علاقة شائكة وأسئلة ملتبسة

علاقة شائكة وأسئلة ملتبسة
        

درج الإنشاء العربي على اعتماد صياغات تضعنا أمام فعل خيار بين أحد طرفين في صيغة ثنائية بين ضدين: هذا أو ذاك, إسلام وغرب, حداثة وأصالة, علمانية ودين, شريعة ومجتمع مدني, وفي مسألة التفاعل الحضاري: حوار أو صراع بين الحضارات.

           هذا في حين أن الخيار في مثل هذه المسائل مستحيل من وجهين: من وجهة الاستحالة المتعلقة بفرد, فليس الأفراد هم الذي يختارون مسار الثقافات والأفكار, وطريقة اشتغالها بين الناس والمجتمعات وإن لعبت الإرادات لدى صنّاع القرار ومراكزه دوراً ما, ومن وجه الاستحالة المتعلقة بقدرة الباحث على تفريد العناصر الفاعلة في مجاري العلاقات ما بين الأفكار والثقافات.

           ولعل الأرجح التأكيد بداية أن سير الوقائع, وخاصة على مستوى العقليات والذهنيات, هو أمر أكثر تعقيداً وتركيباً لدرجة يصعب (كي لا أقول يستحيل) على الباحث أن يفرد العناصر المتأتية عن سلم أو حرب, عن حوار أو صراع, عن حتميات أو ممكنات. فهل يمكن للمؤرخ أن يفرد مثلاً عناصر الثقافة الهلينية التي سادت في حوض المتوسط قبل أو بعد في سياق حروب الإسكندر أو أن يبيّن تأثيرات كل من اليونانية أو الفارسية أو المصرية أو المشرقية القديمة, في عملية التفاعل والتلاقح وهل تم ذلك سلما أو حرباً?

           هل يمكن للمؤرخ أيضاً أن يُفرد عناصر الثقافة الإسلامية العالمية إبان ازدهارها, فيحدد مجاريها ومواقع التلقي والاستجابة فيها بين ما تم عن طريق التفاعل السلمي والحوار والدعوة, وما تم عن طريق الفتوح?

           والسؤال نفسه يطرح حول الوجه الآخر للحروب الصليبية التي لم توقف العلاقات التجارية والثقافية بين الغرب المسيحي والشرق الإسلامي.

           أسئلة كثيرة من هذا النوع تطرح حول حروب القرن السادس عشر في المتوسط, وحول الحروب الاستعمارية في القرن التاسع عشر والحروب الكبرى بين الدول الأوربية نفسها, وحروب وحركات التحرّر الوطني في منتصف القرن العشرين, وصولاً إلى ما يمكن أن نسميه اليوم الحروب الصغيرة والكبيرة التي تتم في ظل العالمية الجديدة التي يُطلق عليها تعبير (العولمة). ذلك أن العالمية ليست جديدة كمسار تاريخي, وإنما الجديد هو في فواعلها الجديدة المتسارعة: الثورة المعلوماتية والإعلامية (الإلكترونية), وتسارع وتيرة الاندماج الاقتصادي العالمي.

           وبالمقابل انفجار المجتمعات المهمّشة وسيولة الإرهاب العالمي.

           السؤال الذي يشتق عن جملة تلك الأسئلة, هل أمكن للحروب أن تطمس ما أنتج من أفكار, أو أن تمنع جريان هذه الأفكار في أماكن الحروب ومساحاتها وفي ما يتجاوز جغرافيتها السياسية?

           لنتذكّر أفكار الرشدية اللاتينية وكيف شقّت طريقها عبر إسبانيا المسلمة إلى العالم اللاتيني, وأفكار النهضة الأوربية التي ترافقت مع حروب الاكتشاف والاكتساح, وأفكار عصر الأنوار, ووضعانية علوم الإنسان والمجتمع, وصولاً إلى القفزات الإبستمولوجية في منتصف القرن العشرين. الأفكار والثقافات تقع داخل هذه الحروب, هي جزء منها أو تسير على موازاتها وعبر بشرها, في مسالك غير مرئية, أو بالأحرى هي مرئية على المدى البعيد, وبمنظار التأريخ للمدد الطويلة.

           لذلك, فإن دراسة خبرات التاريخ ودراسة ما يجري اليوم في مسار تسارع العالمية الجديدة (العولمة), قد تساعد في بلورة منهج للنظر إلى طبيعة العلاقة بين الثقافات وفضاءاتها, على أن نضع هذه العلاقة في قلب التاريخ العالمي, لا خارجه, أن نعي ديناميته, وحركة انتقال مركزه من مجال جيو ـ حضاري إلى مجال آخر, أن نتدارس عوامل هذا الانتقال أو الأفول أو الانبعاث أو التجدد. فثمة دروس من التاريخ يمكن أن تساعد على حسن النظر (وتلمّس أبواب) تخرجنا من الأنفاق التي أقفلنا أبوابها على أنفسنا بأقفال من المسلمات التي صغناها بمصطلحات هي أشبه (بطلاسم) تغلق ولا تفتح.

دروس التاريخ

           دروس التاريخ, هي دروس في المنهج وطريقة في النظر, وليست دروساً في الترشيد لحتمية تاريخية, أو في التطبيق لنماذج تاريخية من مراحل زمنية متباينة.

           منذ مطلع القرن العشرين وحتى يومنا, أنتج العالم, ولاسيما العالم الغربي, كمّاً هائلاً من المعارف والدراسات التي تناولت مسار الحضارات والثقافات, يمكن للباحث العربي أن يفيد من مناهجها وأسئلتها المجاب عنها أو المستمرّة بلا إجابة. ولعلّه من المفيد استذكار دروس ثلاثة:

           الدرس الأول: في النصف الأول من القرن العشرين برزت من داخل الحضارة الغربية, وفي سياق حربين عالميتين مدمرتين, نظريات وفرضيات في نشوء الحضارات وأفولها, يقول بعض هذه الفرضيات (بأفول الحضارة الغربية) (شبنجلر), ويقول بعضها الآخر (بالتردي الرتيب للتاريخ). ونعرف جميعاً أن أبرز من عبّر عن هذه الذهنية المتشائمة في النظر إلى حركة التاريخ هو توينبي. إلاّ أن توينبي كان يرى ـ وكما يوضح في كتابه (حرب وحضارة) أن سياسات الدول الكبرى أي سياسات القوة وتغليب منطق السيطرة وصراع العالم هي التي تفرغ الحضارة من مضمونها الثقافي الإنساني والروحي وتدفع بها إلى أن تصبح أحادية مادية يؤدي بها الأمر إلى التردي والأفول, لكن غني عن البيان أن هذا التوجس لم يكن في محله, إذ ما لبثت الحضارة الغربية أن جددت بنيانها ومناهجها من داخلها, في حين لا تزال أعداد من المثقفين العرب والمسلمين تنتظر تردّي الحضارة الغربية وتبشّر بذلك على غير طائل.

           الدرس الثاني: في سياق تطور مناهج النظر إلى سمات الحضارات وخصائصها في منتصف القرن العشرين, تبلور منهج تاريخي مستثمر لعلم الاجتماع وعلم النفس والأناسة, والاقتصاد, ولما أنجز على هذا الصعيد من أعمال كأعمال ماكس فيبر ودوركهيم ومارسل موس, مضافاً إلى نتاج تجربة معيشة خلال حربين مدمّرتين.

تفكيك الوقائع

           يستوقف في هذا المجال (مجال دراسة الحضارات وعلائقها), العمل الكبير الذي أنجزه المؤرخ الفرنسي فرناند بروديل (Braudel) حول تاريخ حوض المتوسط في القرن السادس عشر, أهم ما في منهج بروديل - وهو من أبرز أعلام مدرسة الحوليات الفرنسية (Le Annales), تفكيكه للزمن التاريخي لحقبة طويلة من التاريخ, حقبة شهد فيها التاريخ تحوّلاً عميقاً وتغيرات أساسية كالتغيرات التي نتجت عن تغيّر طرق المواصلات العالمية وتهميش المتوسط, يرى بروديل في الزمن التاريخي ثلاثة أزمنة تتقاطع بتفاوت وتائر سرعتها وتغيرها.

           - زمن جغرافي ثابت - (الجغرافية - التاريخية).

           - وزمن حضاري - اجتماعي - ثقافي بطيء التغيّر.

           - وزمن سياسي متقلّب وسريع.

           ما يهمّني في منهج النظر هو التوقف عند المستوى الثاني
صحيح أن بروديل يعتبر أن لحضارات المتوسط الثلاث (الغربية - اللاتينية, العربية - الإسلامية, اليونانية - الأرثوذكسية (الكامنة)) قعراً عميقا, إلا أنه يرى في المسار البطيء لهذه الحضارات أوجها من التداخل, أي حيّزاً من الحركة الهادئة والتأثر البطيء المتبادل, ويلحظ على المدى الطويل (دراسة الحقبات الطويلة), أما الصدامات والحروب والأحداث السياسية, فإنها تنتمي إلى المستوى الثالث: إذ تتحكم فيها مصالح الحكّام والتجارة والسيطرة على الطرق والممرات ومصادر الثروة, والتوترات الاجتماعية في داخل الدول.

           ولابد من الإشارة إلى أن فترة الخمسينيات والستينيات شهدت أعمالاً بحثية كبرى في التاريخ العالمي أو التاريخ المقارن على غرار ما قام به بروديل من مثل عمل هدجسون, ولومبار, وأندريه ميكيل (وآخرين) وكان يمكن لهذه الأعمال أن تلعب دوراً إيجابياً في وعي التاريخ العالمي وفضاء العلاقة ما بين الحضارات في التاريخ, وهذا درس ينبغي مراجعته اليوم لأنسنة مناهج العلوم الإنسانية في تناولها لفضاء العلاقات ما بين الثقافات في عصر العولمة.

           الدرس الثالث: الذي تبلور في مرحلة ما بعد الثمانينيات, نلاحظ بدءاً من الثمانينيات شيوع أسلوبين في الأوساط البحثية العالمية في النظر إلى حقول الثقافة والحضارة والتاريخ, وإلى مجال علاقة هذه الحقول بالسياسة والعلاقات الدولية.

           1- أسلوب تجزيئي في البحث يستغرق نفسه في دراسات حقلية وميدانية اثنوغرافية ومونوغرافية وتاريخية تتضخم فيها الخصائص الثقافية في المشاهد الثقافية في العالم: الحي, السوق المحلي, القبيلة, القرية, الطائفة, الاستقصاءات والاستطلاعات, وتتجزأ فيها صورة الهوية إلى أصغر فأصغر.

           2- أسلوب توليفي يعيد تركيب هذه العناصر المفردة في أعمال استراتيجية أشمل, والملاحظ أن أعمالاً من هذا القبيل قد تنتظم في علم استراتيجيا جديد مواكب لمسار العولمة واستدعاءاتها.

           هذه الأعمال إلى جانب استثمارها للأسلوب التجزيئي توظف فلسفات ومدارس فكرية ومفاهيم, كما توظف خبرات تاريخية ومعطيات إثنولوجية وانثروبولوجية لاستخلاص أنماط من العلاقات الدولية أو لاستشراف مسارات محتملة للعالم: فوكوياما, هنتنغتون, بول كنيدي, نيكسون.

           هذه الأعمال ومثيلاتها وبغض النظر عن النوايا, تنتظم في وظيفة استراتيجية للبحث وللمعرفة, تخدم آلية بناء الإمبراطوريات الكبرى, أو منطق السوق وفقاً لآلية الليبرالية الاقتصادية, أو وفقاً لمنطق إدارة الأزمات في علم السياسة.

التحولات الكبرى

           يمكن أن نسمي هذا النموذج من الباحث (الباحث الخبير) سواء مارس أسلوباً تجزيئياً أو أسلوباً توليفياً, ونموذجه معروف وشائع في التجربة الأمريكية كما تشير دراسات إدوارد سعيد, غير أن صورته تكاد تعمم في العالم اليوم بنسب تتفاوت على مستوى حجم العلاقة بصناعة القرار في البلد المعني ومدى استثمار فواعل العولمة ودينامياتها وتداعياتها في اتجاه سياسات عليا.

           السؤال الذي يطرح اليوم, أيّ باحث نتوخى في ظل هذه التحوّلات الكبرى ودروس تجارب التاريخ وخبراتها?

           بعضهم مازال ينعي على الحضارة الغربية (تردّيها) وينتظر انهيارها مستلهماً ومقلّداً كتّاباً أوربيين منذ توينبي وحتى جارودي, أو داعياً لدراسة الغرب في ثنائيــــة معـــكوسة (الاستغراب لدى حسن حنفي), وبعضهم يتوجّس الاقتباس المنهجي من باحثي التاريخ العالمي والحضارات المقارنة خوفاً على هوية مأزومة, وتوجساً من (عولمة) لم تدخل بعد في وعيهم, وبعضهم يضيع بين (باحث خبير) لا مكان له في صناعة القرار في بلادنا, و(باحث مناضل) لايزال يحمل عبء الإحبـــاط, وقد يكون هذا مكمن اللبس في تعبيرنا عن التحوّلات التي لم نســــــاهم فيها في التــــاريخ العالمي المعاصر.

 

وجيه كوثراني