السيد بريتشارد (قصة مترجمة)

السيد بريتشارد (قصة مترجمة)
        

          دوى رنين الهاتف، وتساءل صوت مرتعش عمّا إذا كنت موجودًا، فقلت: «هأنا أحدّثك»، وانتظرت. بعد لحظة صمت، أبلغني المتحدث بأن اسمه بريتشارد وأن مدرسة الدراسات الشرقية والإفريقية قد أعطته اسمي باعتباري شخصًا يعطي دروسًا في اللغة العربية.

          «كان ذلك منذ بعض الوقت». قلت هذا لأنني أصبحت أعتقد أن التدريس من أقل سبل كسب العيش مردودًا على الصعيد المادي.

          - أوه، كنت آمل.. قرأت أخيرًا مقالك عن القصة القصيرة العربية، وتمنيت لو أن...

          بما أنه لم يواصل حديثه، فقد اضطررت لقطع الصمت، وسألته عن مستواه في اللغة العربية.

          قال: «أوه، مجرد هاوٍ متحمس. بمقدوري تصفح جريدة بكثير من الصعوبة بالاستعانة بقاموس - إنني أستخدم قاموس وير، وآمل أن توافق على أنه أفضل قاموس متوافر - ولكنني غالبًا ما أجد عبارات أو جملاً بكاملها يراوغني معناها..» كانت لديه عادة التوقف فجأة في وسط الجملة وترك عبء مواصلة الحديث يقع على كاهل من يستمع إليه. وقبل أن أدرك جليّة الأمر، كنت قد وافقت على أجر بالساعة لقاء درسين أسبوعيًا، في يومي الإثنين والخميس، ابتداء من الإثنين المقبل. وما إن أعدت السماعة إلى مكانها حتى ساورني الشعور بالندم على الموافقة.

          عندما أطل السيد بريتشارد عند باب الشقة، في السادسة من يوم الإثنين، بدا أكثر إيغالاً في العمر مما أوحى به صوته عبر الهاتف. كانت شقتي في الطابق الثاني، وليس لها مصعد، وعندما لبيت نداء جرس الباب، بدا عليه مظهر من يوشك على دفع ثمن الإجهاد المبالغ فيه لنفسه.

          «بريتشارد».. قالها بأنفاس لاهثة، ومدّ يدًا كالمخلب مصافحًا. وقال في التو، وهو يغوص في مقعد ذي مسند: «أمر طيب للغاية منك أن توافق على إعطائي دروسًا. وآمل ألا أكون قد بدوت ملحًا أكثر من اللازم».

          غمغمت بشيء في معرض الرد، وجلست في المقعد ذي المسند الآخر الذي كانت إلى جواره منضدة صغيرة رتبت عليها كومة من الكتب العربية وصحيفة حديثة. وتطلعت إلى تلميذي، وخمنت أنه في أواخر السبعينيات أو أوائل الثمانينيات من العمر.

          ورغم أنه مديد القامة ووثيق البنية، فإنه بدا موحيًا بالهشاشة، ولاحت بشرته كما لو كانت قد شُدت بإحكام عبر المجال بين عظمة والتي تليها. دهشت إزاء الجهد الذي كان قد بذله للقدوم عبر لندن من الفندق الذي أبلغني أنه ينزل فيه، والمطل على شارع كرومويل.

          قال كأنما كان يقرأ أفكاري: «عندما أخرج من معقل فندقي هذه الأيام، فإنني أستفيد من خدمة سيارات الأجرة الممتازة في لندن. وهو ترف بسيط أسمح لنفسي به، تنازل أمام سنواتي الموغلة في مسيرتها.. يالها من عبارة مثيرة للسخرية (الموغلة في مسيرتها) كأنما السنوات يقدّر لها التراجع أبدًا!». ضحكنا كلانا، ثم مررت الصحيفة إليه، وطلبت منه أن يقرأ بصوت عال الفقرة التي كنت قد حددتها، وبهذه الطريقة سأتمكن عاجلاً من تحديد مدى معرفته باللغة. ودهشت إزاء الدقة التي قرأ بها، بل إنه نطق العديد من الأصوات اللينة في أواخر الكلمات على الوجه الصحيح. غير أن حديثه المتداخل أصبح أكثر وضوحًا عندما تكلم بالعربية، وكان من المتعذر عليّ متابعة ما يقوله. وتوقف من تلقاء نفسه، ونحى الصحيفة جانبًا.

          أبلغني بقوله: «قبل عام أو عامين، تعرضت لسكتة دماغية محدودة، وهذا جعل نطق حروف عربية معينة أكثر صعوبة بالنسبة إلي، دع جانبًا أنني لم أتملك قط ناصية نطق بعض هذه الحروف حقًا». قلت محاولاً ألا أبدو بمظهر المتعالي: «لديك تمكن جيد على نحو غير مألوف من ناصية هذه اللغة».

          - أوه، لا، إنني على تمام الوعي فحسب بالثغرات الموجودة في معرفتي.. على أي حال، أليس لدى العرب تعبير يفيد أن الكمال لله وحده؟ قلت: «أصبت».

          - لم أحظ حقًا بالتغلب على صعوبة هذه اللغة في الجامعة، وهي أصعب من أن يدرسها المرء معتمدًا على نفسه، على نحو ما حاولت القيام به في هذه السنوات القليلة الماضية. وبالطبع، في الخدمة السياسية بالسودان - حيث عملت - يتعين على المرء أن يتعلم من اللغة العربية ما يكفي لتدبر أمره، وفي حقيقة الأمر، فإن المرء كان عليه خوض سلاسل من الامتحانات قبل الحصول على ترقيته، ولكن لم يكن هناك الكثير من التشجيع - أو الوقت حقًا - لتملك ناصية دقائق العربية الفصحى.

          ثم روى لي أنه كان لديه كاتب يدعى عبده إبراهيم، وكان معجبًا أشد الإعجاب بالشاعر أبي نواس الذي اشتهر بخمرياته. ويبدو أن عبده إبراهيم كان معتادًا على العكوف على الشراب كذلك، وغالبًا ما اضطر السيد بريتشارد إلى تجاهل وصوله إلى العمل في أسوأ هندام.

          استند إلى ظهر المقعد، وبعينين مغمضتين أنشد في عربية طنانة بيت أبي نواس الأكثر شهرة:

دع عنك لومي، فإن اللوم إغراء .. وداوني بالتي كانت هي الداء


          عقب بحماس قائلاً: «هذا هو الشعر!»، ثم أضاف: «حاولت أخيرًا قراءة بعض مما يسمى بالشعر الحديث، فوجدته مما يصعب فهمه، وما فهمته لم يؤثر فيّ كثيرًا».

          قلت إنني أميل إلى الاتفاق معه، ثم ذكرت نفسي بأنني المدرس، وأن الدرس خرج عن نطاق السيطرة، وأنه في حقيقة الأمر لم يبدأ إلا بالكاد، وقد أوشكت الساعة الآن تقريبًا على الانتهاء. وصممت على أننا في الدرس المقبل سنبدأ العمل على نحو جدي، وتبينت منه أنه لم يعرف بأمر السيرة الذاتية المبهجة، التي أنجزها الدكتور طه حسين، ومن هنا فقد أبلغته بأننا سنتصفح معًا المجلد الأول، وهو المجلد الذي يتناول طفولته في قرية بصعيد مصر. وكان على السيد بريتشارد القيام بإعداد صفحات عدة، ثم نقوم بتصفّحها خلال درسنا، وأبلغته بأن هذا الكتاب يمكن الحصول عليه من مكتبة أو أخرى من مكتبات شارع راسل.

          رغم أن تقدمنا اللاحق في سيرة طه حسين الذاتية كان وئيدًا فإنني أعتقد أننا كلينا قد استمتعنا بهذه التجربة. وكانت القراءة تتخللها أسئلة عدة من السيد بريتشارد حول دقائق النحو والأسلوب شديد الخصوصية والمتردد على نحو جذاب الذي استخدمه المثقف الضرير، وحول تفاصيل أواخر حياة الرجل العظيم وكتاباته الأخرى. وقد غدوت أدرك أن الدروس بالنسبة إلى تلميذي كانت تعني ما يتجاوز مجرد الإضافة إلى حصيلته من اللغة، حيث كانت معلمًا مهمًا في أسبوعه الخالي من الأحداث.

          كان حريصًا بصورة مفعمة بالتدقيق على ألا يأخذ من وقتي أكثر من ساعة، كان معه على الدوام المبلغ المحدد في ظرف يتركه في تلطف على المنضدة قبل أن ينبعث واقفًا.

          ثم سألته، ذات مساء بعد انتهاء ساعتنا عمّا إذا كان يريد قهوة، فنجانًا من القهوة التركية، فالتمعت عيناه، وهو يسأل: «هل لديك كنكة؟».

          - نعم، لديّ كنكة.

          - ومن أين أفلحت في ابتياع النوعية الصحيحة من البن؟

          أبلغته بأن هناك عددًا من الأماكن في سوهو وغيره من الأحياء.

          ارتشف من قدح القهوة مبتهجًا. قال وظل من الماضي يدف عبر محياه العجوز: «إنها تعود بي إلى الأيام الخوالي». للحظة خلت أنه بسبيله إلى استحضار الذكريات، ولكنه بدا أنه يكبح جماح نفسه. أدركت أن القهوة كانت أكثر سخونة من أن تشرب إلا في حسوات متباعدة، فسألته عما إذا كان يتذكر التعبيرات عن درجات الحلاوة التي يمكن للمرء أن يطلب أن تقدم القهوة بها. وقد منحه سرورًا عظيمًا على نحو جلي أن يعتصر ذاكرته بحثًا عن الكلمات المختلفة التي تستخدم في هذا الصدد.

          - وبالنسبة إلى القهوة الخالية تمامًا من السكر؟

          تردد ثم قال ظافرًا: «سادة»، وانبعث واقفًا، معتذرًا عن أخذ الكثير من وقت، ووضع الظرف المعد إلى جوار فنجان القهوة.

          مع استمرار الدروس، كنت أحرص على تخصيص ربع الساعة الأخير لشربنا القهوة معًا. وفي بعض الأحيان، ربما بسبب نقطة لغوية تكون قد برزت في غمار الدرس، كنت أسأله عن جانب من جوانب الحياة في السودان، وعلى نحو يوشك أن يكون بمنزلة اعتذار كان يسرد طرفة خطرت على باله. ذات مرة عقب بقوله: «كان المرء في تلك الأيام يشعر بأنه في قلب الحياة، وليس.. وليس...». وبسبب افتقاره إلى الكلمات المناسبة أو حتى لا يضايق نفسه (أو يضايقني) اكتفى بشبك يديه الكبيرتين أمامه في إشارة تعبّر عن نزعة نهائية جهمة.

          بمرور الوقت أحسست بنفسي في قرارة ذاتي، وقد اضطلعت بدور أكثر أهمية في حياته الجافة، دور شعرت بأنني غير راغب فيه، وغير مؤهل للقيام به. وفي الوقت نفسه أيضًا كنت على وعي بولع متزايد بالرجل العجوز الذي حدثت نفسي بأنه إلى جوار كونه أكبر مني بأجيال عدة، فإنه مختلف عني أشد الاختلاف.

          كنا قد قطعنا حوالي منتصف الشوط في قراءة المجلد الأول من سيرة الحياة الذاتية لطه حسين، عندما قال فجأة: «أتذكر أن صديقًا سودانيًا من أصدقائي قال لي ذات مرة إنه لو لم يولد سودانيًا، فإنه كان يود أن يكون إنجليزيًا، وقد كان رجلاً استثنائيًا - رجلا مثل طه حسين علا شأنه صعودًا من بدايات متواضعة - ونظرت إلى ذلك باعتباره مجاملة عظيمة لنا، وأجبته على نحو مماثل بأنني لو لم أكن إنجليزيًا لوددت أن أكون سودانيًا. ولم تكن هذه مجاملة جوفاء من جانبي، وإنما كنت أعنيها. فقد أحببتهم وأعجبت بهم كثيرًا، وبدا لي على الدوام أمرًا مؤسفًا أنهم والإنجليز لم يكن بوسعهم التقارب على نحو أكبر من مغادرتنا البلاد».

          أزال بعض ثقل البن عن فمه بأحد أصابعه، وحك إصبعه بجانب طبق فنجان القهوة.

          - لو أني كنت أحظى بأي نوع من الشجاعة - أعني الشجاعة الحقيقية، وليس النوع الذي يمنحون الأوسمة من أجله - لواصلت البقاء في السودان. ففي نهاية المطاف، هناك استقر فؤادي... وبدلاً من التقاعد والتحول إلى رجعي عجوز ينهي أيامه في فندق مطل على شارع كرومويل، حيث كل ما هنالك جسر وقيل وقال. كان ينبغي أن أترك الخدمة وأن أبتاع لنفسي بضعة فدادين من الأرض، ودارًا قروية صغيرة في مكان ما، وكان بمقدوري عندئذ أن أجد لنفسي فاطمة أو زينب حسناء، وإذا كان معنى ذلك اعتناق الإسلام، فما هو الأمر المفزع للغاية في ذلك؟ بمقدوري التفكير فيما هو أسوأ كثيرًا من أن أصبح مسلمًا ورعًا ينهض مع الفجر ليؤدي الصلاة الأولى من صلوات اليوم».

          رمقني بنظرة مصارحة من تحت حاجبيه الكثيفين، وأضاف: «لاشك في أن فاطمتي كانت ستدفعني إلى حتفي في وقت مبكر - فالسودانيات معروفات بعنفوانهن - ولكن من العبث قياس الحياة بالسنين... إن الحقيقة المحزنة هي أن المرء يمكن أن يحيا وقتًا أطول مما ينبغي، يمكن أن يعيش إلى ما يتجاوز عمره الذي ينبغي أن يحياه».

          كشفت نظرة مختلسة إلى ساعتي أننا قد تجاوزنا وقتنا بعشر دقائق، وساورني الشعور بأنه نادرًا ما تحدث بمثل هذه الصراحة إلى أي شخص، وأنه بعد أن تغلب على تردده الطبيعي في الحديث عن نفسه، فإنه يود الاستمرار، وكنت بدوري يجري إطلاعي على جانب آخر من العجوز، وأحسست بأن وقتي لا يجري تبديده من خلال الإصغاء إليه.

          أشرت بقولي: «ليس هذا بالشيء الذي يقدم عليه عضو في الخدمة السياسية بالسودان؟».

          أشار مشددًا على قوله: «أوه، كان حريًا بالإنجليز أن يكرهوا الأمر! وكان يمكن أن يقولوا في نواديهم المختلفة: (جعل بريتشارد العجوز المسكين نفسه واحدًا من أهالي البلاد). ولكن ما الذي كان يمكنهم القيام به في هذا الشأن؟ لاشيء... وإذا كان هذا هو ما أردت فعله ببقية عمري، فقد كان ينبغي علي المضي قدمًا وتنفيذه، إن معظمنا أكثر تخوفًا مما قد يقوله الجيران من أن يقدموا على شيء ينظر إليه على أنه غير تقليدي. ومثل هذا الجبن - كل هذا الجبن - يدفع ثمنه غاليًا».

          حدّق أمامه حالمًا لبعض اللحظات، وقد نسي وجودي فيما يبدو، ثم استجمع نفسه، وانبعث واقفًا، وخرج للبحث عن سيارة أجرة تقله.

          ذات يوم، وبينما كنت أقلب بعض أرفف كتبي، عثرت على نسختين من كتاب دراسي للغة العربية كنت قد ألفته وأصدرته في القاهرة قبل سنوات عدة.

          أبلغته في ختام زيارته التالية بقولي: «حسبت أنك ستود أن تحصل على نسخة من هذا الكتاب» وقدمتها إليه. أخذها بما يكاد يكون توقيرًا. وقال: «هل أنت واثق من أنه يمكنك الاستغناء عنها؟» وتطلع إلى صفحة الغلاف الداخلي، وقال: «هل لك في أن تكتب لي شيئًا فيها؟».

          لم يكن قد خطر ببالي أنه قد يتقدم بمثل هذا الطلب، وللحظة غاب عني ما يمكن قوله، ثم استعرت منه قلمه، وكتبت: «إلى السيد بريتشارد عربونًا للصداقة» ووقعت النسخة وأضفت التاريخ.

          قرأ ما كتبته، وابتسم: «هذا جميل منك للغاية، لسوف أعتبره بمنزلة كنز».

          انبعث واقفًا، وصافحني.

          قلت: «إلى اللقاء يوم الإثنين».

          رد قائلاً: «إن شاء الله». وكان حريصًا في ذلك، شأن مسلم ورع، على عدم الحديث عن أي شيء في المستقبل إلا بعد إضافة هذه العبارة.

          كررت قوله: «إن شاء الله».

          ولكن مشيئة الله قضت ألا يكون لنا درس آخر، ففي يوم الإثنين، وقبيل الساعة السادسة، دوى رنين الهاتف، وأبلغني صوت هادئ بأن المتحدثة هي مديرة فندق كينجسلي، وأن سيرهيو بريتشارد قبل نقله إلى المستشفى بعد إصابته بنوبة قلبية كان قد طلب أن تقوم بالاتصال بي هاتفيًا لتقول إنه لن يكون بمقدوره مواصلة دروسه.

          - يؤسفني القول إن سيرهيو قضى نحبه في سيارة الإسعاف في طريقه إلى المستشفى. ولسوف يفتقد كل العاملين هنا هذا السيد النبيل العجوز.

          أفردت له صحيفة «التايمز» المرتبة الأكثر بروزًا في عمود الوفيات.

          وبعد إيراد تفاصيل حياته العملية المميزة خلصت إلى ذكر أن زوجته كانت قد توفيت قبل سنوات عدة «في ظروف مأساوية» وأن ابنه الوحيد كان قد قتل في حملة شمال إفريقيا. ورغم ذلك، فإنني أحسب أن قلة من الناس قد شهدوا جنازته. وربما باعتباري خير أصدقائه في وقت وفاته كان يتعين علي بذل جهد القيام بذلك.
----------------------------
* مستشرق إنجليزي متخصص في الأدب العربي.
** مترجم من مصر.

 

دنيس جونسون ديفز *