هل تناهض الصوفية... التنوير؟

هل تناهض الصوفية... التنوير؟
        

          للصوفية سمعة لا تحسد عليها في مناهضة التنوير لكونها تقوم على مفاهيم غيبية لا تخضع للعقل، ومن ثم فقد تملكني شعور بالإشفاق على قراء عدد (579) شهر فبراير 2007 من مجلة «العربي» الغراء، حيث أخالهم في حيرة من أمرهم بين الدعوة الحارة التي أطلقها رئيس التحرير في «حديث الشهر» لإنقاذ التنوير، وبين دفاع الدكتورة سعاد الحكيم عن الصوفية في حوارها «وجها لوجه» مع الأستاذ جهاد فاضل.

          ولا تثور الحيرة حول الصوفية بسبب دراستها كفكر لعب دورا غير منكور في تراثنا الإسلامي، ولكنها تثور حين يطرح التساؤل حول كون هذا الفكر صالحا أم غير صالح للمسلم المعاصر. ومساهمة مني في إكمال الصورة أمام القراء الأفاضل عن هذا الموضوع أرجو أن يتسع صدر المجلة لي لعرض الفكر الصوفي من منظور معرفي تطبيقي، باعتبار أنه يمثل المنهجية التي أراها قادرة على حسم المسألة حول علاقة الفكر الصوفي بالتنوير.

          فمن الناحية المعرفية يرى رجال التصوف أن العلوم الدينية المتعارف عليها كالفقه والتفسير غير كافية للمسلم الصوفي، والسبب أنها تخضع للمنطق العقلي، في حين أن المعارف الصوفية علوم غيبية بطبيعتها، يرونها تستقى من علمين لا يخضعان للمنطق العقلي، يطلقون على الأول «علم الحقيقة، أو علم ما وراء الطبيعة» وهو يكتسب بالإغراق في التنسك، والثاني يطلقون عليه «العلم اللدني أو الوهبي» وهو لا يكتسب بأي وسيلة، بل يهبط من الله سبحانه على صاحب ذلك العلم فيوفر عليه عناء تحصيل المعرفة من مصادرها المتعارف عليها. وعن العلم الأول يقول الأستاذ محمود أحمد هاشم في كتابه «الإمام الشعراني» (من سلسلة «كتب إسلامية»، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، العدد 119، 1971) إنه: «يحقق الأمل العذب الذي يراود الكثيرين من النفوس التي تتنزه عن المادة وتسمو على الحس وأن تصبح ربانية، وهو علم لا يحتاج إلى علوم كسبية طبيعية أو كيميائية أو فلكية، بل إلى أساس من العقيدة الصحيحة والعمل المستمر الذي يؤدي للاتصال بالملأ الأعلى وتحقيق ما يطمح إليه من هذا الاتصال ألا وهو المعرفة، معرفة ما وراء الطبيعة».

          أما عن العلم الثاني يقول مؤلف الكتاب المذكور عن (الشيخ الخواص) الذي تتلمذ الشعراني على يديه رغم كونه أميا: «وقد يعجب الإنسان أن الخواص كان أميا، وقد اشترط الشعراني فيمن يتخذه شيخا أن يكون متبحرا في علوم الشريعة، وأنى يتأتى لأمي هذا الشرط؟ ولكن الحقيقة أن (الخواص) وإن كان خلوا في الظاهر من التعليم فإنه كان على جانب عظيم من العلم والمعرفة،..... ذلك لأن ما كان عليه من علم إنما هو علم وهبي» (ص 33).

          ولما كانت مثل هذه العلوم تفتقد أي ضوابط فإن الباب يكون مفتوحا على مصراعيه لجميع المفاهيم الصوفية غير المقبولة بناء على المنطق العقلاني، فالشيخ الخواص من منظور العلم المتعارف عليه رجل أمي، وهي صفة لا تؤهله إلا لأن يكون طالبا للعلم إذا أراد، ولكنه من منظور المعارف الصوفية ذو جدارة تؤهله لأن يتتلمذ أحد أقطاب الصوفية على يديه. ويعبر مؤلف الكتاب عن ذلك مسوغًا تلك الجدارة بقوله: «فعلم الأولياء والصوفية يأتي مباشرة من اطلاعهم على اللوح المحفوظ» (ص 24). كما يقدم لنا الكتاب أمثلة من المعارف التي تعتبر من المنطق العقلاني أساطير وخرافات، فالشعراني ينسب لنفسه أنه ظل لمدة شهرين يقتات على التراب حين عز عليه الحصول على الحلال»، وأنه كان يصعد (بالهمة) في الهواء إلى الصاري المنصوب على صحن الجامع فيجلس عليه في الليل والناس نيام. (ص 26).

          وتبين الفقرة التالية من الكتاب المذكور صورة من التصادم بين رجال الفكر الصوفي ورجال الفكر التنويري: «جاء في كتاب الدكتور الطويل عن الشعراني قوله: إن ما يرويه الشعراني عن نفسه من اتصال بالأرواح وتعامل مع الجن قد يغري بالشك ويدفع لتكذيبه كما كان الحال في موقف الدكتور زكي مبارك منه، ولكن تفهم الشعراني في ضوء المنطق العقلي يبدو لنا ضلالا مبينا.، لأن الرجل قضى حياته في جو ديني مشع بالتصوف استمد منه غذاء عقله وأشبع به جوع قلبه، انتهى به إلى إيمان مفرط هيمن على منطق العقل في تفكيره» (ص 84).

          وأرجو بهذه العجالة أن أكون قد أعنت القارئ الكريم على أن يحزم أمره بالنسبة للتصادم بين الفكر التنويري والفكر الصوفي.

علي يوسف العلي
[email protected]