من التوفيقية إلى التلفيقية.. القطيعة التاريخية والثقافة العربية المعاصرة

من التوفيقية إلى التلفيقية.. القطيعة التاريخية والثقافة العربية المعاصرة

بينما تبدو عملية/لحظة التشكيل في الثقافة العربية أكثر إيجابية ونضجًا بمعايير عصرها على الأقل في ذلك الماضي البعيد «عصر التدوين»، وفي إطار ملابسات حضارية وتاريخية مغايرة وليس بمعايير الديمقراطية الليبرالية التي تعدو اليوم سواء بميراثها الفلسفي أو بتجلياتها السياسية هي الفردوس الأعلى لكل ثقافة معاصرة، فإن عمليات الانتقال ولحظاته المفصلية بين حقب أو مراحل تاريخية وأخرى ربما تبدو على العكس أقل نضجًا، وأكثر سلبية إذا لم تجاوب ثقافتنا العربية قوانين وأصول عمل وتقاليد هذه اللحظات الانتقالية قط، أو على الأقل بالقدر الكافي لتدعيم قدرتها على التكيف المرن والخلاق مع مقتضيات العصر الجديد الناجم عن قديم كان جذرًا له في صيرورة تحول، أو كان نقيضًا له تم تكسيره أي القديم وعبوره في سياق عملية انقلاب، أو كان بالأكثر وعلى الأعم مجالًا لتراكم كمي طويل المدى لخبرات وتجارب ومعارف يقدم له أي للجديد كتحول كيفي يحدث قطيعة مع الماضي وليخلق هذا الجديد متصلًا/ حاضرًا جديدًا يفرز قوانينه ومناهجه وتياراته ونظرياته، ويراكم خبراته وتجاربه ومعارفه إيذانًا، ربما بتحول نحو «زمن ثقافي» جديد.. وهكذا!

لعل الانتقال الأهم والأكثر مفصلية في التاريخ الإنساني والأكثر تأثيرا في حياتنا العربية حتى اليوم وغدا هو الانتقال من حقبة زمن التقليدية إلى حقبة زمن الحداثة، فهذا الانتقال المفصلي لم يكن مجرد عبور مرحلة تاريخية إلى أخرى أقرب إلينا في الزمن، ولا مجرد عبور تأثير ودور بقعة مكانية إلى أخرى أقرب إلينا أو أبعد عنا في الجغرافيا فقدا أو امتلاكًا لمحور الفعالية في العالم، ولا مجرد العبور من ضفة معرفية زاخرة بمناهج وتيارات ومدارس في العلم والفكر والأدب إلى أخرى مقابلة أو ربما نقيض في مناهجها وتياراتها ومدارسها الأكثر انتشارا أو سيطرة على امتداد ساحة العقل البشري اليوم، وإنما هو كل ذلك وأكثر منه وأعمق... هو على وجه الدقة تحول جذري كامل في رؤية الوجود وكل ما ينبثق عنها ويتفرع منها من قواعد نظر وآليات عمل وتقاليد ممارسة، هو قطيعة جذرية مع الماضي البشري في أعمق خصائصه وجواهره ومنطلقاته وهو قدوم سافر صاخب لحاضر ممتد لأكثر من خمسة قرون زاهيا مهيمنا على الثلاثة الأخيرة منها يتعملق لا يزال ويتطور لا يزال في فضائه الجديد الرحيب المغاير وهو بشارة ملتبسة بمستقبل زاخر بكل الوعود، وعود الرفاهة والتقدم والنماء لجانب من العالم ووعود نقيضه بالفقر والتخلف والتهميش لجانب آخر من هذا العالم نفسهٍ.

العجز عن تجاوز التقليدية

وبينما عجزت الأمة / الحضارة العربية عن تجاوز الروح التقليدية وتطوير رؤية حديثة للوجود فإنها ظلت مطالبة بدفع ثمن هذا العجز على شتى الأصعدة الثقافية والسياسية حتى اليوم، إلى ذلك الذي كان قد امتلكها فكان ذلك إيذانا بمزيد وعميق من الاختلال لمجالات حياة وأشكال تعبير الإنسان العربي. وفي اعتقادنا أن عاملين أساسيين قد دفعا نحو ذلك الموقف التاريخي السلبي.

الأول - هو غياب العرب عن حركة الكشوف الحغرافية وعجزهم من ثم عن تحقيق القطعية مع الصورة الكلاسيكية للمكان. ذلك أن مرحلة الكشوف الجغرافيا بما مثلته من تكسير حاد وعميق لصورة الغرب الذهنية عن العالم القديم بحدوده المألوفة قد ساهمت، مساهمة حقيقية على ما يبدو، في انطلاقه نحو العصر الحديث لسبب مباشر حيث ارتبطت هذه العصور الحديثة شكلا واسما بالعالم الجديد المكتشف بفعل هذه الحركة والذي أفرز ولا يزال حيوية الغرب المعاصرة «الولايات المتحدة الأمريكية»، ولسبب آخر هو الأعمق جوهرة أن العقل الغربي إذ شهد تحطم الجغرافيا العالمية أمامه وبإيقاع خطواته هو نفسه، قد شعر بقدرته على تحطيم أو تكسير التاريخ: أي أبنيته وتقاليده ورموزه وإلهاماته الموروثة، وإعادة بنائه بشكل مغاير، وبخاصة تاريخه الوسيط الذي ارتبط بتركيبة اجتماعية وسياسية واقتصادية تقوم على نوع من الإقطاع شاركت فيه السلطة السياسية المستبدة والكنيسة الكاثوليكية بادعاء الحق الإلهي المقدس في حكم الشعوب.

ذلك أن الاندفاع الغربي المقتحم لهذا العالم الجديد قد ولد في العقل الغربي درجة أعمق من الثقة والجرأة وروح الاكتشاف والمبادرة لدرجة المغامرة، اكتشاف الأفكار، والمعارف والتجارب المنثورة في ثنايا التاريخ الذي تم تحطيم صورته الميتافيزيقية المتعالية الغامضة مع تحطيم أستار الجغرافيا التي شهدت قصصه وأساطيره ورواياته وسردياته الكبرى والصغرى ومن ثم تنامت قدرته أي الغرب- على الخوض في دروبها بكل الثقة وبمنتهى الجرأة التي وصلت ذروتها في النزعة الهجومية التي اختزنها العقل الغربي ليستعملها بعد ذلك كثيرا ضد أنحاء في العالم القديم ملتبسا هذه المرة بروح استعمارية نال بعضا من نيرانها واحتقاناتها عالمنا العربي في القرنين التاسع عشر، والعشرين فيما جسده نسق الفكر الكولونيالي الذي تبرعم الفكر الغربي الحديث النازع إلى التمركز حول ذاته والقائل عبر توليفات نظرية وتحيزات علمية تبلغ حد التزييف، بسمو الغرب عرقيا ودينيا وفكريا بل وبوحدته واستمراره منذ بداية تاريخه العام «بالمعجزة» الفلسفية اليونانية وحتى الآن، متمتعا بالطهر المعرفي والنقاء العرقي.

والثاني: هو هامشية الدور العربي في ظاهرة العلم الحديث حيث ساهم أيضا في قدرة الغرب على نقد تاريخه الوسيط بالذات وتكسير تركيبته الإقطاعية، امتلاكه المتنامي لناصية العلم الطبيعي في منهاجيته التجريبية والذي يصوغ، ربما وحده، أيديولوجيا «عالمه» تجسد نمطا من النشاط الفكري المستقل والمتمايز عن تلك الأنشطة الفكرية التي تلهمها الأديان والفلسفات الكبرى المتراكمة في التاريخ والتي تبقى مهما راوحت بين يمين ويسار ومقدس وبشري، نمطا من النشاط يركز على التيار الشعوري الباطني للإنسان يخاطب حياته الروحية، وعلى الأكثر علاقاته بالبشر الآخرين في مجتمعه أو المجتمعات الأخرى، وبالأحرى، بالفضاء السياسي، وذلك بعكس العلم التجريبي الحديث وخاصة في تطوراته اللاحقة على شكية ديكارت وتجريبية بيكون والتي قامت بالأساس على عناق بين الرياضيات والفيزياء وأنتجت في النهاية عبر اشتقاقها لمعادلات منضبطة وقوانين دقيقة نسقا معرفيا كاملا يبحث في الوسائل والأشياء، والمقادير والكميات، والكتل والموازين، ويراكم المناهج والنظريات المطلوبة لملء الفراغ الممتد بين الإنسان والكون، واللازمة لاقتحام الطبيعة والكشف عن جوهرها فهما لها، وتوظيفا لقوانينها، وهو الأمر الذي نقل وعي الإنسان الغربي إلى فضاء جديد عقلاني / موضوعي / مادي مكنه من طرح أسئلة جديدة تماما على التاريخ الغربي بشكل أكثر جذرية نالت من جوهر النشاط الفكري القديم، وخاصة تصور العلاقة بين الله والإنسان أدت في النهاية لقصر الدين على المجال الروحي للإنسان، وحول أشكال تنظيم المجتمع لتقود في النهاية إلى جدل وحضور الديمقراطية الليبرالية، وهما المعلمان البارزان والمميزان للوعي الغربي في كتلته التاريخية المعاصرة.

داخل إطار صورة العالم القديم

والعكس تماما لهذين التطورين كان على مستوى الحضارة / الثقافة العربية إذ لم يحدث أن شارك العرب في حركة الكشوف الجغرافية من حولهم إلا بقدر المشاهدة عن بعد وربما دون اهتمام ولذلك فلم يشعروا تقريبا بقيمة أو أهمية التغير الحادث لصورة العالم من حولهم مما أبقاهم على نحو ما داخل إطار الصورة الذهنية للعالم القديم على كمونها وسكونيتها ومحدوديتها وغموضها الميتافيزيقي.

وقد ساهم في ذلك أيضا أنهم ظلوا، ربما حتى الآن، بعيدين عن امتلاك ناصية العلوم الطبيعية وبالذات منهاجيتها التجريبية الحديثة، مما أثمر ضعفًا شديدًا في نسق «الثقافة العلمية» الذي يرتكز على طبيعة الموقف من العلم لدى الجماعات الإنسانية: مدى حضوره كمحتوى أي كمجموع ظواهر يتوفر عليها طلاب العلم للفحص والدراسة، ثم كمنهاجية تنظم وتصوغ طرائق التفكير في هذه الظواهر داخل كل ثقافة إنسانية وهل تسيطر عليها النظرة العلمية في رؤية الوجود والطبيعة والإنسان بمقوماتها العقلانية والموضوعية أم تغيب عنها هذه النظرة لمصلحة نقيضتها الميتافيزيقية، أو السحرية/ الأسطورية، ومن ثم مدى استعداد الناس في هذه الثقافة للاعتبار بقيم الجد والاجتهاد ومراكمة الخبرة المهنية والتدريبية واختزان الكفاءات والمهارات البحثية والتنظيمية ثم تقنينها في مؤسسات وأبنية تنشرها في المجتمع وتحفظها في الأجيال المتعاقبة دون انقطاع كامل أو تقلب شديد على النحو الذي يخلق لدى هذا المجتمع نوعا من الوعي الثقافي الرصين الذي يخلو تدريجيا من العاطفية والذاتية المفرطة ويكتسب تدريجيا عقلانية وموضوعية تسمه بالتجانس والاستمرار والقدرة على التكيف الهادئ والاستيعاب الآمن للمعارف ووجهات النظر والآراء الجديدة دون تقلصات شديدة، فضلا عن قدرته على إنتاج واستخدام وتبادل التقنية الحديثة وإدارة وسائلها ومعطياتها برشادة تحقق أهدافها المطلوبة منها ولا تجعلها أعباء ضاغطة على المجتمع. ما أعجزهم بالأحرى تحقيق القطيعة مع النموذج التقليدي / الصوري للمعرفة.

ومن جماع العجز عن تحقيق القطعية الجغرافية، وكذلك القطيعة المعرفية، بقي الوعي العربي عاجزا عن إنجاز القطعية «التاريخية» مع كتلة العصر الوسيط وراسفا من ثم في إسار الرؤية الكلاسيكية للوجود وهي رؤية كمونية استاتيكية وإن كانت شفافة، ترى الذات الإنسانية وتشعر بها كنقطة في سياق الوجود الأشمل وكجزء من أجزائه تتماهى فيه ولا تنفصل عنه بل تنعكس عليه في ظواهره وإيقاعاته وحركات كواكبه ونجومه حسبما تتبلور الروح التقليدية السحرية / الأسطورية، أو تشعر بالتمايز عنه دونما تعال عليه أو قدرة على إعادة صياغته حسبما تبلوره الرؤية الدينية التقليدية للعالم، وعاجزا في الحالتين، أي الوعي العربي، عن الولوج إلى فضاء الرؤية الحديثة للوجود والتي ترى الذات الإنسانية في مركز هذا الوجود وتشعر بها مهيمنة عليه وتحس فيها القدرة على صياغة أشكاله اجتماعيا وسياسيا على الأقل بعد أن زادت معارفها ومن ثم قدراتها على التحكم النسبي في مادته الطبيعية عبر اكتشاف متزايد لقوانينها وحركة حثيثة نحو فهم منطقها.

وفي هذا السياق كان من الصعب على المجتمعات العربية أن تطرح على تاريخها أسئلة حضارية كبرى وجذرية كتلك التي تم طرحها في الغرب، ولذلك بقي نمط إدراك العالم كما هو موروث تقريبا من القرون الوسطى «الزاهرة في السياق العربي» مهيمنا حتى القرن التاسع عشر سواء فيما يتعلق بموقع الدين في النشاط الفكري أو ما يتعلق بأشكال تنظيم المجتمع، وإدراك العالم السياسي. وبينما كان الأول مقبولا نتيجة لتميز إطاره الإسلامي بغياب الهيراركية والبطريركية عن المؤسسات الدينية ونزعة التقديس التي اكتسبتها في النمط الغربي الوسيط فإن الثاني، أي تنظيم المجتمع وإدراك العالم السياسي والذي استمر حول الأشكال التقليدية للعصور الوسطى العربية قد أوصل هذه المجتمعات إلى درجة الجمود.

اختفاء داوفع التغيير

وكان من نتيجة ذلك اختفاء الدوافع الداخلية للتغيير في مجتمعاتنا العربية، ولذا فإن كل محاولات النهوض في العصر الحديث لم تصدر عن حركة ذاتية لتجربة تاريخية تتطور بثقة واستقلال في أفق تاريخي مفتوح كما كان الأمر لدى المجتمعات الغربية، وإنما عن شعور عميق بالخوف من العالم الحديث ومحاولة اللحاق به بتقليده وتطويع مجتمعاتنا العربية لمتطلباته ولو قسريا على نحو يقترب من حد إعادة التصنيع وفقا لرؤية الحاكم الفرد أو على الأكثر النخبة القائمة بعملية التغيير وهو الأمر الذي جعل كل تجربة شبة جزيرة منعزلة عن سابقتها، وتاليتها وحرم مجتمعاتنا العربية من خبرة التراكم، وحال دون امتلاكها لتجربة حديثة ومستقلة ومتصلة في النهضة والتقدم.

ولأن الرغبة في التغيير لم تنبع من عوامل داخلية بل حركتها دوافع خارجية جسدها بالذات الاحتكاك «الدامي» بالغرب والهزيمة سياسيا وعسكريا أمام صورته الحديثة الملتبسة بالتقدم و الاستنارة من ناحية والهيمنة والاستعلاء من ناحية أخرى، فلم يكن أمام مجتمعاتنا العربية أسهل من - وربما - سوى «الصيغة التوفيقية» كصيغة ثقافية تقيها الشعور بالاغتراب إزاء عالم لا تستطيع الانتصار فيه ولا تستطيع الانسحاب منه في الوقت نفسه.

الصيغة التوفيقية للحداثة

ولقد مثلت هذه الصيغة السياج العام الذي استوعب أعمال رموز الثقافة العربية وخاصة في مصر عبر الموجة الحداثية «الثانية» التي امتدت بين أربعينيات وسبعينيات القرن العشرين على أصعدة شتى فنية وقانونية وأدبية وفلسفية، تلك التي كانت بدورها وريثة لتحديث «الموجة الأولى» في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، والتي جسدها على صعيد الفن مبدعون كثر مثل زكريا أحمد ومحمد القصبجي وصالح عبد الحي وصالح جودت وبيرم التونسي، وكذلك الفنان الكبير رياض السنباطي الذي دشن مع عبد الوهاب بوجه خاص حداثتنا الموسيقية التي استوعبت الأدوات والوسائل الموسيقية الغربية كالأورج والبيانو مع الأدوات الموروثة في تكامل فني مثير أكد واستلهم الشخصية المصرية والروح الشرقية من جانب، وتجاوب مع ايقاع العصر من جانب آخر، كما جسدتها أعمال د. عبد الرازق السنهوري على الصعيد القانوني وخاصة في نزوعه الى التوفيق بين الشريعة الإسلامية والقانون المدني الحديث، وكذلك المثال الكبير محمود مختار على صعيد النحت، ومحمود سعيد على صعيد التصوير، ورمسيس يونان ومن حوله الكوكبة المتمردة من جماعة الفن والحرية على الصعيد التشكيلي، وكتابات نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم ومحمد حسين هيكل وعلى أحمد باكثير ويحيى حقي ومحمد عبد الحليم عبدالله، وعبد الرحمن الشرقاوي ويوسف إدريس على الصعيد الأدبي، وأيضا الكتابات المتأخرة لطه حسين، والعقاد، ومحمود شاكر على صعيد الوعي بالتراث الإسلامي تاريخا وشخوصا وعيا نقديا ومنهجيا لا يعادي الإيمان، فضلا عن الفتوحات الكبيرة لصلاح عبد الصبور، وأمل دنقل، وأحمد عبد المعطي حجازي الذي بلغ تألقه آنذاك في تحقيق، ثم تأكيد حداثتنا الشعرية وكذلك إنتاج حسين فوزي وحسين مؤنس وأشرف غربال التي أتمها جمال حمدان على صعيد بلورة الوعي النظري بالشخصية الوطنية المصرية ذاتها، وبالذات وفي القلب من كل ذلك عملية إعادة الصياغة على صعيد الفكر النظري المستوعب للتراث والمتجاوز لطبيعة بنائه السلفي على صعيد المضمون والقضايا الفكرية بل وطريقة العرض والتأليف، والنازع الى استيعاب الفكر الغربي المعاصر تلك التي ارتاد أفقها الأستاذ أحمد أمين ومن حوله المدرسة الفلسفية النشطة في الترجمة والتصنيف ثم التأليف داخل وحول قسم الفلسفة بآداب القاهرة والتي ضمت توفيق الطويل، ويحيى هويدي، وعثمان أمين، وزكريا إبراهيم، وعبد الرحمن بدوي، وفؤاد زكريا وهي الموجة التي صاغ منطقها العام وجسد ذروة تألقها بدأب وحذق الفيلسوف العربي الكبير د. زكي نجيب محمود في مشروعه التوفيقي البارز الذي مثل ذروة الوعي العربي النظري والفلسفي بقضية النهضة ومعضلة الحداثة.

الانحراف إلى التلفيق

غير أن الصيغة التوفيقية هذه قد انحرفت إلى «التلفيقية» عند الممارسة التاريخية طيلة القرن الماضي كنتيجة شبه منطقية للسياق الدفاعي الذي مورست فيه أمام ضغوط الغرب المستمرة، وضغوط الصهيونية الاستيطانية المستجدة على فلسطين والمشرق العربي منذ أربعينيات القرن العشرين. ذلك أن التوفيقية الخلاقة كعملية تركيب جدلي تبدو بحاجة، ربما أكثر من الممارسة العادية التلقائية، إلى إرادة قادرة على ممارسة الاختيار بحسم وحزم، وإلى رؤية شفافة ناصعة لما تقوم بالاختيار من بين عناصره وإلى فضاء تاريخي مفتوح يسمح بوضع هذه الاختيارات موضع التجربة العملية كما يسمح بإعادة فحص هذه التجارب في الواقع المعيش قبل إعادة مراجعتها وتنقيحها نظريا من جديد وعبر عملية تغذية استرجاعية في الأفق المفتوح بين الفكر والواقع، وجميعها متطلبات ربما لم تتوافر للوعي العربي الحديث الذي بدأ هذه العملية «التوفيقية» في سياق أزمة وجودية وسياسية محيطة به، وممسكة بتلابيبه، قادته إلى التلفيق.
-----------------------------
* كاتب من مصر.

-----------------------------------

بَكَتْنَا أرْضُنَا لمَا ظَعَنّا
وحَيَّتنَا سُفَيْرَة ُ والغَيَامُ
محلُّ الحيِّ إذْ أمْسَوْا جميعاً
فأمْسَى اليومَ ليس بِه أنَامُ
أنِفْنَا أنْ تحلَّ بهِ صُدَاءٌ
وَنَهْدٌ بَعْدَما انسلخَ الحَرَامُ
ولو أدْرَكْنَ حيَّ بني جَرِيٍّ
وتيمَ اللاتِ نفِّرَتِ البِهَامُ
بكلِّ طِمِرَّة ٍ وأقَبَّ نَهْدٍ
يَفِلُّ غُرُوبَ قارِحِهِ اللِّجَامُ
وكلِّ مثقّف لدْنٍ وعضبٍ
تذرُّ على مضاربهِ السِّمامُ
يُكَسِّرُ ذابلَ الطَّرْفاءِ عنها
بجَنْبِ سويقَةَ النَّعَمُ الرُّكامُ

لبيد

 

صلاح سالم