قصص على الهواء

قصص على الهواء
        

تنشر هذه القصص بالتعاون مع هيئة الإذاعة البريطانية  - القسم العربي

لماذا اخترت هذه القصص؟

حسن حميد *

          اخترت هذه النصوص للاعتبارات الآتية: أولا: قصة (ثلاث صور) وذلك لما فيها من ذكاء، وسيطرة على الموضوع، وقدرة على العرض القصصي للموضوع ابتداءً من خبر صغير مفاده أن المدير العام للوزارة سيزور مدرسة ابتدائية، فتحرك الجهازان الإداري والتدريسي حراكًا غير اعتيادي من أجل استقباله.. ولم يشذ عن هذا الحراك سوى أحد الأساتذة الذي راح يغرق في المستودع بحثًا عن ورقة مهمة، هذه الورقة لم تكن سوى ثلاث صور لثلاثة تلاميذ كان قد درَّسهم، أحدهم بات طبيبًا ناجحًا، والثاني بات مديرًا عامًا لوزارة التربية، والثالث بات تاجرًا للممنوعات. ومن المدهش أن صورة مدير عام الوزارة كانت للمدير الذي جاء من أجل زيارة المدرسة، وأن سؤال المدير كان مخصوصًا بهذا الأستاذ الذي كان يبحث عنها، وعندما يلتقيان، الأستاذ والمدير العام للوزارة، يناول الأستاذ المدير صورته وهو طالب ابتدائي، بينما يناول المدير الأستاذ كتاب تعيينه وكيلاً للوزارة التي يعمل فيها. قصة فيها تسلسل منطقي، وجملة مأنوسة، وسعي حثيث نحو اختتام غير متوقع. ثانيًا: قصة (أحلام ثقيلة) لطرافتها، وسعة خيال مؤلفها، وقدرته القصصية البارعة في تتابع الأحداث وكأنها قاطرات مترادفة، فقد أنسن الأحلام وجعلها ترافق الكائنات دون أن تنسى ثقل المسئولية وواجباتها. قصة مدهشة حقًا. ثالثًا: قصة (ثرثرة قصيرة في ليل طويل) لأنها أشبه بالزجاجة المكتظة بالذكريات، والمرئيات، والأحلام المستقبلية في واقع التهمته الحرب وخربت نسيجه الإنساني.. حوار مدمى، وصراخ مكتوم، وضدية بادية بين أب وابنه، وقد صارت الحرب وآثارها موضوعهما الذي لابد لهما من اقتسامه. احتجاج إنساني في وقته المناسب تمامًا. رابعًا: قصة (ما حدث بالتفصيل) لأنها تنهض على بوح داخلي يدور حول أذيات الحياة، وسلوكيات الناس، ومشهديات القبح.. لرجل أراد تصويب اتجاه الحياة لتصير أكثر نبلاً، وجمالاً، وسموًا.. لكن المآل يقوده إلى مصحة عقلية ثم إلى الانتحار بصاعق كهربائي. لغة جميلة. وأسلوب لاهث متوتر يتناسب إيقاعه وإيقاع نفسية الرجل المتوثبة دائمًا. خامسًا: قصة (الجوزاء) لاعتمادها على المفارقة. امرأة تود قطع علاقتها بحبيبها فتكتب له رسالة وداع معللة، لكن وما إن تنته الرسالة حتى تقوم بحرقها كعادتها دائمًا، ثم تمنح ذراعي حبيبها ضمة دافئة، وقبلة طويلة، وقولها: أحبك جدًا. براعة في رسم المفارقة، براعة في تجسيد الرقة واللطف الأنثويين، وبراعة في استلال الخطف السامي الذي أوجد نهاية القصة. تهنئتي الصادقة لأصحاب هذه القصص، وآمل أن أراهم قامات أدبية كبيرة في طالع الأيام وهم الجدراء بالآتي الجميل.

-----------------------------------------

هذه هي القصص التي فازت في مسابقة القصة القصيرة في شهر أبريل والتي تبثها الإذاعة البريطانية ضمن برنامج «بي بي سي اكسترا» كل يوم خميس  الساعة الحادية عشرة بتوقيت جرينتش

ثلاث صور
طلعت مصطفى العواد (مصر)

          انتظار المدير العام أشعل القلق. الكل يدقق في أوراقه، ليتوارى بعيدًا، تحاشيًا لسانه السليط إلاّ الأستاذ أحمد. لم ترقبه الأعين سألوا عنه وإذا به غائص أسفل قاع جبل الورق. لم يسمع سوى صوت يهمس أين هي؟ أين هي؟

          قالوا: ماذا تريد؟ قال: ورقة مهمة.

          أشار عليه أحدهم: عليك بالمخزن. وعند الذهاب إليه استقبلته رائحة تزكم الأنف. تزحزح خطوتين إلى الخلف، لكن حاجته الى الورقة  زجت به داخله. العفن منشور هنا وهناك، أجولة كثيرة ملقاة بلا نظام، عقود من السنين تركت بصماتها عليها. لا شك أن البحث سيكون مضنيًا. بدأ بالجوال الأول ورقة ورقة، ولكن بلا فائدة... بالثاني.. بالثالث... لا ثمرة من هذا التعب. الغبار العفن سلب دافع بحثه عن الورقة, أحس بخدر رقيق، جلس ساندًا ظهره بجوال مازال قيد البحث. تساقطت عليه الأوراق المتهالكة، تاريخ قديم, كلما وقع نظره على واحدة منها عادت ذاكرته إلى الوراء. شريط الذكريات يمر أمام عينيه بانفعالات مختلفة، من حزن وفرح وضيق وانشراح وظلم وعدل. فجأة لمحت عيناه ثلاث صور صغيرة مرقت من ثقب في الجوال، ثلاثة تلاميذ كان أستاذًا لهم منذ ثلاثة عقود، انتبه قائلاً: يا لها من مفاجأة.

          الصورة الأولى للحسيني. في منتصف العام الدراسي الثاني انقطع عن الدراسة. سأل عنه وجده ساحبًا لحمار روث الجاموسة متجهًا إلى الحقل، إنه يعمل أجيرًا لأحد الأغنياء. لكن ماالسبب؟ كان الحسيني الأول في دروس الحساب. كان عليه أن يبحث عن السبب، علم أن والده تضخمت بطنه. كبده الذي تليف لم يتركه إلا عظامًا نخرة. باتت والدته ساهرة تفكر كيف تدبر القوت لأطفالها. فلم تجد إلا الحسيني يعمل أجيرًا تاركًا المدرسة إلى الشقاء المبكر، قال لنفسه: تلميذ نابغة سيكون له شأن كيف يتحول إلى أجير سائق لحمار.

          فاحتضن الحسيني وتكفل بتعليمه أما والدته فقد كلف زوجته تعليمها الحياكة.

          الصورة الثانية للسقا. كان والده أصم أبكم. السقاية هي مهنته، لا يعيش إلا على فضلات كسر خبز, كان السقا يجلس في مقعده مكسور العين يواري نفسه بركن الفصل. ثيابه مزركشة برقع ملونة. تلاحقه سياط ألسنة أترابه. تغزه في خلاياه. ولم يكن أمامه إلا أن ينكب على كتبه هاربًا من كل شيء.

          أما الصورة الثالثة، فقد رآها تحدق في وجهه وتموج كالبحر الهائج، تذكر صاحبها حامد وما فعله والده (سعادة البيه الكبير) عندما أعطاه خمسة من عشرة في الإملاء. انقلب نظام المدرسة. وعم الرعب الجميع

          قال له أحدهم: ألم تخف على نفسك؟ قال الآخر: انتظر ما سيحدث لك

          قال لهم: هذا مستواه.

          قالوا: نعرف...ولكن أباه «بك» كبير.

          قال في تصميم: لن أعدل الدرجة.

          قالوا له: أنت محول للتحقيق.

          الصور  الثلاث مرصوصة واحدة تلو الأخرى عشرات السنين مرت, ترى أين هم الآن؟

          الصمت يعم المكان. هدوء حذر لم يألف من قبل حفيف أقدام وأصوات متواترة, سعادة المدير العام يقف أمام المخزن وهو يتأمله، انتصب الأستاذ واقفًا. على جبينه حبات من العرق المترب, يمد كفه التي تحمل الصور الثلاث.

          قال الأستاذ: أحمد.. من .. لا أصدق.

          يقول له المدير العام: هل تذكرني يا أستاذ, أنا تلميذك السقا.

          يقول الأستاذ: لا أصدق.. انظر هاهي صورتك في يدي وأنت تلميذ بالصف الثاني.

أحلام ثقيلة
إلياس فوزي الريس (سورية)

          في كل مرةٍ وأنا في طريقي إلىالعمل، أطرح سؤالاً على نفسي، لمَ أنا هنا؟ ولماذا اختارت لي أيامي عملاً لم أعد أتحمله ولم يعد يتحملني هو ؟ دائماً أفكر كيف لي أن أكسر قيود الروتين, فظروف عملي وطباع رؤسائه كلاهما كان من الوزن الثقيل, بحيث لم أكن لأتحمل ثقلهما معاً.

          هذا ما كنتُ أفكرُ بهِ أما الآن فسأقصُّ عليكم ما حدث لي بسرعة فلا أريد أن يطول حديثي معكم وأيضاً أرغب بإجابةٍ لسؤالٍ سأسألكم إياه في النهاية....

          ذات يوم وفجأة وفيما أنا أذهبُ إلى هناك (العمل)،رأيت شخصا طويل القامة, أنيق الشكل،كنت ألمحه يرافقني منذ بداية الطريق, في البداية لم أُعره أي أهمية،تابعت مسرعاً حتى أصل باكراً .

          جلست على المكتب وطلبت قهوتي الاعتيادية وإذ ومن خلفي يأتي صوتٌ غريب قائلا:

          فنجانان من فضلك.

          استغربت من هذا الصوت, التفتُّ فرأيت نفس الشخص الطويل:

          - من أنت رأيتك ترافقني صباحاً إلى العمل, وهأنا أراك داخل العمل، ماذا تريد؟

          - لا أريد شيئا منك, ولكني سأحقق لك شيئا دائماً ما تطلبه.

          - إني لا أطلب شيئا.

          - بلى.. أنت دائماً تفكر كيف يمكن أن تصبح مديراً لهذا العمل وأنا هو حلمك الذي سيحقق لك ذلك،, وواجبي مرافقتك حتى تصيب هدفك.

          - إذا كنت حلما..كيف تتجسد وتصبح إنسانًا!

          - هواجسك ورغبتك الشديدة هي التي أيقظتني وأوجدتني.

          من هذه اللحظة وهو معي في كل مكان, في بيتي وعملي ونزهتي وفي أفراحي وأحزاني، كنت أتبادل الحديث معه تارةً، وفي كل مرة كان يذكرني أنه مجرد حلم، حلم  سيغادرني يوماً.

          وبالفعل, ذات صباح مشرق, أذكر استيقظت دون أن أجد صديقي الثقيل، بحثت عنه في كلّ أقبية المنزل فما من أثر, للحظة شعرت بالسرور لأني أخيراً تخلصت منه، ارتديتُ ثيابي وتوجهتُ إلى العمل وما إن رآني زملائي هناك حتى أخذوا يبتسمون لي ويقولون:

          مبارك.... مبارك يا أستاذ،مبارك المنصب الجديد.

          عرفت فيما بعد أن رئيس الشركة قد أطاح بالمدير السابق ونصبني أنا مديراً جديدا،لم أتمالك نفسي في البداية،كانت فرحتي لا تجاريها فرحة، وعرفت لحظتها لماذا فارقني ذلك الأنيق، فالحلم أصبح حقيقة. ذهبت إلى المكتب الجديد بسرعة، دخلت من الباب الذي كان دائماً يخيفني وإذ هناك أربعة أشخاص داخل المكتب، كانوا متشابهي الملامح، وكانوا جميعهم يبتسمون لي،سألتهم :

          - عفواً.... لكن من أنتم ؟

          قالوا: نحن أحلامك الجديدة.

          قال الأول: أنا حلمك في أن تصبح رئيساً لهذه الشركة, وقال الثاني: أنا حلمك في أن تستبدل منزلك, وقال الثالث: أنا حلمك في أن تبتاع لنفسك سيارة جديدة, وقال الأخير: أنا حلمك في أن يصبح لديك رصيد مصرفي كبير.

          عندها تغير السؤال في نفسي فعندما كنت لا أملك سوى حلم واحد كانت حياتي عسيرةً ومتعبة, أما الآن فقد أصبح عندي أربعة، أخبروني أرجوكم ماذا أفعل بهم؟.

الجوزاء
هبة عصام الدين (مصر)

          مرت ساعات وهي تقطع أرجاء غرفتها جيئة وذهابا، تغيرت ملامحها ألف مرة، وتشابكت أصابعها خمسين، وأيقظت مرآتها بضعًا وعشرين، هي عدد سنوات عمر عاشتها بقوة الدفع، لم تمارس خلالها فعل الحياة.

          حريتها قرض بنكي بفائدة مركبة.

          لها قلب وجناحا طائر... لكن النوافذ مغلقة.

          تذكرت النسر الذي لم يعرف الطيران طيلة حياته الداجنة، وعندما ألقوه من عل، انتفضت فطرته فحلق قبل أن تصرعه الصخور.

          تملكتها الفكرة، أخرجت قلمًا ودفترًا، وخطت رسالة تقول:

          «دافئة هي حياتي معك، لكني ممزقة، ملاك أنت، وبداخلي ألف شيطان، أرستقراطي أنت، وروحي تدخن النارجيلة في مقهى شعبي، مقيم أنت بمدنك الهادئة، ويقيني معقود في قدم مسافرة»

          فماذا لو تحررنا من ذلك القيد الوهمي؟

          أشياء جميلة تجاهك، لكنها لا تعصم القلب من جموحه.

          ولأني امرأة، تطاردني مشاعر ذئب إرثية، ولأنهم علّموني كيف أبيعك حريتي أيًّا كنت، وأيًّا كانت البيانات في بطاقة هويتك، أحاول بين الوقت والآخر ارتكاب المصارحة، فأجدني على حافة جرف، أتشبث بياقتك، ويأخذ اعترافي شكل قبلة طويلة، لا تفهمها، فأتعذب أكثر، وتجتاحني كلمة اعتذار، فأنطق كلمتي: أحبك جدًا!

          أيها النقي:

          هأنذا أمنحك القدرة على سبر أغواري، لا تغضب، فقط تنفس بعمق، واستمر في الغوص إلى أبعد نقطة حيث تتكون الدمعة والابتسامة، وحيث أنا، تلك التي يدنو إليك بعضها، ويأتى الآخر، ليس هربًا منك، بل هربًا إلي، ولأني لست اثنتين، سأختارني، وأرحل بعيدًا... وداعًا».

          طويت الرسالة، وحدقت طويلاً في سقف الغرفة.

          بعد ساعات أخرى، كان الرماد يغطي بقايا رسالتها في سلة مهملات سميكة, ألِفت جدرانها النحاسية ذلك الاحتراق، وكانت ذراعاه تطوقان خصرها، وهي تمنحه قبلة طويلة، تنظر بعدها في عينيه قائلة: أحبك جدًا!!.

ثرثرة في ليل طويل
جودت جالي (العراق)

          أظنك ناقما علي, وأظنك تستعجل يوم فراقي وحري بك ألا تستعجله، لأنه سيكون يوم ضياعك. مشكلتك أنك لاتستطيع العيش بعدي. من يطعمك أو يكسوك أذا مت أو حدث لي مكروه ؟ أنا وأنت وحدنا في هذا البيت المتداعي. ماتت أمك وتركتك لي. لم تكبر بعدها أبدا وإن ازددت طولا وجسامة، كما كانت أمك بالضبط, وسمينا وأبله مثلها رحمها الله.

          قل لي.. أي لعنة حلت عليك في غيابي؟ ألم تكن متفوقا في الابتدائية وكنت الأول في صفك دائما؟ ماذا خرب عقلك في السنوات التي تركتك فيها عند أخوالك؟ ما إن عدت من الأسر وذهبت واستعدتك حتى وجدتك هكذا. لم أدخر وسعا لشفائك. قالوا تلبسك جني فقصدت بك إلى الدراويش مرارا. لم أكن آسفا على الأموال التي أنفقها في تلك السفرات البعيدة المرهقة، ولكن في آخر مرة، حين عمد ذلك الدرويش الى جمع يديك بسيخ يخترقهما حتى لاتحركهما ورجليك بسيخ آخر حتى لاترفس، شاهدت رعب عينيك واصفرار وجهك, المغطى بالعرق وارتعاش جسمك كالسعفة, فشق علي ذلك، أن  أعرضك للعذاب من دون طائل. أما الأطباء فإن مراجعتهم دوختني,ولكن ماذا بك ؟ تأكل من خير يدي وتحاول أن تضربني لأني وبختك على إبقاء التلفزيون مفتوحا، طوال الوقت تريد أن تشاهد قناة الأغاني الخليعة السخيفة تلك,أنا لاأبخل عليك بمدحي حين تحسن التصرف ولكني مستعد لعقابك بشدة حين تسيئه كما فعلت أول أمس أذ أدبتك بعكازي القوي. ماذا دار في خلدك السقيم ؟ قلت في نفسك هذا رجل قارب الستين, جريح حرب لايقوى على صرعي وسأقضي أيامي آكل من طعامه وأصفعه. أنا أفكر بك كثيرا وأنت لا تفكر إلا.. ربما لاتفكر أصلا.

          عندما ذهبت لزيارة بعض أقربائنا في العيد بقي بالي مشغولا بك، كنت قد تعبت من السير عند عودتي، ففكرت وأنا جالس أمام مقهى صغير أحتسي الشاي أن أي سائق سيارة مفخخة مغفل يمكنه أن يقودها بسرعة ويقودنا الى حتوفنا. لو هاجمنا أحد حملة الأحزمة الناسفة فلن أستطيع النجاة وأنا بعرجي هذا. فكرت بك ياأحمق. فكرت بمصيرك أذا لم أعد إليك. ستظل أياما تنتظرني الى أن تتعفن وتموت خوفًا. عدلت عن السير في الشارع وسلكت طريقا طويلا متعرجا عبر الأزقة يوصلني الى المرآب الذي ركبت منه الى هنا. الحياة في الخارج أصبحت خطرة خطرة جدا ياولدي.أنت تفهم هذا على الأقل فأنت لو خرجت الآن لتجلس بباب الدار لا تلبث أن تعود مسرعا, تعود إلى جواري.. جوار أبيك, وهو دأبك منذ زمن بعيد, من قبل زمن القصف والعبوات الناسفة وسيارات «الهمر» المتجولة التي تخيفك كثيرا. الحمد لله أننا لسنا بحاجة الى الذهاب بعيدا لكسب الرزق, لدينا الراتب التقاعدي وبسطتنا المباركة وإلا فماذا كنا سنفعل؟ أنا أعرج وأنت.. الحق أقول لك.. أنا أيضا مثلك لا أحب الابتعاد عن البيت. حتى عندما أذهب لقضاء بعض الوقت في مقهى السوق لاأشعر بالراحة فأصحابي صاروا مملين.. المقهى نفسه لم يعد كما كان, احتلت الشرطة بناية قريبة منه جعلتها مركزا, والمقهى يغص بهم طوال الوقت, أكثرهم شبان يسرفون في الضحك والمزاح بصوت عال ولا هم لهم وهم جالسون هناك سوى العبث بهواتفهم النقالة. إن الانتحاريين مغرمون هذه الأيام بأستهداف المقاهي التي تلوح فيها قمصان زرقاء، ارفع بطانيتك عن الأرض.. هل تريد النوم؟ معك حق.. التيار الكهربائي مقطوع والوقت منتصف الليل تقريبا والجو بارد, أنا أيضا سأنام. احذر أن تعبث وأنا نائم بالفانوس تريد إشعال سيجارتك منه أو ماشابه فتحرقنا, أنا أعرفك.. أعوج لاتفعل شيئا كما يجب وربما تركت الفانوس في مكان غير مناسب. خذ ولاعتي هذه! ضعها عند رأسك الخسيس سأنام.. وأنت لاتنم على بطنك.. النوم هكذا يسبب لك أشياء سيئة في الليل. إذا نمت هكذا ضربتك بالعكاز!.

ما حدث بالتفصيل
محمد العريشية (ليبيا)

          التقيت به مرة أخرى، كان أشد نحولاً من المرة السابقة، وجهه مظلم، ليس لأن الشمس لوحته، بل لأنه يعكس ما في داخله، شعره مرتّب ومسرّح إلى الخلف، ويبدو - من شعيرات كثيرة ملتصقة بخيط من العرق يسود حافة ياقة قميصه - أنه قد قصة للتو... عيناه غائرتان ومضطربتان ونظرته مشتتة وقاسية.

          كانت السماء ملبدة بالسحب والريح تهب بقوة والمدخل مزدحمًا وصاخبًا بالضجيج حيث تختلط أصوات الشباب والنساء بصراخ الأطفال وأصوات السيارات العابرة، رأيته يمشي وسط نهر متدفق من الأجساد وسيجارة مطفأة تتدلى من زاوية فمه اليسرى، حدق كل منا في عين الآخر مباشرة فحيّاني برفع حاجبيه، ثم اختفى وسط دوامة الأجساد المحتشدة.

          حينذاك كنت أمضي سحابة يومي في حديقة الحيوان، جالسًا على مقعد خشبي، مستغرقًا في تأمل كائنات تعبّر عن وجودها بالدوران حول نفسها، والتململ والتحديق ببلاهة في كائنات تتطلع إليها. ظاهريًا أشبه غيري. لكن في أعماقي كنت مثلها، أدور حول نفسي، وأتململ وأحدّق أيضًا في من يتطلع إليّ. وبينما كنت أراقب أثر الانفعالات على أسد استفزته مجموعة من الأولاد، كانت الساعة قد تجاوزت الخامسة، وتناهى إلى سمعي لغط رجلين جلسا على مسافة وطفقا يتجادلان حول كرة القدم، وحينما كان لغطهما يعلو، مرّ فجأة من أمامي وسار خطوتين تقريبًا، ثم وقف حتى لامس كتفي كتفه وأخذ يمشي معي، وبعد فترة صمت قال:

          - لنذهب، أكاد أختنق هنا.

          جلسنا في أول مقهى صادفنا، طلب قهوة، وظل جالسًا وهو شارد يفكر في شيء ما، يلف بين أصابعه سيجارة وأخيرًا أشعلها وقال:

          - حين وقفت إزاء تمثال الفتاة، وأمعنت النظر طويلاً في ملامحها الخلاسية، أحسست بأني خفيف، رشيق، دافئ كما لو أن شمسًا أشرقت في قلبي بعد أيام مطيرة وباردة، في ذلك الصباح هاجت في نفسي ذكريات بعيدة. حتى شعرت كما لو أني «كمال» الذي كنته يومًا ما، حين لمحتها غارقة في تأمل التمثال، سيطرت عليّ طريقتها في التأمل فبادرتها بسؤال:

          - لماذا الجسد في الفن مفعم بالحياء والنقاء؟

          نظرت إليّ طويلاً ثم التهمت التمثال بعينيها قبل أن تنظر إلي مرة أخرى وتذهب.

          عاد التعب مرة أخرى، وألقوني في مصحة كريهة سيطر فيها عفن الدواء والبول على روائح الذكيات، وما كان يدفعني إلى الصراخ ومحاولات الانتحار، تلك الريح القذرة، التي كانت تداعب شعري وأنا أحاول أن أجمع ملامحها على اللوحة كأجزاء لغز مهشّم، كنت أشعر وكأن في كل جذر شعرة دودة تنخر مخي.

          كان يتكلم طيلة الوقت من دون أن ينظر إليه، وفجأة رمقني بنظرة خاطفة، ومكث هكذا لا يحرّك ساكنًا، ثم احتسى قهوته واستأنف قائلاً:

          - حياتي مؤلمة، وإذا جمعتها تتحصل على كولاج من العفن البشري.

          كنت أستمع إليه بلا حركة، وأنا على وشك أن أسأله عنها، لكنه مدّ لي سيجارة وأشعلها، وأخذ نفسًا عميقًا وقال:

          - تحطّم تمثال الفتاة بقادوم كبير، وألصقوا التهمة بي، ثم وجدوا الفتاة مقتولة بعشر طعنات في جزئها السفلي، واتهموني بقتلها، ودليلهم الهش نسخ مبعثرة من كتاب برغوي قاتل البنات.

          وقف ونظر إلى الطقس في الخارج ينذر بالمطر، إذ يسمع زئير رعد بعيد، رمق الرواد الذين أخذوا يبرحون المقهى قبل الأوان، ثم جلس وقال:

          - لست أنا صدقني... إنهم هم، ليذهبوا إلى الجحيم الآن، وليتركوني وشأني، أصعد مرتفعات الحياة الوعرة بمفردي، هائمًا على وجهي ككلب نخر الدود أذنيه، مصطدمًا بلا اكتراث بعيونهم المدجنة المهزومة، ورءوسهم الغائرة في أعناقهم، إنهم هم الحثالة الذين لا يعرفون شيئًا سوى نهش بعضهم بعضا، والخاسر يمسح مؤخرته بيده ويهرب.

          وضع إصبعه الصغرى في كوب القهوة، ولعق رغوة الحليب، ثم امتصّ إصبعه وقال:

          مرة كنت جالسًا في مقهى وطلبت قهوة بالحليب، زمّت النادلة شفتيها ونعبت:

          - نبيع قهوة فقط... وذهبت.

          غرقت في ضباب أفكاري هنيهة ثم صرخت:

          - أين الحليب..؟

          عادت مسرعة وفتحت أزرار قميصها العلوية، أخرجت ثديها وسكبت قطرتين في الفنجان، تغير طعم القهوة، وأصبح كمذاق السياسة، قمت وأفرغت محتوى الفنجان على المنضدة وناولتها نصف دينار، سحبت سحاب بنطالها ووضعته هناك، وطرحت نفسها أرضًا فاجتمعوا حولي وضربوني...!

          وحدث مرة أخرى أن كنت في مطعم البرق، وكان مزدحمًا عن آخره، والضجيج كما لو كان نملاً يمشي على حبل أعصابي المتوترة، طلبت لحم رأس مشويا فتأخر الطلب، كانت الطلبات تتردّد من نادل إلى آخر، والصخب يزداد انفجارًا ويزداد الطنين في رأسي، روائح البطاطس المقلية والعصبان والدجاج المشوي تختلط برائحة المطعم العطنة، رفعت رأسي فواجهتني مروحة معلقة في السقف يلطخ أذرعها براز الذباب وهي تدور محدثة صريرًا كتكسّر العظام، تناولت من جيبي علبة السجائر، وقبل أن أشعل واحدة سقطت من يدي وسط الأوراق وأعقاب السجائر. نظرت بتركيز إلى صورة امرأة تكشف عن منبت نهديها مثبتة على مرآة كبيرة، وجهها شاحب وكأن ألمًا في قلبها. أناس يخرجون وآخرون يدخلون، وجوه مرعبة، أطفال ذبلت ملامحهم قبل الأوان، نادل بذراع واحدة يحرّك كبدًا مشوية، آخر بلحية قذرة يدخل أسياخ السجق، وفجأة وسط الزحام الشديد فقدت السيطرة على نفسي. واستولى عليّ دوار غريب وما أتذكره الآن رجل مسن شوّه وجهه البرص، كان يلتصق بي، عب زجاجة بيبسي وهو يسعل سعالاً حادًا، ثم اندلقت من بين شفتيه كتلة مخاط مصحوبة بدم وقعت على ظاهر يدي، تناولت آخر منديل في العلبة ومسحتها وانتشر بعد ذلك خبر وفاته مسحولاً بالأقدام.

          أشعل سيجارة وأبقاها منتصبة على المنضدة وقال:

          - لست أنا. أليس كذلك؟ لكن لماذا ألصقوا التهمة بي؟

          ثم دنا مني وهمس:

          - حسنًا، ذات صباح ماطر دخلت الفندق الكبير فعاملني العامل بقسوة، وادّعى أن ثيابي وسخة، قذرة، أمسكت بنفسي من خناقها كي لا أرتكب حماقة، لكن واجهة الفندق تحطمت، احزر ماذا فعلوا؟ مشّطوا الشوارع شبرًا شبرًا حتى عثروا عليّ واحتجزوني لأيام.

          سكت وعبس وراح يجعد علبة السجائر بيديه، ثم فجأة هبّ واقفًا خلع معطفه وألقى محتوى فنجان القهوة في وجهي وصرخ:

          - خذ. اشرب قهوتي يا رجل.

          ثم جلس ودخل في نوبة ضحك طويلة وقال:

          - ترفض أن تشرب قهوتي يا رجل. سامحك الله. لست مصابًا بذات الرئة.

          ارتدى معطفه وأردف:

          - لكن من يراني يدّعي بأني قمت بأشياء سيئة.

          وأخذ يضرب مسند الكرسي بقبضتيه حتى فصله ثم وقف وقال:

          - انظر، لو قمت بضرب اصبعي في بطن النادل البدين هل تعدّ ما سأقوم به منافيًا للأخلاق؟ أو أن أمسح واجهة المقهى بهذا المسند. انظر.

          وهشّم الواجهة، ثم توجه نحو رجل دخل المقهى وغرق في دخان سيجارته فأوسعه ضربًا بالمسند، شجّ رأسه وانبثق دمه، ثم راح يذرع المقهى بخطواته الواسعة وهو يركل ما في طريقه ويهوي بالمسند على الذين يحاولون الاقتراب منه وهو يضحك ويصرخ:

          - اشرب. القهوة على حسابي يا رجل.

          وضعت ذراعي في الحبس لأسبوعين، وحين شفيت قدمي وتمكنت من المشي ذهبت إلى زيارته في المصحة. قال الموظف وهو يعطيني ظهره:

          - لقد مات مصعوقًا بالكهرباء أو بالأحرى قتل نفسه بنفسه.
------------------------
* قاص فلسطيني ورئيس تحرير مجلة «الموقف الأدبي» السورية.