ثمانون عامًا ومجمع الخالدين بلا امرأة

ثمانون عامًا ومجمع الخالدين بلا امرأة

في كل انتخابات يجريها مجمع الخالدين بالقاهرة... ننتظر أية بارقة أمل فيها ترق قلوب كبارنا من المجمعيين الخالدين فيختارون أختنا حواء مَن بين من يختارونهم لعضوية المجمع... ولكن مع الأسف تبدأ هذه الانتخابات وتنتهي بحمد الله، ولا تختار المرأة لهذه العضوية، ويبقى الوضع على ما هو عليه منذ قرار تأسيس المجمع في عام 1932 واختيار أعضائه وممارستهم للعمل عام 1934، أي ما يقرب من الثمانين عامًا... والمرء يأسف حين يظل مجمع الخالدين على هذا النحو عازفًا عن المرأة، محرومًا من مشاركتها في العمل، أو حتى عازبًا بلا امرأة طوال هذه السنين دون كلل أو ملل!

لست أدري إلى متى سيظل المجمع على هذا الحال؟ هل لحين أن يصل عمره إلى قرن أو يزيد؟ أم تراه ينتظر ثمانين عامًا أخرى يكون الأعضاء الموقرون فيها قد فكروا وتدبروا، بحثوا ودرسوا، فحصوا ومحصوا ليكوِّنوا رأيًا قاطعًا مانعًا جامعًا... بالنسبة للموافقة على عضوية المرأة، واختيارها للعمل جنبًا إلى جنب الرجل بالمجمع، والحكم النهائي بأهليتها أو صلاحيتها في هذا المجال!

لقد تكون المجمع في بدايته عام 1932 من عشرين عضوًا، نصفهم من المصريين، والنصف الآخر من غير المصريين (أشقاء عرب وأجانب مستعربين) ولم يكن هناك وجود للمرأة ضمن هذا العدد. وفي عام 1940، رُئيَ ضرورة زيادة هذا العدد إلى ثلاثين عضوًا على أن تنقص نسبة الأعضاء غير المصريين (عرب ومستعربين) إلى الثلث، فيصبح عدد المصريين عشرين رجلًا، وغير المصريين عشرة، ولم يكن للمرأة نصيب في هذا العدد. وفي عام 1946، رُفع العدد مرة أخرى بإضافة عشرة أعضاء، أطلقوا عليهم وقتئذ «العشرة الطيبة» فأصبح العدد أربعين عضوًا وهبطت نسبة غير المصريين إلى الربع ليرتفع عدد الأعضاء المصريين إلى ثلاثين عضوًا.. ولم نجد بينهم امرأة واحدة، وحتى حين انضم مجمع دمشق إلى مجمع الخالدين بالقاهرة كثمرة لوحدة مصر وسورية تحت مسمى الجمهورية العربية المتحدة عام 1958، لم نجد في اتحاد هذين المجمعين - مضافًا إليهما عشرون عضوًا من العرب - أية امرأة! وحتى يومنا هذا لا نجد بين أعضاء المجمع امرأة واحدة، رغم تجدد العضوية المستمر بسبب رحيل بعض الأعضاء وإحلال أعضاء جدد محلهم من الرجال في عملية أشبه ما تكون بعملية الإحلال والتجديد المتبعة في الهيئات والمؤسسات، والتي لا تفرق في اختياراتها بين رجل وامرأة!

ولا أعرف سببًا يدعو المجمع إلى اتخاذ هذا الموقف من المرأة طوال الثمانين عامًا الماضية، رغم ما حققته من الإنجازات في مجالات كثيرة، وتبوأت أكبر المناصب حين أصبحت وزيرة وسفيرة ورئيسة للجامعات والهيئات والمؤسسات وقاضية في المحكمة الدستورية العليا، إلى جانب كونها كاتبة وأديبة وعالمة وأستاذة للآلاف من الشباب في الجامعات، ومحورا من محاور الحياة الثقافية العربية... ولعلنا بذلك ندرك بأنها تعرف أكثر من بعض الرجال، الكثير من أسرار اللغة والعلم.

مرشحات ولكن..

صحيح أننا أحيانًا نسمع أخبارًا عن ترشيح إحدى النساء المبرزات في المجالات المختلفة للعضوية مثل الراحلتين الدكتورة سهير القلماوي والدكتورة عائشة عبد الرحمن (بنت الشاطئ) أو الدكتورة عائشة راتب أو غيرهن، وينتهي الأمر عند هذا الترشيح ذرًا للرماد في العيون، وكأن المجمع يصر ويصمم طوال الثمانين عامًا على أن يستخدم مع المرأة وحدها تلك القاعدة الذهبية للانتخابات، التي تقول: «الترشيح في المجمع مجاملة وترضية، أما الاختيار والتصويت فيه فهو عهد وأمانة» ما يعني أن الأمر لا يتعدى كونه مجاملة وترضية لهذه المرأة التي لم تعد في نظر المجتمع مجرد أسطورة، أو لغز، أو افتراض خيال، أو حتى أغنية حب يتغنى بها الرجل أو سلعة تستغلها وسائل الاتصال بالجماهير في إعلاناتهم المصورة... إنما المرأة أصبحت واقعًا اجتماعيًا لا غنى عنها، ولا معدل ولا مناص عن مشاركتها للرجل في كل مجالات الحياة بلا استثناء.

وصحيح أن مواد المرسوم الملكي بإنشاء المجمع عام 1932 وعددها عشرون مادة، وما تبع هذا المرسوم من قرارات وقوانين تنص على تكوين المجمع من العلماء المعروفين بتبحرهم في اللغة والأدب والعلم، غير متقيدة بجنس أو لون أو حتى جنسية. وأن هذا المرسوم وما تلاه من قوانين قد ربط العضوية بمهمة المجمع ورسالته تجاه المجتمع، وباعد بينها وبين الاعتبارات السياسية والطائفية، ولم يباعد في أي من مواده بينه وبين المرأة... وهكذا جاء المجمع اللغوي هيئة عالمية وليست إقليمية لا تعترف بالتفرقة بين رجل وامرأة، وفي اختيار أعضائه العاملين احترام هذه المبادئ فكان نصفهم كما رأينا- من المصريين والنصف الثاني من غير المصريين، فكنت ترى المصري إلى جانب العربي (عراقي أو سوري أو تونسي أو مغربي أو أردني) إلى جانب الأجنبي (ألماني أو فرنسي أو إيطالي أو إنجليزي) ولم يقصر في واحدة من هذه المبادئ سوى في عدم اختيار المرأة، حيث لم يكن في مرسوم إنشائه أو في أي من القوانين التي تبعت هذا المرسوم نص واحد يقر صراحة أو ضمنًا بتحريم العضوية عن المرأة.

وصحيح أيضًا أن حرمان المرأة من عضوية المجمع غير متفق عليه علنًا من كل الأعضاء منذ أن بدأ إلى يومنا هذا، باستثناء ما قيل عن الأستاذ العقاد بأنه في الستينيات قد عارض اقتراحًا بترشيح المرأة لظروف وقتية عارضة، لعلها كانت نتيجة لمعركة نشبت بينه وبين الدكتورة عائشة عبد الرحمن وزوجها الأستاذ أمين الخولي، وكانت لهذه المعركة تداعياتها الخافية! والثابت أن الأستاذ العقاد كان عنيفًا حادًا في معركته مع الدكتورة بنت الشاطئ إلى درجة أنه حين سُئل عن موقفه منها كامرأة رد مستنكرًا: «هذه التي تسألونني عنها ما علاقتها بجنس النساء!». وطبيعي كما هو معروف عن الأستاذ العقاد أنه يستطيع أن يأتي بتبريرات لأي موقف يتخذه، حيث رأى أنه لو وافق على عضوية المرأة في المجمع فلابد أن يسبق ذلك موافقته على تغيير بعض الأوضاع الاجتماعية المتعارف عليها، كأن نقول مثلًا «السلام عليكن» بدلًا من أن نقول «السلام عليكم». ولذلك نقول إن هذا الرأي المنسوب للأستاذ العقاد، إن كان قد قاله فإنه يعتبر رأيًا عارضًا مرتبطًا بواقعة معينة هي ترشيح الدكتورة بنت الشاطئ لعضوية المجمع في وقت كان لها رأي مهاجم لكتاباته، إلا أن ما نعرفه عن الأستاذ العقاد أنه لم يكن عدوًا للمرأة أو رافضًا لها في أي من المجالات حتى يتخذ منها هذا الموقف الحاد. وكيف يكون كذلك وقد اهتم بالمرأة فأفرد لها صفحات ثلاثة كتب، هي: «المرأة في الميزان» و«المرأة تلك اللغز» و«هذه الشجرة»، إلى جانب عشرات المقالات من عام 1907 إلى عام 1964. وظل مهتمًا بها محبًا لها إلى آخر لحظة في حياته، حيث وجدوا بجواره على فراش الموت أبياتًا من الشعر تناجي المرأة وتؤكد أن هذا القلم الجبار كان يتحول في يد صاحبه حين يكتب عن المرأة إلى قلب صغير ينبض بأجمل العواطف وأرق الأحاسيس.. فمحال والأمر كذلك أن يكون هذا هو الموقف الحقيقي أو المستمر للأستاذ العقاد من ترشيح المرأة لعضوية المجمع، بل الثابت أنه قد رشح الدكتورة سهير القلماوي للعضوية في واحدة من الانتخابات.

لا تحريم ولاقبول

والعجيب أن يكون تحريم عضوية المرأة في المجمع غير متفق عليه من كل المجمعيين بدليل المناقشات الطويلة، والجدل المستمر، والأخذ والرد حول هذا الموضوع وغير ذلك من أشكال الحوار الذي يدور عادة حول أمر غير متفق عليه من الجميع، هذا إلى جانب أن موضوع عضوية المرأة في مجمع الخالدين كان من الموضوعات الحيوية التي ناقشها المجمعيون منذ بداية المجمع، وخصوها بالكثير من عنايتهم واهتمامهم، واستأنفوا النقاش فيها مرات منذ الثلاثينيات حتى منتصف السبعينيات.

فمثلًا في الجلسة رقم 11 بتاريخ 13 / 2 / 1934 فتح باب المناقشة العضو المجمعي الشيخ أحمد السكندري، فاقترح على الحاضرين فكرة مشاركة المرأة في أعمال المجمع الجديد، ليؤيده العضو الدكتور فارس نمر متسائلًا: وما الذي يمنع من مشاركتها؟ لنفرض أن امرأة درست العلوم والآداب دراسة وافية فهل نحرمها من أن تساعدنا في أعمالنا؟ ويؤيد اقتراح العضوين السابقين الدكتور منصور باشا فهمي، أمين عام المجمع قائلًا: عندنا في الجامعة فتيات يتلقين العلم فإذا نبغت إحداهن وأصبحت على علم ومعرفة فلماذا لا يستفاد منها في أغراض المجمع؟ ولماذا لا تراسلنا أو تشترك معنا في بعض الأعمال والبحوث؟

رأي المستشرقين

وتحتدم المناقشة بين مؤيد ومعارض، مما دعا رئيس المجمع وقتئذ الأستاذ محمد توفيق رفعت إلى الاستشهاد برأي الزملاء المجمعيين الأجانب الموجودين، على اعتبار أنهم أسبق منا في هذا المجال قائلًا: «لنسأل إخواننا من المستشرقين، وهنا انبرى عدد من المستشرقين الأعضاء فقال كارلو ألفونسو نلينو شيخ المستشرقين الإيطاليين: «انتخاب النساء في المجامع الأوربية ليس ممنوعًا وهناك أعضاء عاملات في بعض البلاد الأوربية». وقال هاملتون ألكسندر جب شيخ المستشرقين الإنجليز: «ليس في إنجلترا مجامع رسمية بالمعنى المعروف ولكن هناك الكثير من الجمعيات العلمية والأدبية واللغوية فيها عضوات عاملات وبعضهن رؤساء». وقال لويس ماثينيون شيخ المستشرقين الفرنسيين: «ليس هناك ما يمنع أن تكون المرأة عضوًا بالمجمع، ففي بلجيكا مثلًا انتخبت عضوات عاملات بمجمعها». وقال إنوّ ليتمان شيخ المستشرقين الألمان: «الآن ليس عندنا عضوات عاملات بمجمعنا، ولكن لدينا عضوات مراسلات وخبيرات». ويلتقط الخيط الدكتور فارس نمر ليقول: «وبناء على ذلك إذا نبغت بيننا امرأة، أليس مما يفخر به مجمعنا أن ينتخبها عضوًا معنا؟».

ويعلق العضو حسين والي وكأنه يغلق باب المناقشة إلا أنه يجعل هذا الباب مواربًا، حيث يقول: «هذا الموضوع سابق لأوانه، إلا أننا لا نريد أن ننكر على النساء فضلهن، فإذا نبغت سيدة في اللغة فحينئذ يكون من حقها على المجمع أن ينظر في أمر عضويتها أو رفضها شأنها شأن الرجل».

هذه خلاصة المناقشة التي دارت عام 1934، وتمر سنوات تزيد عن خمسة وثلاثين عامًا يتكرر فيها ترشيح الدكتورة سهير القلماوي والدكتورة عائشة عبد الرحمن (بنت الشاطئ)، ولا توفق إحداهما مع أنهما قد وصلتا بكل المقاييس وبشهادات شيوخنا وأساتذتنا إلى درجة من النبوغ قد لا تتوافر في كثير من الرجال على امتداد العالم العربي لكن دون جدوى!

ويستمر الوضع كما هو، المرأة تقف بباب المجمع ولا يُسمح لها بالدخول كعضو عامل أو مراسل حتى إذا كان عام 1974، وبالتحديد في الحفل العلني لاستقبال العضو الجديد محمد شوقي أمين، نراه في كلمته يجدد المطالبة بعضوية المرأة في المجمع مرة ثانية عاتبًا على هذا المجمع موقفه غير المبرر من المرأة, حيث يقول ما نصه: «بودي أن أقول للمجمع أنك وقفت ببابك أختنا اللطيفة حواء يطرق لها الباب طارق بعد طارق، ومازلت عنها عازبًا لم تأذن لها بالدخول وأمام عيني طيف الشيخ السكندري في الدورة الأولى للمجمع قبل أربعين عامًا يطالب بالنظر في إشراك النساء في أعمال المجمع حتى في كراسي الأعضاء المراسلين إذا كانت كراسي الأعضاء العاملين مشغولة جميعًا». وقد اشترك في مناقشة هذا المطلب عدد من أعضاء المجمع يومئذ، مرددين أن المرأة قد أسهمت في وجوه النشاط العلمي والأدبي بقدر ملحوظ، ويجب أن يكون لها في النشاط المجمعي أثر محمود.

مبادرة معلقة

وتمضي أعوام على هذه المبادرة، تقترب من الثلاثين عامًا ولا يزال حكم المجمع بتحريم عضويته عن المرأة باقيًا على ما هو عليه وكأنه حكم قضائي، رغم أنه لا يستند إلى سند قانوني، ولا يبرره منطق مقبول، ولا نجد إلا دفاعًا ضعيفًا على ذلك من الدكتور شوقي ضيف رئيس مجمع الخالدين وقتئذ قائلًا: «لم يحدث أن إحدى السيدات الفضليات حاولت ترشيح نفسها للعضوية، ورفض المجمع ذلك، إذن فالتقصير ليس من المجمع في هذه الناحية».

***

وفي الختام يمكن القول بأن منع المرأة من عضوية المجمع بطريق مباشر أو غير مباشر لا يخرج عن أمرين لا ثالث لهما.. فإما أن يكون هذا الوضع أصبح تقليدًا متبعًا خلاصته ألا تكون هناك عضوية للمرأة في المجمع، إذ إن العضوية موقوفة على الرجال... وهذا مخالف لنص مرسوم إنشاء المجمع.. وإما أن المجمع لم يتعرف بعد على المرأة الجديدة التي تشارك الرجل في كل مناحي الحياة. واقتصرت نظرته على المرأة في الماضي، حيث كانت بؤرة رجعية تعشش داخل البيوت دون أن يكون لها كيان اجتماعي وليس لها كما يحدث اليوم ما للرجل من الحقوق وعليها ما عليه من الواجبات. وهذا أيضًا مخالف للواقع الذي نعيشه، والذي يقول إن المرأة احتلت كل المواقع القيادية بما فيها الوزارة.

وفي الأمرين لا تقع المسئولية على المرأة أو التقصير منها، لأنه يمكن القول باطمئنان إن منهن المتخصصات في الأدب واللغة والعلم والقانون والفكر، ومنهن من طالب أعضاء المجمع نفسه بمشاركتهن ولم يقل أي منهم إننا أفضل منهن. وحسبنا في ذلك شهادة عميد الأدب العربي ورئيس مجمع الخالدين الأسبق الدكتور طه حسين يوم سُئل عن عضوية الدكتورة سهير القلماوي بالمجمع فأجاب: «الدكتورة سهير القلماوي تتفوق على بعض الأعضاء القدامى بمجمع اللغة العربية».

ولا مزيد من القول بعد ذلك الرأي لعميد الأدب العربي ويكفي أن نحيله برمته إلى شيوخنا المجمعيين فنهيب بحكمتهم وسعة تفكيرهم أن يتخذوا لهذا الأمر عدته، فليس من المعقول أن تفتح أمام المرأة كل الأبواب، على اعتبار أنها شريكتنا في البيت وفي العمل، في الحقل وفي المصنع، في قاعات المجالس العلمية والأدبية، وتحت قبة المجالس النيابية والوزارية... ويظل باب مجمع الخالدين موصدًا أمامها، يطرق لها الباب طارق بعد طارق، ولا من مجيب. والآن لعلنا نتساءل: هل هو عداء من «الخالدين» للمرأة؟.. لا أصدق.

أو هل هو عدم اعتراف منهم بها كشريكة لنا في كل مجالات الحياة؟.. أشك في ذلك. أم هل هو عدم ثقة بأحكامها؟.. لا أظن ذلك بعد أن أصبحت المرأة شريكة في الرأي معنا في كل مجالات الحياة.
-----------------------------
* كاتب صحفي من مصر.

 

سامح كريِّم*