حنجرة فيروز حساسية.. وجماليات معتقة

حنجرة فيروز حساسية.. وجماليات معتقة
        

ظهرت نهاد حداد (فيروز فيما بعد) أولاً ضمن كورس إذاعة بيروت، وكان حليم الرومي أول من تنبه إلى تميز صوتها على أصوات زميلاتها في الكورس.

          مع أن المزاج الفني للملحن والمطرب حليم الرومي كان كامل التأثر بالمدرسة الكلاسيكية العربية الكبرى، كما ترسخت في القاهرة، (حيث أجرى دراساته الموسيقية العليا في النصف الثاني من عقد الثلاثينيات)، ومع أنه عهد إلى المطرب القدير محمد غازي (المنتقل هو الآخر من فلسطين إلى لبنان) بتلقين نهاد حداد فنون الموشحات، فإنه عندما أراد إكمال دوره بتوجيهها فنيًا،  بعد أن اقترح عليها إبدال اسمها بأحد الاسمين الفنيين: فيروز أو شهرزاد، فإنه لم يتردد في تعريفها بعاصي الرحباني، الملحن الجديد الذي بدأ يتردد على الدوائر الموسيقية الإذاعية، مع معرفة حليم الرومي الكاملة (بل بسبب هذه المعرفة)، بأن عاصي الرحباني كان يبحث عن خط جديد، خارج إطار الدوران الكامل في إطار الكلاسيكية العربية الكبيرة، كما ترسخت في القاهرة.

          والحقيقة أن هذه الموضوعية الموسيقية العلمية، لم يمارسها حليم الرومي عكس مزاجه الفني المتأثر كثيرًا بالعبقريين محمد عبدالوهاب ورياض السنباطي، مع فيروز وحدها، لكنه فعل الشيء نفسه مع وديع الصافي، فنصحه بالكف عن غناء الألوان المصرية، كما كان يفعل في ذلك الوقت المبكر، وأكد له بعد استماع مطول، أن معدن صوته ومزاجه الفني العميق يلمعان في تأدية الألوان المشرقية المحلية أكثر بكثير من أي لون آخر.

          ويبدو أن هذه المرحلة في النصف الأول من الخمسينيات، هي التي بدأ فيها تشكيل النواة الأولى للمؤسسة الرحبانية، في كنف الدائرة الموسيقية لإذاعة الشرق الأدنى، التي كان يديرها صبري الشريف،قبل أن تقفل الشرق الأدنى أبوابها إثر أزمة العدوان الثلاثي على قناة السويس.

          غير أن دور صبري الشريف في إدارة وتوجيه المؤسسة الرحبانية، لم يتوقف عند البداية الأولى في الشرق الأدنى، بل تجاوزها حتى اكتمال أمجاد المدرسة الرحبانية الإذاعية والمسرحية، في عقد السبعينيات.

          إن من يراجع اليوم جردة علمية تاريخية لتسلسل الأعمال التي أدتها فيروز بصوتها من البداية إلى النهاية، يكتشف اليوم، أن العناصر المميزة في معدن صوت فيروز وعناصر أسلوبها المميز في الأداء، كانت شاحبة الملامح في سنواتها الأولى. ولعل هذا ما دفع الأخوين رحباني، أصحاب الدهاء الإعلامي المشهود له، باستخدام نفوذهما في الإذاعات العامة والخاصة لحجب كل أو معظم تسجيلات ما غنته فيروز في سنواتها الأولى (أي في النصف الأول من عقد الخمسينيات)، كما عمدا إلى عدم إعادة نقله من التسجيلات الإذاعية إلى أشرطة كاسيت، أو أسطوانات مدمجة، بعد انقراض عهد الأسطوانة القديمة.

          لكن العناصر المميزة في صوت فيروز، وملامح الأسلوب التجديدي الرحباني، خرجتا فجأة من القمقم منذ منتصف الخمسينيات، حين بدأت تظهر الثمار الناضجة (لحنًا وغناءً) للأسلوب المشرقي المستمد من كل الروافد العربية العامة والمشرقية الخاصة.

معدن صوت فيروز

          كان يدور في القاهرة نقاش حاد بين شيخ المؤرخين الموسيقيين العرب في القرن العشرين، كمال النجمي، والمطربة الكبيرة نجاة الصغيرة، بشأن صوت فيروز، فتؤكد نجاة أن فيروز تغني بصوت مستعار، بينما يؤكد النجمي لها عكس ذلك، مستندًا إلى رأي سمعه من الموسيقار محمد عبدالوهاب.

          والحقيقة أن هذه المسألة أكثر تعقيدًا، بالنسبة إلى صوت فيروز، وأي صوت آخر، من أن تحسم بهذا اليقين المؤكد أو ذاك.

          من الثابت علميًا أن مصدر الصوت، في كل ألوان الغناء العربي أو الأوربي، هو الحنجرة، وبعد خروج الصوت من الحنجرة، تتدخل عوامل عديدة في تحديد نوعية الرنين النهائي لهذا الصوت، كما يستقر في آذان المستمعين. من هذه العناصر، إلى جانب قدرة المغني أو المغنية (بالموهبة وبالتدريب) على التحكم باستخدام طاقة النفس الخارج من الرئتين، ثم التحكم باستخدام تجاويف الجسد الطبيعية، التي يتردد فيها الصوت الخارج من الحنجرة، قبل أن يتحدد المعدن النهائي لرنينه، وهذه التجاويف تتراوح بين الصدر، والرقبة نفسها، وسقف الحلق، والجيوب الأنفية، وعظم الجمجمة.

          فإذا عدنا بسرعة إلى صوت فيروز بالذات، فمن المؤكد أن موهبتها في حسن استخدام كل هذه الأدوات كانت تتصاعد بالمراس وبالتدريب، وأنها كانت (شأنها شأن كل المغنين والمغنيات اللامعين) تحسن تنويع الاتكاء على هذا التجويف أو ذاك (الصدر أو الرأس أو سواهما)، وفقًا لمتطلبات اللحن، وتنوع درجات جمله اللحنية، بين الدرجة الخفيضة والمتوسطة والمرتفعة.

الأساليب الرحبانية

          هنا، نصل في التجربة الفيروزية إلى تناول مباشر للاختلاف بين أساليب الملحنين الذين زودوها بألحانهم. غير أنه لا مناص في هذا المجال من القول إن اللون الغالب والمستقر لصوت فيروز وأدائها في أذن المستمع العربي، هو اللون الرحباني (أو الألوان الرحبانية)، حتى أن كثيرًا من المستمعين ينسبون أي لحن يخرج إليهم بصوت فيروز، إلى الرحابنة، وإن كان اللحن لفيلمون وهبي أو زكي ناصيف أو عبدالوهاب، أو لعبقري الموسيقى الكلاسيكية الأوربية موزار، (أغنية يا أنا يا أنا). لكن هذا موضوع آخر سنتطرق إليه لاحقًا.

          من المؤكد أن التنوع في أساليب الألحان التي تحمل توقيع الأخوين رحباني، بصوت فيروز، يعود إلى أسباب عديدة، أهمها برأيي سبب قلما ينتبه له النقاد والمؤرخون، مع أن منصور رحباني، كان ومازال يشير إليه خفية، في حياة شقيقه عاصي وبعد رحيله، دون الوقوع في فخ الكشف الواضح عن نصيب كل منهما في الأعمال التي تحمل التوقيع المزدوج. كان منصور يردد دائمًا، من حين لآخر - ومازال يردد حتى يومنا هذا، وإن بصوت خفيض - أنه كان ميالا بالكامل إلى الموسيقى الغربية، وأن عاصي هو الذي شده إلى ضرورة الاشتغال بالموسيقى العربية، وكانت أقوى حججه في ذلك، وأفعلها على ما يبدو، أنه ما دام جمهور فيروز عربيًا، فالموسيقى العربية هي المرشحة لجذب أسماعهم.

          غير أن هذا القرار من قبل منصور، لم يحجب يومًا، ميله الغربي، (الذي كان عاصي يشاركه ربما في نسبة منه)، الذي وضع بصماته القوية على اللون الرحباني الأكثر تمايزًا عن سائر أساليب الملحنين العرب المعاصرين لهم.

          ولأن ما يهمنا هنا، أكثر من سواه، هو صوت فيروز، فإن هذا الأسلوب الرحباني الرئيسي، المطعّم بميل جارف للموسيقى الغربية، هو الذي ولّد ذلك النوع من الغناء، الذي فيه كثير من التأثر بأساليب التعبير في الغناء الغربي. ومن ملامح هذا اللون باختصار شديد:

          - الميل الشديد إلى الأغنية القصيرة، حتى تلك التي تقل عن الدقائق الست، لوجهي الأسطوانة القديمة العادية (87 لفة).

          - الميل الشديد إلى الاعتماد على الرقة والشفافية والهمس، في الأداء الغنائي، وكلها صفات كانت قواعدها الأساسية مطروحة في الأسلوب الوهابي - الأسمهاني، لكنها لم تكن على أي حال قد اكتسبت صفة الانتشار الكامل، كما أن فيروز أضافت بلا شك طابعها الخاص في الأداء الصوتي (الذي يختلف من إنسان لآخر كاختلاف بصمات الأصابع)، إلى ما ورثته عن أسلافها من عظماء المطربين والمطربات.

          - الميل إلى استخدام الطبقات العليا من الصوت، بدرجة أكثر مما كانت تستخدم في السابق في سائر ألوان الغناء العربي.

          وقد بلغ افتتان الرحابنة بذلك، أنهم بدأوا يقومون بمزيد من الضغط على صوت فيروز، في مساحاته العليا، مادام  صوتًا طيعًا ومتقنًا، ومادامت خبرته تتعاظم مع مرور السنوات، ومادام الجمهور بدأ يتقبل ذلك، بل يفتتن به، ويحس أن فيروز تتميز به عن سواها.

          صحيح أن هذا الأسلوب بالذات، أعطانا في بعض الأعمال أروع ما استمعنا إليه من ألحان الرحابنة وغناء فيروز، خاصة عندما يكون عنصر استخدام الطبقات العليا من الصوت متوازيًا مع العناصر الصوتية الأخرى المطلوبة، وضروريًا في التعبير عن تلوين تعبيري مطلوب في اللحن أو الغناء. لكن هذا التوازن، عندما كان يفلت من أيدي الأخوين رحباني، كان يكشف عن عيبين رئيسيين:

          1 - الإغراق في الافتتان بالمساحات العليا من صوت فيروز، على حساب المساحات الوسطى والمنخفضة. مع أن كثيرًا من كبار النقاد والمتذوقين، يميلون إلى اعتبار تلك المساحات الوسطى والمنخفضة مركز الجمال الأساسي في صوت فيروز وأدائها.

          2 - أن الإغراق في هذا الاتجاه، كان يطغى في كثير من الأعمال، ليس كتلوين مطلوب في وقته وموقعه، ولكن كتمارين تحد صوتي، يراد به الوصول إلى مساحات لا تصل إليها (أو لا تجرب الوصول إليها) مطربات أخريات.

          ومع أن الأمور بقيت في جميع أعمال فيروز، لا تخرج إلا قليلاً عن التوازن المطلوب، فإن هذا العيب بدا مضخمًا لدى كل من حاول من المطربات بعد فيروز، تقليدها، أو التأثر بأسلوبها الغنائي. والأمور واضحة، من غير التذكير بأسماء محددة.

          غير أن الموضوعية تقتضي الإشارة إلى الأساليب الرحبانية الأخرى، التي كانت توظف تجربة نظافة العزف ودقته، في تنفيذ الأسلوب الأساسي الآنف الذكر، لأداء أوركسترالي وغنائي رفيع للأساليب الأخرى، التي كانت تعتمد إما على الألوان الفولكلورية المشرقية عمومًا، من سورية ولبنانية وفلسطينية، وحتى ألحان سيد درويش التي تحولت فولكلورًا شعبيًا (مثل زوروني، وطلعت يا محلا نورها، والحلوة دي)، أوغناء الموشحات والقصائد والمونولوجات، الأشد التزامًا بالسياق العام لمجرى الكلاسيكية العربية المعاصرة، كما صاغتها جهود عباقرة الموسيقى في القاهرة في النصف الأول من القرن العشرين.

          ربما كان حظ الأسلوب الرحباني الأول من الانتشار الجماهيري، لتفرده، هو ما دفعهما إلى عدم الإغراق في الأسلوب الثاني، علمًا بأنه كان يفتح أمام جماليات صوت فيروز (خاصة بعد نضجها) في طبقاته كلها، وليس العليا فقط، مساحات من السحر الغنائي الذي حرمنا منه. مع أن للرحابنة في هذا المجال بعض الأعمال الجميلة المميزة، لكن النسبة الكبرى من جهدهما بقي موجهًا للأسلوب الأول.

فيروز وزياد

          من السهولة بمكان اكتشاف مرحلتين متمايزتين، غنائيًا ولحنيًا، في مسيرة تعاون فيروز مع ابنها الملحن الموهوب زياد رحباني.

          - المرحلة التي كان فيها زياد مازال يضع ألحانه، تحت التأثير المباشر للمدرسة الرحبانية الكبيرة.

          - والمرحلة التي بقي فيه هذا التأثير جزءًا أساسيًا في تكوين شخصية زياد التلحينية، وإن كان قد خرج تمامًا من دائرة التأثر المباشر به.

          غير أن خيطًا رفيعًا غير مرئي كان يجمع بين المرحلتين ويشكل قاسمًا مشتركًا بينهما، هو تأثر زياد الملحن، عندما يدفعه إحساسه باتجاه المقامات العربية الخالصة (مثل البياتي والهزام والراست) ليعزف من مدرسة العبقري فيلمون وهبي في التلحين.

          هذه التلاوين التي شكلت مراحل مختلفة وألوانًا مختلفة في الألحان التي زود بها زياد صوت فيروز، انعكست بدورها على أسلوب أداء فيروز لكل لون من ألوان زياد.

          ففي مرحلة تأثر زياد المباشر بالمدرسة الرحبانية الكبيرة، كان أداء فيروز الغنائي يعتمد بشكل أساسي على المساحات العليا من صوتها، وتبدو فيه كل المزايا المكتسبة من المدرسة الرحبانية الكبيرة التي فصّلناها من قبل، لسبب بديهي جدًا هو انتماء ألحان زياد الكامل، في مرحلته الأولى، لهذا الخط في المدرسة الرحبانية.

          أما عندما كان زياد يغرف ألحان فيروز من ينابيع المقامات العربية الخالصة (مثل «أنا عندي حنين» وسواها)، متأثرًا بفيلمون وهبي وبشغفه الموروث عن عاصي لآلة البزق، فقد كانت الألحان تستدعي بالضرورة الطبقات الوسطى والمنخفضة من صوت فيروز، الشديدة الطرب والعمق والشجن.

          لكن المعروف، أنه بعد مرحلة رحيل عاصي، وعودة زياد من رحلة الانشغال الكامل بإبداعه المسرحي، وبعد رحيل فيلمون وهبي، وقيام فيروز بتنفيذ آخر ألحان فيلمون وهبي لها، التي رحل قبل تنفيذها، تحول زياد في شيخوخة فيروز الفنية، إلى ملحنها الوحيد، حيث أنتج لها حتى الآن ما يقارب الاسطوانات الست، معظمها من ألحانه، وواحدة منها تعتمد على ألحان مستعادة لعاصي، وواحدة بالمشاركة بين زياد والملحن المخضرم المبدع، وقليل الحظ والشهرة، محمد محسن (صاحب موشح «سيد الهوى قمري» البديع لفيروز).

          يمكن الخروج من هذه الحصيلة العامة في التعاون الأخير بين صوت فيروز وألحان زياد، بأن الاسطوانات الثلاث الأولى: وحدهن - معرفتي فيك - كيفك انت، هي الأكثر جدية، لحنًا وغناء. خاصة أن صوت فيروز كان في هذه المرحلة وصل ذروة النضج والتجربة، ولم يدخل بعد في مرحلة شيخوخة الأوتار، وسائر الأعضاء - الأدوات التي يستخدمها المطرب (أو المطربة) لإخراج صوته. ومع أن خصوصية زياد في الصياغة اللحنية، كانت شديدة الوضوح، بحيث نجح في استخراج حساسيات جديدة (بعضها غير مسبوق في رصيد فيروز الطويل)، فإنه بقي أكثر اتكاء على المساحات المفضلة لدى الرحابنة الكبار من صوت فيروز، التي يغلب فيها الاعتماد على المساحات العليا من الصوت.

          أما شريط «مش كاين هيك تكون»، فقد بدأت ملامح التعب وغضون الشيخوخة تبدو أكثر وضوحًا على حنجرة فيروز، إضافة إلى أن زياد قد ضغط في بعض الألحان على العلاقة الخاصة بينه وبين صاحبة الصوت (علاقة الابن بأمه)، فأدخلها في «فانتازياته» الفنية، التي يختلط فيها الجد بالمزاح، إلى درجة لم تعد تناسب حال الاستقرار، التي تربع عليها صوتها بعد نصف قرن من الجهد والشهرة والتجارب، وكان الأجدر بزياد الاعتماد في هذه «الفانتازيا» على أصوات شابة مبتدئة، كما فعل في حالات أخرى. 

مع فيلمون وهبي وناصيف وعبدالوهاب

          أعتقد أن أي دراسة مفصلة ستكتب لتأريخ الملامح الفنية والرصيد الفني لصوت فيروز، لابد لها من تحري تفاصيل إبداع فيروز الصوتي والأدائي، في خطين متوازيين: الخط الرحباني، وخط كبار الملحنين الآخرين الذين لحّنوا لفيروز.

          لقد غنت فيروز في بداياتها من ألحان حليم الرومي، كما غنت لحنًا بديعًا لخالد أبوالنصر، على قصيدة إيليا أبي ماضي الشهيرة «وطن النجوم أنا هنا»، لكن ذلك كان قبل دخول حنجرة فيروز في مرحلة النضج والاكتمال.

          بعد ذلك انطلق فيلمون وهبي، فيما يشبه الانفجار الفني، يزوّد حنجرة فيروز بسيل من الألحان، التي لم يترك فيها واحدًا من المقامات العربية ذات الأرباع، الشديدة الطرب والشجن، لم يستخرج منه لآلئ لحنية نادرة لحنجرة فيروز.

          حتى أنني في مقابلة شخصية معه، سألته عن إحساس المستمع عمومًا بأنه عندما يلحن لفيروز بالذات، يستخرج أثمن ما في خزائنه من كنوز دفينة، علمًا بأنه زود حنجرة صباح الرائعة بعدد من ألحانه البديعة، وكذلك نجاح سلام وسميرة توفيق وسواهن.

          وافق فيلمون وهبي تمامًا يومها على الملاحظة، وإن كان قد فشل في محاولة تفسيرها، تاركًا هذه المهمة لسواه.

          والحقيقة أن أكثر من سبب منطقي، كان وراء هذه الظاهرة:

          - المستوى الفني الرفيع الذي كانت تتميز به معظم الأشعار الغنائية للأخوين رحباني، مما يحرّك في نفس الملحن، إذا كان بموهبة فيلمون وهبي، كوامن دفينة، لا يمكن أن يحرّكها الشعر الغنائي العادي أو ذو المعاني المطروقة.

          - إن الهالة التي بدأت تحيط بفيروز ونجوميتها، بعد انطلاق سلسلة المسرحيات الغنائية السنوية للأخوين رحباني، كانت أفضل وأجمل منبر يمكن لفيلمون وهبي أن يعرض عليه خلاصة مواهبه اللحنية، رغم أن الأخوين رحباني، لم يجعلا حصة فيلمون في أي مسرحية لفيروز، تزيد على لحن واحد. لكنني كنت دائمًا ألاحظ، وأشدد في مقالاتي الصحفية بعد كل مسرحية جديدة للأخوين رحباني، أن لحن فيلمون وهبي الوحيد في كل مسرحية، كان يلمع وسط المسرحية كأنه «جوهرة التاج».

          إن طاقة الشجن المتدفقة في المقامات العربية ذات الأرباع، كانت العجينة الوحيدة التي يصنع منها فيلمون خبز ألحانه.  حتى أن مَن حضر التمارين على لحن «يا ريت منن»، في اسطوانة ذهب أيلول (وهي من ألحان فيلمون)، أحس بالذهول الذي أحدثه في نفس فيروز ارتجال عازف القانون المخضرم جورج أبيض، على مقام البياتي، تقاسيم لم تكن موجودة أصلاً في مقدمة اللحن، فما كان من فيروز إلا أن طلبت تثبيت هذه التقاسيم، لأنها تضعها في ذروة الاندماج بمقام البياتي، الذي يعتمد عليه لحن الأغنية، قبل الشروع في الغناء.

          فإذا انتقلنا إلى تجربة فيروز مع زكي ناصيف، فإن الملاحظة الأهم تبقى تأخر هذا التعاون كثيرًا، ذلك أنه من المؤكد أنه لو كانت حسابات الخصومة الفنية والتنافس الفني، تسمح لحنجرة فيروز، بأداء ألحان زكي ناصيف في مرحلة تفجّره الفني الكبير، بين الخمسينيات والسبعينيات، لتبادل هذان الفنانان العبقريان خدماتهما ففجرت حنجرة فيروز الكنوز الدفينة في أعماق مواهب زكي ناصيف اللحنية، وحرّكت ألحان زكي ناصيف البالغة العذوبة الكنوز الدفينة أيضًا في صوت وأحاسيس فيروز، في خط مواز للخط الرحباني، وإن كان افتقار ألحان زكي ناصيف إلى الصوت العبقري الذي يحملها للجمهور، قد خفف من تسليط أضواء الشهرة عليها.

          لكن من حظ الموسيقى العربية عمومًا، واللبنانية خصوصًا، أن زكي ناصيف قد اقتنص فرصة ذهبية للتعاون مع حنجرة فيروز قبل أن تدخل مرحلة الشيخوخة، فجمع لهما الشاعر الموهوب جوزف حرب مقتطفات جبرانية فلسفية - وطنية، في قصيدة رائعة بعنوان «في ظلام الليل، مات أهلي»، فأخرج زكي ناصيف من أعماقه كنوزًا نغمية وتأليفية، ارتقت إلى مصاف إحدى أعلى ذرى الموسيقى الدرامية العربية في القرن العشرين. وإن كان هذا اللحن قد لقي مصيرًا إعلاميًا قاتمًا، فجرّدته كل الأجهزة الإعلامية من قيمته الموسيقية والغنائية الرفيعة، وحشرته في زاوية «الغناء الوطني»، فأصبحت الأغنية لا تذاع إلا في المناسبات العابرة، ثم أصبحت لا تذاع حتى في هذه المناسبات، كما أن فيروز أحجمت (لأسباب غير معروفة) عن تقديم هذا اللحن ولو مرة واحدة في حفلاتها الحية، علمًا بأن زكي ناصيف لم يترك في هذا اللحن الطويل والغني، مساحة أصلية أو فرعية في صوت فيروز، لم يستخرج أجمل ما في أعماقها من إحساس.

          فإذا وصلنا أخيرًا إلى تجربة صوت فيروز مع عبقري القرن العشرين في الموسيقى العربية محمد عبدالوهاب، فإننا نحمد الله أنها بلغت ثلاثة ألحان، اقتنصتها من عبقرية عبدالوهاب في عز تألقها في عقد الستينيات، عندما اعتزل الغناء، وتفرغ لتوزيع نتاج عبقريته الموسيقية على أهم وأجمل الحناجر العربية النسائية والرجالية.

          في لحنه الأول لفيروز «سهار بعد سهار»، مارس عبدالوهاب تجربة فريدة معها، فصاغ لها لحنًا يتجاور فيه الأسلوب الرحباني، مع الأسلوب الوهابي، استنادًا إلى تجربة اللحن الرحباني الشهير «نحنا والقمر جيران».

          لكنه بعد ذلك، زوّد فيروز بلحنين خالدين من أروع ما أنشدت في حياتها، على قصيدة لجبران خليل جبران «سكن الليل»، وقصيدة لسعيد عقل «مرّ بي»، أضيفت في سجل فيروز إلى قصائدها الغنائية التي كانت تحيي فيها دمشق الشام.

          إن مَن يستمع بإمعان إلى هذين اللحنين الأخيرين، يشعر كأن حنجرة فيروز المليئة بالجواهر، قد وضعت أخيرًا بين يدي أمهر صاغة الموسيقى العربية في القرن العشرين، فاستخرج منها أجمل ما في أعماقها من أحاسيس، وأجمل ما في حنجرتها وأدائها من حلاوة وعذوبة وشفافية، ثم طعّم كل ذلك بخلاصة حساسيات الأسلوب الوهابي في الغناء، الذي يبدو بكل وضوح في حنجرة فيروز، خاصة في لحن «مرّ بي».

          إن الإصغاء إلى عُرب عبدالوهاب الظاهرة - الخفية، في مقدمة القصيدة بالذات، ثم في بقية مقاطعها، ثم الوصول إلى البيت الأخير في القصيدة عند عبارة «إن تعد لي»، يصاب بموجات متلاحقة من قشعريرة المتعة الفنية الرفيعة، ويكتشف أن عبدالوهاب قد استخرج من حنجرة فيروز، في عبارة «إن تعد لي»، من خلال صياغته اللحنية، ثم من خلال تدريباته الغنائية في تحفيظ اللحن، أجمل انتقال ربما في رصيد فيروز الغنائي بين طبقاتها الصوتية المنخفضة وتلك المرتفعة، خاصة عند كلمة «لي»، بحساسية مذهلة، قبل انفجار القفلة الرائعة لحنا وأداء، عند عبارة «أشعلت بردى».

خلاصات عامة

          - إذا استعدنا تفاصيل وملامح الدور الذي لعبته حنجرة فيروز، فإننا نتفهّم سرّ تعلق جماهير المستمعين في بلدان المشرق العربي بشكل خاص بصوت فيروز، ووضعها في منزلة خاصة جدًا.

          - صحيح أن أم كلثوم كانت «كوكب الشرق»، ومطربة كل العرب من المحيط إلى الخليج، بمن فيهم عرب المشرق، غير أن هؤلاء العرب المشارقة طال إحساسهم بأن الغناء العربي الكلاسيكي القادم من القاهرة أساسًا، على عظمته وعمقه وجماله الباهر، لم يحمل بين طياته إلا شذرات عابرة جدًا من خصائص الأنغام الشعبية المشرقية.

          فلما ظهرت حنجرة فيروز تؤدي هذه الحساسيات الغنائية، بأشكالها الفولكلورية أولاً، ثم بأشكال كلاسيكية عربية متجددة، مع الرحابنة أولاً، ثم مع كبار الملحنين الذين تعاملت معهم، فقد أحسّ العرب المشارقة كأنهم عثروا أخيرًا على مطربتهم الخاصة، ولعل هذا ما يفسر منزلة فيروز في فلسطين (حتى قبل ظهور «الفلسطينيات» الرحبانية الرائعة)، وسورية والأردن، بالذات، وهي منزلة لا يمكن أن يشوبها في هذه البلدان ما يخالط تقدير فيروز في لبنان، أحيانًا، شيء من الاعتزاز المحلي بلبنانيتها.

          لقد تبوأت فيروز موقع المطربة الخاصة لبلدان المشرق العربي، تمامًا مثل وديع الصافي، وصباح (في ألوانها اللبنانية)، مع أن ذلك لم يمنع، بل ربما كان جسرًا حقيقيًا لانتقال لونها الغنائي إلى سائر أرجاء الوطن العربي، بعد ذلك.

 

إلياس سحاب   





في الصيف .. في البرد, في الحرب, في السلم, في لحظة العشق النادرة ينطلق صوت فيروز





من أجل الأطفال غنت فيروز كثيرا .. من أجل أطفالها وكل أطفال العرب





عبد الوهاب وفيروز.. ألحان قليلة ولكنها نادرة في جودتها





فيروز وأم كلثوم.. لقاء «القمة» الغنائي والملحن الشهير نجيب حنكش