صدام الـحضارات متى تحين لـحظة الـحوار؟
صدام الـحضارات متى تحين لـحظة الـحوار؟
(الـجزء الثاني) علاقة الإسلام بالغرب مازالت قضية ساخنة, وهي تستمد سخونتها لا من المستوى النظري فقط, ولكن مما يجري على أرض الواقع أيضاً, فالسلاح الغربي مازال يستعرض عضلاته في فلسطين وأفغانستان ومازالت بلدان أخرى تنتظر دورها, كما أن القوائم التي تدين البلدان والهيئات والمنظمات وتتهمها بالإرهاب على غير أساس, مازالت تتوالى, ويواصل منظرو الفكر الغربي الحديث كيل الاتهامات للعالم الإسلامي بأنه ضد الحداثة وعدو للديمقراطية, وحاقد على كل إنجازات الحضارة الغربية, وهم لا يتحدثون - بالطبع - عن قصور النظرة الغربية للآخر عندما يخالفهم في الرأي, ولا عن التحيز الغربي الذي يفتقد لأبسط مبادئ العدالة وهم يتناولون قضايا العالم الإسلامي وعلى رأسها القضية الفلسطينية, فالغرب لايزال يرى العالم من خلال منظار المركزية الأوربية الذي يستمد رؤيته الأساسية من العصور الوسطى دون أن يدرك أن العالم قد تغير, وأن منطق الصراع الذي ساد طويلاً يجب أن ينتهي ليحل منطق الحوار بدلاً منه, وهو حوار نريد من ورائه أن تتفتح العقول وأن تتحرر الأفكار. و (العربي) تقدم في هذا العدد الجزء الثاني من ملفها حول هذه القضية الحساسة, ولكنها لا تقفل باب الحوار, وسوف تبقيه مفتوحاً لكل الآراء النيّرة التي تود المشاركة. ونود أن نشير إلى أن العربي استضافت في الجزء الأول من هذا الحوار كلا من د.حسن حنفي, ومسعود ضاهر, ود. محمد جابر الأنصاري ومحمد سيد أحمد. العربي متى تحين لحظة الحوار? ما جذور تلك الحرب الحضارية التي انطلقت وراء ستار دخان الإرهاب?. ولماذا يحرص الغرب على نفي علاقة الإسلام بالإرهاب ثم يوجه آلته العسكرية ضده? من الغريب والمستغرب أن يتمّ طرح القضايا الوطنية والحضارية والقومية التي هي منّا ولنا وملكنا بدءاً من رؤية الغير, مستعملين المفاهيم والعبارات والمقابلات والشعارات نفسها, وكأنه مكتوب علينا أن نظل في مقام ردّ الفعل, دون الفعل السيادي. نقول هذا بمناسبة استمرار طرح موضوع (الإسلام والغرب), وكأنه يمتّ إلى واقع موضوعي, أو إلى تصوّر علمي, فهل يمكن أن نقيم مقابلة بين دائرة جغرافية ـ حضارية ـ الغرب من ناحية, ودين سماوي عالمي? المقابلة بطبيعة الأمر, يمكن أن تقوم بين المسيحيّة والإسلام أو بين اليهودية والبوذية, أو بين الديانات السماوية الثلاث والديانات المغايرة, أو حتى بين الدين بوصفه دائرة حضارية متميزة ودائرة حضارية أخرى لا تدور حول دين محدد, وإنما حول فلسفة حضارية, كما هو الحال بالنسبة للكونفوشية والتاووية في الدائرة الحضارية الصينية. بديهيات, ولكنها لا تغير الأمر. ما زلنا نتجاوب مع رؤية الغير لنا. والغير هنا هو مجموعة الأمم والقوميّات والدوائر الجيو ـ ثقافية التي منها تتكوّن الحضارة الغربية بأوسع المعاني والتي تجمع قارتي أوربا وأمريكا الشمالية في الأساس: الغير, الغرب, الذي رفع في أيامنا مفهوم (الغرب والباقي) (أي بقية العالم), وشعار (صدام الحضارات. ثم يبدأ مسلسل التضليل. كلما تساءل هذا (الغير) عن حقيقة الأمر, ترتفع الأصوات تشجب احتقار العالم اللاغربي بأنه مجرد (الباقي): أليس هذا (الباقي) هو الذي يمثل ثلاثة أرباع سكان المعمورة? أليس هو الذي يجمع بين دائرة الحضارة الصينية ودوائر الإسلام الحضاري بالمعنى الأوسع ـ وبينهما مجموعة الدوائر الجيوثقافية الهندوسية ـ وبين الامتداد الرئيسي للدين والحضارة المسيحية في أمريكا (الهندية) اللاتينية? ترتفع الصيحات من الغرب تندد بأقوال الغرب, تتصايح: أنه على (الغير) ألا يصدق الغرب, أو بالأحرى: ألا يصدق أبواق لا يعبّرون إلا عن نظراتهم المصطنعة. أي أن الغرب يرفع الشعارات, ويطلب منّا أن نتنكّر لها ولا نقيم لها وزنا. حسناً. قوائم الإرهاب إلى أن تقوم الحرب يوم 8 أكتوبر 2001, بدءاً من الحوادث الدامية يوم 11 سبتمبر. يقال إن الحرب موجهة ضد المفهوم الجديد (الإرهاب العالمي). حسناً. الغريب أن هذا الإرهاب يكاد لا يتخّذ إلا صورة العالم الإسلامي والعربي. هذه مثلا سلسلة قوائم البلدان والمواصفات الإرهابية أوالمتعاونة معها تحدد قائمة المتهمين وكأن الأمر لا غبار عليه ولا تساؤل: العراق, إيران, سوريا, لبنان, البقاع, ليبيا, السودان, الصومال, الحركات الإسلامية في جنوب شرق آسيا وخاصة في الفلبين. القائمة تمتد بطبيعة الأمر إلى الدول التي يطلق عليها (المارقة) وهي تجمع عادة بين كوريا الشمالية والعراق وإيران وكوبا, وتمتد أحياناً إلى القائمة الأوسع المتهمة حديثا بالإرهاب. إلا أن الجديد الأوحد في هذه القوائم, إلى جانب كوريا الشمالية وقد بدأ اليأس يدبّ في قلوب الولايات المتحدة بعد الإيقاع المتعجل للتقارب بين الكوريتين صوب الوحدة ـ الإضافة الوحيدة يبدو أنها تقوم في كولومبيا التي تعتبرها الولايات المتحدة المصدر الأول للمخدرات إلى شبابها الذي يهرع 82% منهم إلى الإدمان. ثم تأتي سلسلة (الفلتان) اللفظية منذ 11 سبتمبر تؤكد (الإرهاب) المستهدف يوماً بعد يوم: عبارات مثل (الحرب الصليبية), (التفوق الحضاري). ولعل ما هو أهم من هذا وذاك الجهد المكثّف لأشد المنادين بالتشدد والتدمير, رئيس وزراء إنجلترا الاشتراكي, بأن لا مزج بين الإرهاب والإسلام, وبين الإسلام السمح والتوجه الإرهابي في القطاعات المتطرفة منه. إن العمل الحربي ضد العالم الإسلامي يأتي من الغرب وحده, بينما تتكاثر صيحات تبرئة الإسلام من كل سوء في العالم الغربي, وكأن سحق أفغانستان وشعبها في حاجة إلى تأكيد أن المستهدف هو شيء آخر يطلق عليه (الإرهاب العالمي) لا جنسية ولا وجهة ولا هوية ولا مركز ولا خيار له. ثم يطالع المسلمون والعرب يوما بعد يوم التصريحات والتحليلات التي يقدمها المسئولون وكذا المفكرون والكتاب, في معظم قطاعات الغرب وخاصة الولايات المتحدة, فتزداد قناعتهم بأنهم هم المستهدفون عبر مأساة أفغانستان. أي أن الدعوة إلى التفرقة والاستكبار ومحاصرة العالم الإسلامي, ثم ضرب قطاع عزيز منه, تتم وراء ستار من الدخان: التبرئة, التنكّر, (اللامعقول), عملية (النصب السياسي) حسب تعبير عمرو موسى الدقيق. من أين, ولماذا, هذا كلّه? يصبح لزاماً علينا هنا أن نسعى إلى الأصول وإلى الصياغة القديمة لما هو قائم, وما يقوله الواقع ولو باختصار شديد. صعود الغرب إن المدخل الأول عبر بوابة التاريخ الأكثر شهرة هو عملية صياغة صعود أوربا, ثم العالم الغربي إلى المركزية في التاريخ الحديث للبشرية بدءاً من القرن الخامس عشر بعد عصر حضارات الإمبراطوريات الثلاث: وهي مصر الفرعونية, الحضارة الفارسية ودولتها, الحضارة الصينية والكونفوشية, وقد دخلت هذه الحضارات رحلة الانزواء تدريجيا. كان ظهور الدعوة المسيحية على أرض فلسطين بداية لمحاولة تجميع للمؤمنين بالمساواة والمحبّة والتوحيد في قلب الإمبراطورية الرومانية المتغطرسة... وقد تم ذلك خلال قرون ثلاثة, حتى أصبحت الكنيسة وخاصة الكنيسة الكاثوليكية الغربية, في مقابل الكنيسة الأرثوذكسية الشرقية ومركزها مصر القبطية, هي القوة الرئيسية لتحريك الأمر في دائرة حوض البحر المتوسط, وقد حلّت محل ما تبقى من رموز الحضارات القديمة. ثم تلا هذه المرحلة ظهور الدعوة الإسلامية وانتشارها بشكل واسع عبر قرن ونصف القرن من المغرب إلى آسيا حول محور مصر ـ الشام. كان طبيعيا أن يحدث تلاحم أو صدام أو تواكب ـ في دائرة حوض البحر الأبيض المتوسط ـ على كل حال عملية كبرى للجدلية التاريخية, وقد تمت بالفعل. اتخذت هذه الجدلية التاريخية شكل التبشير, ومن ورائه الحروب ذات الطابع الديني, أي الحروب الصليبية وتسميتها حروب الفرنجة. وفي هذه المرحلة بالغة الأهمية ـ العالم بين القرنين الثالث والسادس عشر الميلادي ـ التي ظلت بعيدة عن إدراكنا حتى قريب, ظهرت دوائر أربع يمكن أن يطلق عليها دون مبالغة أنها دوائر إقليمية للمجتمع الدولي المتصاعد: أ ـ دائرة الإسلام التقليدي العربية الفارسية في شمال إفريقيا وشرقها, وكذا جنوب غرب آسيا. ب ـ دائرة نصف القارة الهندية وكانت ثقافاتها دائما هندوسية بينما كان الحكم السياسي فيها للإسلام. جـ ـ دائرة آسيا الوسطى من جبال أوراس إلى المحيط الهادي, وهي الدائرة المنغولية في الأساس, والتي اتجهت بعد القرن السادس عشر إلى القيادة الإسلامية. د ـ دائرة الحضارة الصينية الشامخة بشكل متصل في شرق وشمال شرق وجنوب شرق آسيا. أوربا وإخضاع العالم لقد قامت دول أوربا الرأسمالية بعمليات عسكرية لإخضاع العالم إلى إمرتها بعد إنهاك الأمة الإسلامية ونهاية الأندلس (1492): أمريكا الوسطى والجنوبية أولا, ثم استنزاف الطاقة البشرية لإفريقيا السوداء (بين القرنين السادس والتاسع عشر), وأخيراً آسيا العملاقة من القرن السادس عشر (الجنوب) إلى القرن التاسع عشر (جنوب شرق آسيا, ثم شرق آسيا حول الصين, وأخيراً اليابان عام 1858). وبينما قامت هذه العمليات الكبرى للاختراق والسيطرة الغربية وإقامة نظام عالمي أوربي المركز, واجهت أوربا ظاهرة غير مرتقبة. ذلك أن مجموعة الشعوب والمجتمعات والدول الإسلامية ظلّت غير راضية بالسيطرة الأوربية وذلك حتى بعد نهاية غرناطة وانهيار الخلافة الأموية ثم العباسية في العالم العربي وانتقالها إلى تركيا. وكذا لاحظت أوربا أن أشد المناطق مقاومة للاختراق الأوربي في آسيا وكذا في إفريقيا, كانت وما زالت هي القطاعات الإسلامية, وذلك بفضل انصهار معاني التوحيد من ناحية والمركزيّة السياسية من ناحية أخرى. وقد تجلى ذلك بوضوح في المغرب والجزائر وليبيا والسودان, وكذلك مصر والشام والعراق في عالمنا العربي, وكذا في آسيا الوسطى وشمال الهند وإندونيسيا وماليزيا. ومعنى ذلك أن الاختراق ومحاولة السيطرة والاحتلال الاستعماري ـ ظل محصورا في دوائر الحكم والمال ولكنه لم ينفذ إلى كسر الإرادة الشعبية وأصبح من الواضح أن هذه الإرادة قامت على أساس ديني ـ حضاري قومي لم تستطع أوربا الرأسمالية أن تتغلب عليه رغم الموجة تلو الموجة من الحملات الاستعمارية ثم الإمبريالية. ثم جاءت ثورات القرن العشرين. تفجرت ثورة 1917 في روسيا القيصرية وأقامت أول دولة اشتراكية في التاريخ. كان من المأمول أن تواكبها مجموعة من الثورات للطبقة العاملة الأوربية المضطهدة. ولكن أوربا الرأسمالية استطاعت أن تستوعب الكثير من الموجات الثورية لجماهير الشعب العامل وذلك بفضل ما تراكم بين يدي قادتها من (فائض القيمة التاريخي) وحصيلة سلب ونهب وتدمير حضارات ودول أمريكا اللاتينية وإفريقيا, وعلى وجه التخصيص الدائرة العربية الإسلامية ثم الآسيوية وهو المفهوم الذي حددناه في مطلع الستينيات. وعلى هذا الأساس, كان من الواضح أن القوى الكامنة لرفض الهيمنة الغربية, أي القوة الثورية إنما توجد في الساحات الخاضعة للسيطرة الاستعمارية حيث توجد مجتمعات ثابتة وقوميّات واضحة وخصوصيات لم تنكسر عبر التاريخ: دائرة آسيا الشرقية حول الصين من ناحية, ثم مجموعة ساحات العالم الإسلامي, أي دائرة الحضارة الإسلامية الآسيوية ـ الإفريقية في الأساس حول المحور العربي الإيراني من ناحية أخرى. أصبحت هذه هي ساحة الثورات التحريرية الكبرى التي بدأت منذ منتصف القرن الثامن عشر وبلغت أوجها في القرن العشرين, وتمثلت الحصيلة في انشقاق الصين وخاصة في النصف الثاني, خمس المعمورة, اولا وإقامة نظامها الوطني الاشتراكي وانطلاقها إلى تنمية لم يعرفها التاريخ من قبل. ثم جاء اجتياح الحركات الثورية الوطنية التحريرية, وكذا التقدمية, على عموم ساحة العالم الإسلامي في آسيا وإفريقيا ودائرة المتوسط, وكذا آسيا الوسطى, إلى حد أن ثاني كبار مسئولي المسألة القومية في الاتحاد السوفييتي, ألا وهو أمير سيد سلطان علي رفع شعاره التاريخي في مؤتمر شعوب الشرق في باكو ثم في قلب الدولة الثالثة ألا وهو: أن قاعدة الثورات العالمية ضد الإمبريالية إنما هي مئات الملايين من الفلاحين المسلمين المعدمين في الشرق. المواجهة الجديدة إنه الجو الذي ساد الثورات التحريرية الشعبية, وكذا التقدمية, في عموم عالمنا الإسلامي العربي والإيراني والآسيوي وكذا امتداده إلى قطاعات من إفريقيا. من هذين الرافدين ـ الآسيوي حول الصين والإسلامي حول المحور العربي ـ الإيراني جاءت بوادر المواجهة الجديدة واتخذت صورة مؤتمر التضامن الآسيوي ـ الإفريقي في باندونغ (أبريل 1955) حيث اجتمع قادة الشرق الحضاري بشكل ساطع كان له دوي لم ينسه الغرب, حتى ولو انصرفنا عنه إلى حد ما قبل الصحوة هذه الأيام والحمد لله. أي أنه لم يعد أمام مركز الهيمنة أوربا, ثم العالم الغربي
على مصائر العالم إلا مقاومة الصين في الأساس, ثم العالم الإسلامي. وقد بلغت قوة
الصين وانطلاق معدلات التنمية, في الاقتصاد والاستراتيجية والسياسة والتنمية
الشاملة حدا جعل منها الغريم الذي يصعب محاصرته ولا نقول اختراقه. بينما بقيت جبهة
عالم وشعوب ودول الدائرة الحضارية الإسلامية, وفي قلبها ثروات البترول, تبدو وكأنها
الساحة الممكنة المثلى لتوغل قوى الهيمنة الغربية وسيطرتها. ومعنى هذا أنه يمكن كسر
جبهة المقاومة في أضعف حلقاتها, الحلقة العربية ـ الإسلامية بحيث لن يتبقى بعد هذه
العملية قوة تمنع حصار تصاعد الصين الشامخ. أي أن الهيمنة العالمية الكامنة لمركزة
الغرب أصبحت وشيكة المنال. من أجل مستقبل للتلاقي كان لا بد من توضيح بعض النقاط المهمة سعياً إلى البحث عن الأصول التاريخية. فالمنهج كان, ولا يزال وسيظل, إدارة عملية الصياغة التاريخية للظاهرة محل الدراسة ـ بدلا من وصفها من السطح ـ لو فعلنا, وهو ما بدأنا فيه, لاستطعنا أن نمسك ببعض النقاط المهمة لبناء مستقبل معقول: 1 ـ هناك مساحة واسعة من المشاركة في الجذور التاريخية, بحيث يمكن, لو أردنا, أن نقيم ساحات واسعة من التلاقي دون جهد كبير. هذا مثلاً موضوع صياغة الطابع الحضاري المشترك لكل من الغرب والعالم الإسلامي. كانت هذه الجذور توصف حتى الخمسينيات من القرن العشرين بأنها (الجذور اليونانية الرومانسية) للحضارة الأوربية, بكل ما في ذلك من اعتراف بالمشاركة: فاليونان القديمة هي وريثة ريادة مصر الفرعونية في العديد من القطاعات والمعاني, بينما روما أقامت قوتها المركزية بدءاً من التفاعل بين مختلف مكونات حوض البحر الأبيض المتوسط. وبالفعل كانت مرحلة العصور الوسطى الأوربية مرحلة مظلمة اعترفت بها أوربا في عصر نهضتها بأستاذية العالم العربي والحضارة الإسلامية في مختلف المجالات وخاصة العلمي والتكنولوجي والسياسي, الأمر الذي دفع بإرهاصات النهضة الأوربية إلى الأمام بقوة, بينما ظلت أوربا والغرب بعيدة عن إدراك تفوق الصين عليها في القرن السادس عشر. وفجأة, وبدءاً من 1948, أي منذ إنشاء الدولة اليهودية على أرض فلسطين, بدأ الحديث عن (الجذور اليهودية ـ المسيحية) للحضارة الأوربية ـ دون تفسير لهذه النقلة في المفاهيم. وبديهي أن التسمية الجديدة أدخلت الدولة اليهودية في صلب الوجدان والفكر الأوربي بوصفها الوريثة الشرعية لليهودية, قبل ظهور المسيحية والإسلام. وبذلك, أصبحت الدولة اليهودية الصهيونية المعاصرة جزءاً لا يتجزأ من خصوصية الشخصية الحضارية الأوربية الغربية. 2 ـ ولعله من المفيد هنا توضيح أن الديانات التوحيدية الثلاث كلها شرقية. وقد نشأت على التوالي من سيناء, وفلسطين, والحجاز ثم انتشرت المسيحية في الأساس في أوربا ثم أمريكا. بينما كانت آسيا وإفريقيا, أي الشرق الحضاري, ساحة انتشار الإسلام وظلت اليهودية هي الأقلية المضطهدة في العالم المسيحي والتي وجدت في كثير من الأحيان الملاذ والإنصاف في دائرة الإسلام. إن إدراك هذا المعنى وتلك النقلة يعين على تفهم الكثير من الظواهر الغربية التي تستفز الوجدان العربي والإسلامي, كما أنه يفسّر عددا من الظواهر غير المفهومة. وعلى سبيل المثال, فسجل ألقاب الطبقة الأرستقراطية الحاكمة في أوربا الإقطاعية, وامتدادها في أسر البيوتات الغربية حتى اليوم يعبران حقيقة عن إرث أسر الضباط وصف الضباط الذين استبسلوا في ساحات القتال ضد المجتمعات الإسلامية أيام حروب الفرنجة, وقد أصبحوا بعد ذلك من صفوة من أراد ملوك وأمراء أوربا المقاتلة أن يميزوهم عن ذويهم. أي أن أرستقراطية اليوم هي وريثة أشد محاربي الأمس ضد حضارتنا وديارنا. وفي هذا ما يفسّر ذلك التوجه الغريب من شريحة واسعة من القوى السياسية المحافظة في أوربا إلى التحالف مع الأقليات التي طالما اضطهدوها, أي الأقليات اليهودية ـ تجاه غريم أو عدو مشترك ألا وهو صحوة العالم الإسلامي والعربي بعد 1948. 3 ـ النظرة السائدة في الغرب لعالمنا الإسلامي تتّسم بالشعور بالمغايرة والمنافسة, وفي أحيان كثيرة بالعداء لهذا (الغير) الذي هو نحن. ومن ثم فإن أساس التلاقي بين الطرفين يجب أن نسعى إليه في ميدان المعاملات والمصالح والقيم المشتركة ـ بدلاً من الجدل حول أفضلية هذا أو ذاك من العوامل الفكرية والتاريخية ـ دعنا من ساحة الأديان نفسها ـ إنها عملية تحتاج إلى نوعية جديدة من الكادر السياسي يجمع بين إدراك الأبعاد الحضارية والتاريخية التكوينية من ناحية وبين الواقعية, في ترتيب المصالح الآنية من ناحية أخرى ـ وهو أمر يبدو بعيد المنال إلى حد ملحوظ على ضفتي النهر الأوربي والعربي على حدّ سواء. الطلائع الغربية 4 ـ ونخطو خطوة جديدة في تحليل عملية الصياغة التاريخية للطلائع الغربية, الأوربية خاصة. فقد ظلّت هذه الطلائع ذات طابع كاثوليكي بروتستانتي وهو الطابع الحضاري المسيحي نفسه ـ حتى القرن الثالث عشر في الأساس. ثم بدأ ظهور الطبقات البورجوازية منذ 1492 بدءاً من الاكتشافات البحرية, واتجهت إلى إقامة دولة من نوع جديد, هي دولة الرأسمالية المتحررة, أي متحررة في مواجهة النظام الملكي الإقطاعي الذي اعتنق الأيديولوجية الكاثوليكية والبروتستانتية المسيحية حتى هذا الوقت. وكانت الثورات الثلاث ـ العلمية الصناعية, في ظل الديمقراطية ـ هي التعبير عن هذا التحرك. وقد وجدت الطلائع الجديدة أنه لا مناص من اقتلاع الأيديولوجية المسيحية وإقامة ساحة أيديولوجية جديدة تؤمن بمعاني هذه الثورات الثلاث. هكذا بدأ عصر التنوير ودخلت أفكار الحضارة المسيحية في صراع مع أفكار جديدة لم تعترف إلا بالفكر العلمي ثم الوضعي والناتج الاقتصادي والعقل دون مداخل الفهم الأخرى, معاني التنوير هي التي ألهمت حركة التحديث والتطّور المتعجل للمجتمعات الرأسمالية حتى في القمة. كان من الطبيعي أن يصاحب هذا التمايز الأيديولوجي والتنوع الفكري صعود نوعيات جديدة من الطلائع. وقد استمرت هذه العملية منذ القرن الثالث عشر وبلغت أوجها منذ القرن الثامن عشر حتى اليوم. وها نحن أمام عالم غربي تقوده طلائع هي في معظم الأحيان لا مسيحية, ولكن علمانية, تميل إلى دعم صعود الجماعات الرأسمالية المالية الجديدة ومعظمها على صلة بالأقليات اليهودية المالية في مختلف القطاعات الوسطى صعوداً إلى القمة. ومن هنا كان لزاماً على العالم الإسلامي والعربي أن يدرك أنه ينبغي عليه الدخول في حوار بنّاء مع القوى الإيجابية, أو على الأقل اللا ـ معادية له, في الطلائع الغربيّة, ومن هنا وجب الاهتمام بصحوة المسيحية وخاصة الكاثوليكية, في عصرنا بدءاً من تجديد الكاثوليكية الذي قام به البابا يوحنا الثالث والعشرين, ثم انطلاق هيئة اليسوعيين (الجزويت) إلى تحقيق العدالة الاجتماعية وتحرير الشعوب في المقام الأول كما حدث في لاهوت التحرر في أمريكا اللاتينية. وفي مقابل هذه القوة الهائلة, نرى القطاع الآخر من كوادر العالم الغربي يتجه إلى تفكيك جميع أنظمة القيم القائمة (الدينية, الأيديولوجية, الأخلاقية, القومية, العائلية), بهدف عزل الحاضر, وكذا هيمنة الفكر الوضعي المسطح على حساب الصياغة التاريخية. هكذا تمت صياغة الفكر الغالب, الفكر السالب, فكر العدمية في القطاعات الأوسع من الحياة الفكرية والثقافية في الغرب الرأسمالي المعاصر. وكذلك يجب الالتفات إلى قوى آخرى لا تقل أهمية من حيث
تفاعلها الإيجابي مع العالم العربي خاصة, والإسلامي بوجه عام, ألا وهي ساحة القوى
الاشتراكية الأوربية بعد نجاح عملية التجديد والتعصير ـ إن جاز التعبير ـ التي تمّت
منذ عام 1991. إذن, يصبح التحرك من أجل إقامة الجسور للقيام بعمل فاعل يهدف إلى نزع فتيل الصدام بين العالمين أولا, ثم الاتجاه إلى التنقيب عن مساحات التواكب والمشاركة بدءاً من المعاملات, إلى مستوى المصالح المجتمعية الموضوعية القائمة والكامنة. أي أن الأولوية المطلقة هنا إنما هي: صياغة السلام العالمي. هذا جنباً إلى جنب مع تكوين الكادر الإنساني والمؤسساتي المؤمنة بإمكان تغلّب الواقعية السياسية على الهمجية, بغية التنقيب عن إمكان صياغة عالمنا الجديد. لا ضمان إذن. ولا حتمية, وإنما أولوية العمل السياسي ـ الحضاري الريادي المتّصل ـ طريق المستقبل.
|