إنقاذ ضحايا القاتل الثالث.. د. عبدالرحمن عبداللطيف النمر

إنقاذ ضحايا القاتل الثالث.. د. عبدالرحمن عبداللطيف النمر
        

تُظْهِرُ تقارير منظمة الصحة العالمية، أن «الحوادث العامة» هي القاتل رقم «3» في المجتمعات الحديثة، بعد أمراض القلب (القاتل رقم «1») وأمراض السرطان (القاتل رقم «2»). فماذا عن هذه الحوادث العامة، وماذا عن إنقاذ ضحاياها؟

          المقصود بالحوادث العامة، حوادث الطرق (مثل تصادم السيارات ووسائل النقل المختلفة)، وحوادث المصانع (مثل الحريق والتسمم)، وحوادث المنازل (مثل السقوط من مبنى مرتفع، أو الاختناق بغاز التدفئة).

          ويدخل في إطار الحوادث العامة كذلك، حالات الغرق، ومحاولات الانتحار، والإصابات الواقعة في حوادث السرقة، مثل طعنات سكين أو طلقات رصاص.

          ووفقا لتقارير المنظمة العالمية، فإن ثمانين في المائة من ضحايا الحوادث العامة، يلاقون حتفهم في غضون الساعة الأولى من وقوع الحادثة، لعدم توافر العلاج الطبي الفوري. بينما يعاني ستون في المائة من الضحايا الذين تم علاجهم، «تعويقًا» دائما.

          وتنبع أهمية تقرير منظمة الصحة العالمية، من أنه يلفت الانتباه إلى قصور الخدمات الطبية في واحد من أخطر الحقول، التي تلتهم سنويا عشرات الآلاف من الأرواح. فبينما اهتمت المؤسسات الطبية في العالم، بوسائل العلاج التقليدية، ووسائل الفحص والتشخيص الحديثة، فإنها أغفلت الاهتمام بتطوير وسائل العلاج الفوري. وعلى الرغم من وجود «وحدات الطوارئ» في العديد من مستشفيات العالم، فإن هذه الوحدات لاتزال عاجزة عن التصدي لعلاج الحوادث العامة، وتقديم المعونة الفورية لضحاياها.

          وجدير بالذكر هنا، أن مركزا وحيدا في العالم، لعلاج الحوادث العامة وفق ما تقتضيه، تم إنشاؤه في مدينة «ميريلاند»، في ولاية «بالتيمور» الأمريكية، بمجهود شخصي من نخبة من الأطباء الأمريكيين. ويتبع هذا المركز وسائل فريدة في العلاج، ابتكرها جراحو المركز أنفسهم.

الإصابة والصدمة

          إن أعمار ضحايا الحوادث العامة تتراوح بين طرفي العمر. ولكن القطاع الأكبر من الضحايا، تقع أعمارهم بين ستة عشر عاما إلى خمسة وعشرين عاما. وفي الجملة، فإن الحوادث العامة تعتبر القاتل رقم «1»، بين الذين تتراوح أعمارهم بين عام إلى تسعة وثلاثين عاما. وبعد هذا العمر، تقل نسبة الحوادث العامة تدريجيا، لتفسح السبيل للقاتلين الآخرين.

أمراض القلب والسرطان

          وعند وقوع حادثة من نوع ما ينتج عنها «إصابة» Trauma. وهذه الإصابة قد تكون كسرا في إحدى عظام الجسم، وهذا هو الحال في أغلب الحوادث، أو قد تكون تمزقا في الأحشاء. وقد تكون الإصابة مزيجا من هذا وذاك. وتقع بين كسور العظام وتمزق الأحشاء، حالات كثيرة، مثل بعض أنواع التسمم، وإصابات الحروق، واختناق الغريق.  ويمر جميع مصابي الحوادث، بحالة يطلق عليها طبيا «الصدمة» Shock. وتتميز هذه الحالة، التي تقع للمريض في أثناء الحادثة أو بعدها مباشرة، بانخفاض شديد في ضغط الدم، يعكس هبوطا أشد في وظيفة القلب.

          وعجز القلب عن أداء وظيفته، في حالة الصدمة، هو محصلة مجموعة معقدة من اضطراب الوظائف في الجسم، تشمل اضطراب الجهاز العصبي، والكبد والكليتين، علاوة على الاضطراب في إفراز العديد من الهورمونات والعديد من المواد الكيميائية الأخرى.

          ونتيجة لإخفاق القلب في وظيفته (وهو هنا إخفاق مؤقت) يقل الدم الذي يصل إلى سائر أعضاء الجسم، حاملا معه الغذاء، وغاز الأكسجين اللازم للحياة. ونقص توارد الدم إلى الأعضاء المختلفة في الجسم، خصوصا المخ والكبد والكليتين والغدد الصماء، هو المسئول عن النتائج النهائية للحادثة.  بتعبير آخر، فإن «الصدمة» وليست «الإصابة» بحد ذاتها، هي المسئولة عن تحديد النتيجة النهائية : الموت أو الحياة.

          ونظرا لأن بعض أعضاء الجسم، لا تصبر طويلا على انقطاع الدم عنها، فتموت بسرعة، فإن العامل الحاسم في جميع هذه الحالات هو « عنصر الزمن». فالمخ - مثلا- لا يحتمل انقطاع الدم عنه لأكثر من ثلاث دقائق. بينما يصبر الكبد وقتا أطول، إلى نصف ساعة تقريبا. وتقع بين الاثنين، الغدة الصماء الموجودة فوق الكلية Suprarenal Gland (وهي لازمة للحياة)، إذ تصبر على انقطاع الدم عنها حوالي عشرين دقيقة، قبل أن تموت.  ومن حسن الطالع، أن تيار الدم «لا ينقطع» عن أعضاء الجسم، عند معظم ضحايا الحوادث. فقط «يقل» الدم الوارد إلى الأعضاء، بدرجة تختلف حسب نوع الإصابة.

          على أن الدم القليل الوارد إلى الأعضاء، خصوصا تلك سالفة الذكر، سيؤدي حتما إلى موتها إذا طال الوقت. من هنا، فإن أهم خطوات العلاج هو ضمان وصول الدم بمقدار طبيعي، إلى سائر أعضاء الجسم، سيما «الأعضاء الحيوية» كالمخ والكبد (وغيرهما)، في أسرع وقت.

          وبتعبير آخر، فإن علاج مصابي الحوادث، يستلزم أولا تصحيح إخفاق القلب، في الوقت نفسه الذي يتم فيه علاج الإصابة. وهذا هو الموقف الوحيد في حياة أي إنسان، الذي يمكن أن تكون كل دقيقة فيه، أغلى من كل ذهب الأرض.

          وفي حقل الممارسة الطبية، يطلق على ضحايا الحوادث بصفة عامة، اسم يجمع بين الكلمتين، اللتين يتكون منهما نسيج الأحداث، وهما «صدمة الإصابة»  Shock Trauma. وأحيانا يكتفى بكلمة «صدمة»، باعتبارها الفيصل في الموقف.  ومجموعة هؤلاء الضحايا المصابين بالصدمة، تأتي على قائمة «الطوارئ الطبية»، التي تستنفد أكثر من ستين في المائة من الجهد والأموال المبذولة في حقل الطب.

كيف تجري الأحداث؟

          إذا استعرضنا الأحداث التي يمر بها المصاب في حادثة في طريق عام - على سبيل المثال - فسنجد الصورة التالية، أو شيئا قريبا منها:

          عند وقوع الحادثة، يتجمهر الناس حول المصاب، إما بدافع المساعدة، أو بدافع الفضول البشري! ويسرع واحد من الجمهور بالاتصال هاتفيا بمركز الإسعاف، أو دائرة الشرطة، أو الاثنين معا.

          وفي أحسن الأحوال، فإن سيارة الإسعاف تستغرق ربع ساعة لتصل إلى مكان الحادث. وتنقضي دقائق ثمينة أخرى، قبل أن ينقل المصاب في الطريق العام إلى سيارة الإسعاف التي تندفع إلى أقرب مستشفى.

          وعند وصول المصاب إلى قسم الطوارئ الجراحية، في المستشفى الذي نقل إليه، تستقبله ممرضة القسم، أو الطبيب المقيم (إذا كان المصاب  محظوظا!) وتنقضي دقائق ثمينة أخرى، في استجواب المصاب - إذا لم يكن في غيبوبة - أو أحد أقاربه، أو أحد شهود الحادث. والهدف من ذلك، معرفة كيفية وقوع الإصابة، ووقت حدوثها. (هذا جانب من الإجراءات القانونية المتبعة في تلك الظروف).

          وبعد الفراغ من الفصل الأول المـــتـــعــلق بـــالإجراءات، يطلب الطبيب مجموعة من الفحوصات المعملية، مثل صور الأشعة السينية أو الأشعة المقطعية، لتحديد مكان الإصابة وطبيعتها. وإذا كانت الإصابة من نوع خطير، يستلزم إحدى الجراحات الكبرى، يشرع الطبيب المقيم في استدعاء الأطباء المتخصصين، مثل جراح العظام، وجراح الأعصاب وجراح الأوعية الدموية.

          ونظرا لأن معظم الأطباء المختصين لا يقيمون في المستشفيات بصفة دائمة، ونظرا لأن معظم الحوادث تقع في أثناء الليل، أو في أيام العطلات، فإن نصف ساعة أخرى - على أحسن تقدير - تنقضي قبل حضور الطبيب المختص.

          وعلى ذلك، فإن الوقت المنقضي من لحظة وقوع الإصابة، إلى لحظة  إمكانية العلاج الحقيقية - متمثلة في الطبيب المختص - يتجاوز ساعة كاملة، على أحسن افتراض ! ولا عجب والحال كذلك، أن يكون المصاب قد فارق الحياة، قبل أن يحظى بأي علاج حقيقي!

          وإذا كان المصاب محظوظا، وأمكن إنقاذه من براثن الموت، فإن آثار «الصدمة» - التي تكلمنا عنها سلفا - تتركه مصابا بعاهة مستديمة!

          هذه الصورة «المأساوية» تقع في كل بلاد العالم، بلا استثناء واحد! وفي الولايات المتحدة - أكثر بلدان المعمورة تقدما - تقع حوالي ثمانين مليون حادثة سنويا! ومن بين ضحايا هاته الحوادث، هناك نصف مليون مصاب يحتاج إلى «جراحة عاجلة». لكن المؤسسات الطبية الأمريكية - على تقدمها - تعجز عن تقديم المعونة الطبية الفورية. ويترتب على ذلك، وفاة حوالى مائة ألف شخص سنويًا، من نصف المليون المشار إليه. أما الباقون، فيصابون بعاهات مستديمة!

          وقد أثارت هذه الصورة المأساوية، حفيظة واحد من أشهر جراحي القلب الأمريكيين، هو د. أدامز كاوليDr Adams Cowley. وكان الجراح المذكور عمل في ميدان المعركة، في كل من فيتنام وكوريا، حيث اكتسب خبرة واسعة في الطوارئ الجراحية. وقد تعلم «د. كاولي» - من خبرته الطويلة - أن «عنصر الزمن» هو العامل الحاسم في علاج ضحايا الحوادث.

          وقد سعى د. كاولي، مع مجموعة أخرى من الجراحين المتخصصين، إلى إنشاء مركز على درجة عالية من التخصص، لعلاج الطوارئ الجراحية. وبمجهود خاص، مع إعانة حكومية رمزية، تم إنشاء المركز تحت اسم «معهد ميريلاند للخدمات الطبية العاجلة». وتبلغ نفقات تشغيل المعهد سبعة وعشرين مليون دولار، كل عام. ويعمل فيه فريق مختص، طوال أربع وعشرين ساعة كل يوم، على مدار أيام السنة.

نمط فريد في العلاج

          وفقا للتعبيرات الجديدة، التي أدخلها المعهد المذكور، فإن «الصدمة» هي «وقفة مؤقتة في الطريق إلى الموت». ومن هذا المنطلق، فإن أسلوب العمل في معهد ميريلاند، ينطلق من عدم تضييع دقيقة واحدة، من الدقائق الفاصلة بين الحياة والموت.  فمنذ اللحظة التي يستقبل فيها المعهد مكالمة هاتفية، عن حادث في مكان ما من المدينة، تقلع طائرة عمودية (جاهزة للطيران في أي لحظة) إلى مكان الحادث، لتنقل المصاب من مكان الحادث إلى المعهد. وفي وقت استقبال «مكالمة الاستغاثة» نفسها، تعلن إذاعة داخلية في المعهد، عن قرب وصول مصاب، فيأخذ فريق العمل أهبة الاستعداد.

          ولما كان منطلق العمل في المعهد المذكور، هو السرعة، فإن جميع الفحوصات المعملية تجرى للمصاب خلال دقائق معدودة. إذ فور وصوله إلى المعهد، يتم توصيل ستة أنابيب داخل أوردة مختلفة، في جسم المصاب. بعضها لأخذ عينات الدم لتحليلها، وبعضها الآخر لحقن الأدوية الفورية اللازمة لتصحيح «الصدمة». ويقوم كمبيوتر بقراءة نتائج الفحوصات وتحليلها، ثم عرضها على شاشة تلفاز، داخل غرفة العمليات.

          ومع ظهور نتائج الفحوصات المختلفة (خلال دقائق معدودة)، يكون المصاب قد وصل إلى غرفة العمليات، حيث يكون في استقباله خمسة من الجراحين المتخصصين، ذوي خبرة طويلة في الطوارئ الجراحية. ومع هؤلاء الجراحين، طبيب تخدير، وثماني ممرضات.

          وعلى النقيض تماما من القاعدة الطبية، الشائعة تقليديا: «انتظر وراقب»، فإن الجراحين في معهد ميريلاند لا يضيعون دقيقة انتظار واحدة. فهم يفتحون جوف المريض من حلقه إلى أسفل بطنه! فالطريقة التقليدية، المبنية على الانتظار ومراقبة ما يجري للمريض، تخفق أحيانا في الكشف عن «الإصابات الداخلية»، مثل تمزق جزء من الأحشاء، أو تهتك البنكرياس أو الطحال.

          وقد أظهرت دراسة أجريت على مائة جثة، أن الإصابات الداخلية كانت سببا في وفاة ثماني عشرة منها. ولم تكشف وسائل الفحص والتشخيص المتقدمة، عن هذه الإصابات!

          لكن طريقة معهد ميريلاند، لا تدع شيئا للمصادفة، ولا تعتمد على وسائل التشخيص الحديثة بشكل مطلق. وتطبق طريقة المعهد الفريدة : « افتح وانظر»، على كل أعضاء الجسم وأنسجته.

          في إحدى الحالات، تم استئصال الطحال، وعلاج تهتك الكبد، وغرس قضيب معدني (مسمار) في عظمة الفخذ المكسورة، واختزال كسر في عظم الساق، وإجراء جراحة تجميل لأذن مشوهة. كل هذا خلال ست ساعات ونصف الساعة !

          في حالة أخرى، لشاب مصاب بطعنة سكين في الصدر، تم علاج تهتك الرئة، والكشف عن عمل القلب، وإجراء «جراحة الاستكشاف» (افتح وانظر)، خلال أربعين دقيقة من وصول المصاب إلى المعهد!

عدم تقديس القواعد الفاشلة

          وبينما تتوالى أخبار نجاح «معهد ميريلاند للخدمات الطبية العاجلة»، فإن بعض المؤسسات الطبية الأمريكية، توجه إليه انتقادات حادة. ذلك أن المعهد يُتَّهم بانتهاك «القواعد الطبية» المعمول بها!

          ويعلق «د. أدامز كاولي» مؤسـس المعهد على تلك الانتقادات، فيقول: إذا كانت «القواعد الطبية» لم تفلح في دفع الموت عن ضحايا الحوادث، ألا يكون من أبسط أصول المنطق هدم تلك القواعد؟!

          ويبدو أن أطباء المعهد حريصون على هدم أسلوب الطب التقليدي.

          فابتداء، يتم تعريف المريض بإعطائه «رقما» بدلا من تضييع الوقت في التنقيب عن اسمه. وثانيا، فإن عملية الاستجواب التقليدية (ذات الأهمية القانونية) تأتي في النهاية. ومن قواعد المعهد: «عالج أولا، استجوب ثانيا».

          كما أن الأطباء وضعوا أسسا جديدة، لعلاج حالة «الصدمة»، وعلاج كل صغيرة وكبيرة تتعلق بها. وتتضمن هذه الأسس، التي يسمونها «بروتوكول المعهد»، تغييرات جذرية في أسس العلاج التقليدية، بما في ذلك أنواع الأدوية المستخدمة في العلاج وجرعاتها.

          على أي حال، فإن معهد ميريلاند يعتبر فريدا في حقله.

          وقد استطاع فريق العمل المتكامل في المعهد، أن يخفض معدل الوفاة نتيجة الحوادث، من ثمانين في المائة، إلى اثنين وعشرين في المائة!

          فهل يأتي يوم يحظى فيه ضحايا الحوادث في أي مكان في العالم، بمثل العناية التي يقدمها «معهد ميريلاند»؟!.

 

عبدالرحمن عبداللطيف النمر   





الطوارئ الطبية وصدمة الاصابة: إسعاف ضد الزمن