقف: (أ) هي (أ) بغض النظر عن السياق؟! ويحدد قانون عدم التناقض أن (أ) وليس  (أ) مستحيلان معًا؟ بينما النظرة الكلية عند أبناء شرق آسيا على النقيض من هذا، إذ ترى أن (أ) في سياق ما غير؟ (أ) في سياق آخر؟!

          إن ما نسميه قانون أو مبدأ عدم التناقض والذي يقرر أن الشيء ونقيضه لا يجتمعان أو أن القضية لا تكون صوابًا وخطأ في آن واحد، ليس قانونًا عامًا للفكر البشري، كما تؤكد ذلك دراساته عن الفكر والتفكير في شرق آسيا ومقارنته مع الفكر والتفكير في الغرب. إنه عادة ثقافية. ومن ثم يدعو إلى بذل الجهد لوضع منطق جديد. ويؤكد أن فهم العمليات الفكرية للثقافات الأخرى، والذي يفرضه فرضًا واقع جديد نسميه العولمة، يمكن أن يكون بداية لفهم جديد غير ما فرضه الفكر الغربي زمانًا.

          ويلزم عن هذا بيان أن تغيير عادات الفكر - اللغة، يعني تغيير رؤية الناس للعالم، أو تغيير صورة العالم في الأذهان، وإعادة بناء المنظومة الذهنية، وتغيير العمليات المعرفية، وهي أمور ترسخت مع معتقدات وثقافات المجتمعات. وهذا لا يعني تحجّرًا وجمودًا وعدم قابلية للتغير، بل هو نفي صريح لذلك. إنه تأكيد لصورة أخرى عن البشرية والفكر والتفكير، إنه انفتاح على التنوع في تطوره التاريخي. ذلك أن الإنسان والفكر كل منهما عملية حية إيكولوجية أي ثمرة تفاعل عوامل متداخلة اجتماعية وطبيعية وثقافية، وصولاً إلى بناء ما اصطلح على تسميته الموطن الملائم niche construction، الذي هو مرحلة تكيفية في مسيرة تطور مطرد. إنها شكل من أشكال التكيف التي اختلفت وتنوعت زمانًا ومكانًا لعوامل عدة، وقابلة للتغير بفضل أو بسبب عوامل أخرى جدت على الساحة. وحري أن نفهم في هذا الإطار معنى تباين التراث والثقافة والفكر في بعدي الزمان والمكان على الصعيد المحلي والإقليمي والدولي.

العالم أسماء؟ أم أفعال؟

          ويقتضي هذا الفهم الجديد التحرر من هيمنة أطر أو أنماط فكر تقليدي غربي أو موروث، وأن نفسره تفسيرًا علميًا نقديًا. ويقتضي كذلك العمل على صوغ سياسة تعليمية هدفها بناء عقول يكون أساس تفكيرها مرونة دينامية، وانفتاحًا على الآخر، وشفافية وقدرة منهجية على فهم المشكلات مع الإيمان بالإنسان وبمشروعية التنوع والاختلاف على صعيد فردي ومحلي، وعلى صعيد كوكبي، مما يهيئ أساسًا لوعي كوني، أو كما يقال صوغ محيط عقلي تنويري جديد... بناء عالم جديد أو ثورة فكرية لعقل جديد غير منغلق على ذاته، بل عقل يسع الكون برحابته تأسيسًا على تفكير علمي أو عقلانية نقدية.

          وأرى في هذا الحصاد الجديد الفريد من الدراسة عن الغرب، وعن الشرق الأقصى، دعوة لنا نحن العرب لكي نتأمل واقعنا الثقافي، وتراثنا في ضوء دراسة عقلانية نقدية تجريبية. ويفتح هذا النهج مجالاً واسعًا لدراسة العقل أو الفكر العربي: كيف يفكر العربي، وكيف يرى العالم، وما هي الجذور الثقافية للمعرفة وللتفكير العربي ورصيده التاريخي الفاعل والمؤثر؟ ما المنظومة الذهنية الحاكمة للفكر العربي وخاصية هذه المنظومة من حيث المرونة والدينامية والقدرة التفاعلية مع التناقضات، ومن ثم القدرة على التطور والتطوير؟ ما أوجه التمايز والتميز؟ وكيف نغير عادات وأسس التفكير إن كان لازمًا؟ ولماذا نستسيغ فكرًا دون آخر، فيبقى الأول ويترسخ، بينما يذوي الآخر ويتوارى أو يندثر؟ وما أسباب معايير البقاء والتلاشي؟ لماذا - مثلا - شاع فكر الأشعرية أو الغزالي دون فكر ابن رشد أو ابن خلدون بحيث تطور فكرهما على غير أرضهما، أو كما يقال اغتربا عن وطنيهما delocalized ولماذا اطرد نمو فكر الشيعة جغرافيًا في أماكن دون غيرها؟ ولماذا اطرد فكر السنة جغرافيًا في أماكن بذاتها؟ لماذا نرى الحقيقة أو الحق مع البعض ونصم الآذان عن آخرين؟ وما معاييرنا في ذلك وفق المنظومة الذهنية الحاكمة؟ وهل نلتزم بمعايير موضوعية يدعمها العلم؟ هل من أسباب تراثية ثقافية صاغت البنية الذهنية؟ أم أسباب بيولوجية؟ أم لغوية؟ أم اقتصادية؟ أم اجتماعية؟ أم طبيعية؟ أم مركب جديلي من هذا كله؟ وإلى أي مدى تدعم أو تعوّق هذه البنية الذهنية العربية حركة التطوير الحضاري؟ إذن، وفي ضوء هذا، ما نهج التعليم والتشنئة اللازم لنا؟ وجدير أن ننهض نحن بهذه الدراسة بدلا من أن يظل مجالها مساحة صامتة، أو بدلاً من أن ينجزها غيرنا فنكون موضوعًا لا ذاتًا فاعلة. إن البحوث العلمية في الشرق وفي الغرب تمضي سريعًا مكثفة ومتلاحقة في محاولة لفهم جديد للإنسان على أساس علمي تطوري من حيث القدرة والإمكانات والاحتمالات والتحولات، في ضوء واقع كوكبي جديد. وما أحوجنا نحن أيضًا إلى أن نفهم أنفسنا أولاً، وأن نفهم غيرنا على هذا النحو وبعيدًا عن أطر التقليد لبناء إنسان جديد يتصف بمنظومة ذهنية جديدة قرين فعالية نشــطة ومرنة واعية بالمحيط الكوكبي بكل تنوعاته وتناقضاته ثم القدرة على الحركة البنّاءة والتكيف المطرد وسط هذه التناقضات والتحديات، والتزاما بدعوة تنويرية إنسانية شاملة، إنسان جديد، وفكر جديد، لعالم جديد.

 

شوقي جلال