اللغة.. وإطلاق الأحكام

 اللغة.. وإطلاق الأحكام
        

          قرأت المقال الموسوم بـ «آفة التسرع في الأحكام اللغوية» الذي نشرته مجلتكم الغراء في العدد (580) (صفر 1428 هجرية - مارس 2007 ميلادية).

          وقد تناول فيه كاتبه «الدكتور مصطفى الجوزو» بعض المشتغلين باللغة الذين يطلقون الأحكام بلا روية، فيصوِّبون مرة ويخطِّئون أخرى، ويتعبون اللغة وأهلها على حد قول الكاتب الفاضل.

          ولما كان مدار القول كله عن بيت النعمان بن المنذر:

قَدْ قِيلَ ما قيِلَ إِنْ حَقّا وَإِنْ كَذِبا فَما اعْتذارُكَ مِن شَيءٍ إذا قِيلا


          فلنا على هذا البيت وعلى ماكتب عنه ملاحظات:

          ولعل من اكبر المآخذ هو رواية البيت بالشكل الذي سلبه موطن الشاهد النحوي، اولا، وكساه عيبا عروضيا بانكسار وزنه ثانيا. وكان ذلك في صدر البيت الذي روي هكذا: «قد قيل ماقيل حقا وإن كذبا» والنحاة يسوقون هذا البيت شاهدا على حذف «كان مع اسمها»، بعد «إنْ» الشرطية، وبقاء خبرها، فكيف نستخرج موطن الشاهد و«إنْ» الشرطية لاوجود لها في البيت؟ هذا أولا.

          أما عن انكسار الوزن، فالبيت من البحر البسيط، من الوزن الثاني، الذي تكون فيه العروض مخبونة «فَعِلُنْ» والضرب مقطوع «فَعْلُنْ»، ووزن البيت:

مستفعلن فَعِلن مستفعلن فَعِلن مُتَفْعِلُنْ فَعِلن مستفعلن فَعْلُنْ


          فاذا سقطت منه «إن» فالأذن تحس باختلال الوزن قبل التقطيع.

          ولقد كان الاستاذ الكاتب مصيبا عندما اصر على ان رواية البيت انما كانت بـ «منْ» لا بـ «عن»، إذ أنشده سيبويه هكذا، وقد رجعت إلى ثلاث طبعات مختلفة من كتاب سيبويه، فضلا عن كثير من كتب اللغة والأدب، فوجدت أصحابها جميعا ينشدون البيت بـ «من شيءٍ». ولكن هذا لايعني ان استعمال «عن» خطأ فاحش لايجوز الإتيان به، فالعربية لغة التوسع والتصرف في التعبير، والتوسع أسلوب متميز من أساليب الكلام العربي، وظاهرة راقية من ظواهر العربية، يرتادها الشاعر والناثر على حد سواء.

          وتعد نيابة الحروف عن بعضها ضربا من ضروب هذا التوسع والمجاز، وان كانت النيابة موطن خلاف بين النحاة.

          ولعل من دواعي تخطئتهم من يقول «اعتَذَرَ فلان عن ذنبه» أن جُلَّ المعاجم العربية اقتصرت على ذكر حرف الجر «من» بعد الفعل «اعتذر»، ولكن الذي يقلِّب المصباح المنير، ومدَّ القاموس، والمعجم الوسيط، فانه سيظفر بقولهم «اعتَذَرَ عن فعله».

          ومهما يكن من أمر، فان لغتنا العربية تجيز لنا الاستعمالين، وكلاهما صواب، وإن كان استعمال «من» بعد الفعل «اعتذر»، أقوى من استعمال «عن».

          وهناك أمر آخر لافت للنظر في مقالة الكاتب، كان حَرِيّا به أن ينزِّه مقالته الجادة منه، ذلك أنه استشهد بنصوص مجهولة القائل، سقيمة التركيب، ركيكة العبارة، هابطة الأسلوب، فهي أقرب الى العامية منها إلى الفصيحة، فضلا عما تحمله العبارة الواحدة أحيانا من تناقض واضح وخلل مبين وإن حاول الكاتب ان «يعتذر عنها». فهي من مثل «أعتَذِرُ بسبب سفري، وأعتَذِرُ لكل الجماهير عما بدر مني».

          ولعل من أشنع العبارات واكثرها تناقضا قولهم:... اعتذر عن عدم الحضور.. واعتذر عن عدم التواجد، فالاعتذار عن عدم الحضور، حضور. والاعتذار عن عدم «التواجد»، تركيب لايصح البتة، فالعدم ضد الوجود «والتواجد» هنا ليس بمعنى الوجود، لان الفعل «تواجَدَ» معناه: أظْهَرََ وَجْدَهُ، أي حُبَّهُ الشديد.

          وبعد:  فالعربية لغة راقية تسعف الناطق بها وتَمُدُّهُ ولاتخذله، اذ يتلعَّب بألفاظها توسعا ومجازا فتؤدي بكلمات قليلة معنى كثيرا، ومن حقها علينا أن نسمو بها ولا نهبط. وأن نرتقي بها ولا نسقط. 

الدكتور عادل هادي العبيدي
جامعة السليمانية، كلية اللغات - العراق

  • تعقيب: للإنصاف لابد من الإشارة إلى أن الخطأ الذي وقع في البيت الشعري:
قد قيل ما قيل إن حقًا وإن كذبًا فما اعتذارك من شيء إذا قيلا


          كان خطأ مطبعيًا، لا ذنب للدكتور مصطفى الجوزو فيه، بل إن د. الجوزو لاحظ الخطأ وأرسل تصويبا نشرناه في باب «عزيزي العربي» في العدد الماضي مايو 2007.