صوت من حنين وذكريات

صوت من حنين وذكريات
        

لا شيء يدل على لبنان مثل صوت فيروز، وليس هناك من يحيي الذاكرة ويبعث الأشواق ويثير الشجن في النفس مثل صوتها.

          ها قد تجاوزت فيروز السبعين من عمرها.

          في الأمس، قبل أن تذهب ابنتي إلى قاعة «البيال» ببيروت، لحضور حفلة فيروز الغنائية، قالت لي: تعال اذهب معنا، فقد لا تتسنى لك بعد اليوم مشاهدة «نجمة مراهقتك» في حفلة حية على المسرح.

          لم أذهب مع ابنتي، هكذا عن إهمال، وقلة اكتراث. فأنا «الفيروزي العتيق» ابتعدت من زمان عن مراهقتي ونجومها، وتركتهما خلفي، بلا حنين، وغير مكترث بإصرار زياد الرحباني الأوديبي على قتل والده عاصي الرحباني (رمزيًا) والزواج فنيًا من أمه فيروز.

          وإذا كانت فيروز لبنان أو اللبنانية، صنيعة الأخوين رحباني، عاصي ومنصور، فإن الصورة القمرية الزاهية التي صنعها الرحبانيان للبنان في صوتها وعبره، هي صنعة حنين حزين يمازحه العزاء، إلى لبنان «الحضارة الريفية» (أنيس فريحة) بعد اندثارها وزوالها، وإقامة الثقافة اللبنانية الحديثة على الحنين إليها حنينًا يشبه في مادته وصوره «أحلام اليقظة السعيدة» (غاستون باشلار).

          والحق أن لا شيء في لبنان كصوت فيروز القمري الشفاف كالماء والضوء الخافت والبعيد، وكالكلمات التي أنشدها من أشعار الأخوين رحباني في صحبة ألحانهما، تطلع من مادة الحضارة الريفية اللبنانية طلوع صور أحلام اليقظة السعيدة والحزينة في مخيلة جعلت من صور تلك الحضارة متحفًا للحنين إليها، وللعزاء حيال زوالها واندثارها. فأعمال الأخوين رحباني في صوت فيروز، هي أرشيف حي، بالصوت والصورة الشعرية وبالأدوار والشخصيات المسرحية الغنائية والاستعراضية، لحضارة الريف اللبناني المتصورة سعيدة هانئة وبريئة، كالماء، وكما بالماء ترسم صورها وتستعيدها، ذاكرة ومخيلة بصريتان خائفتان في ربع القرن العشرين الثالث، على حضارة ذلك الريف وصوره من الزوال، والاندثار والنسيان.

          وإذا كان غناء فيروز الأخوين رحباني، يروي بصوت «قمر الصباح» وبالصورة الشعرية المرسومة بالضوء والماء والنسائم والظلال، حكاية الحنين إلى عالم القرية اللبنانية المندثرة، فإن غناء فيروز زياد الرحباني «يحكي بلايا آخر السهرة»، على ما عنون أحمد بيضون مقالة له، مشيرًا فيها إلى «انتقام» الابن (زياد) من أبيه (عاصي الرحباني) و«تهكمه» المر على حنين الأب إلى ذلك العالم القوي. وهما انتقام وتهكم طالعان من زمن الحرب المديني اللبناني (1975 - 1989) الذي لم يبق حجرًا على حجر في معظم المدن والأرياف اللبنانية.

          واليوم، بعد تجاوز «سفيرة لبنان إلى النجوم» - و«شاعرة الصوت» وصاحبة الصوت القمري المصنوع من مزيج الضوء والفضة - السبعين من عمرها، وبعد مضي عقدين على رحيل عاصي الرحباني، صانع المعجزة الفيروزية مع أخيه منصور الرحباني الذاهب بعيدًا والطاعن في الشيخوخة، من هم هؤلاء الثلاثة؟ وكيف التقوا وتعاونوا على صناعة تلك الصورة المتخيلة للبنان، قبل أن ينتقم «الابن الضال» منها ويتهكم عليها في صوت أمه فيروز؟

          تُجمع الروايات والأخبار الصحفية التي نقلت شذرات من سيرة فيروز، على تعيين ولادتها في سنة 1935، قبل أن تختلف وتتضارب حول تعيين مكان هذه الولادة، والمكان الذي وصل منه والدها وديع حداد، إلى لبنان. هناك رواية أخرى تعيده إلى مدينة حلب السورية، أو إلى المنطقة الحدودية بين سورية وتركيا، قبل أن تعرج به رواية ثالثة على بلاد حوران السورية. وهنا تتدخل رواية رابعة مؤكدة أنه أرمني هرب من المجازر التي أنزلها الأتراك بالأرمن في أثناء الحرب العالمية الأولى، وبعدها، وقبل أن يتخذ الرجل لبنان «ملاذًا» آمنًا ويحمل جنسيته، شأن الكثيرين من النازحين الأرمن إلى هذا «الملاذ» الذي «لاذ به المضطهدون في الشرق»، وخصوصًا المسيحيين منهم، بحسب الأدبيات اللبنانية، وفي طليعتها كتابات ميشال شيحا الآشيوري أو الكلداني العراقي الأصل قبل استقرار إقامته في العاصمة اللبنانية.

          وما إن تجمع الروايات على قدوم وديع حداد إلى لبنان، وزواجه من اللبنانية المارونية ليزا البستاني ابنة قرية الدبية على ساحل جبل لبنان الشوفي، حتى تعود إلى التضارب حول مكان إقامة الزوجين ومكان ولادة ابنتهما البكر، نهاد حداد قبل أن تصير فيروز، عاشت طفولتها وصباها الأولي في غرفة متواضعة في محلة زقاق البلاط البيروتية، حيث تلقت تعليمها في مدرسة رسمية قريبة، للبنات، وكانت منشدة في جوقتها المدرسية التي أنشأها مدرّس الموسيقى سليم فليفل قبل أن يدخلها منشدة في كورس الإذاعة اللبنانية أواخر الأربعينيات، فالتقت الشاب عاصي الرحباني الذي كان يعمل عازفًا وملحنًا في الإذاعة نفسها.

          عاصي الرحباني من مواليد 1923 في قرية أنطلياس الساحلية على مسافة 8كلم شمال بيروت. أما أخوه الأصغر وتوأمه الفني، منصور، فولد سنة 1925. وإذا كان الأخوان قد ولدا غداة نشوء الدولة اللبنانية الحديثة أو المعاصرة (1920)، فإن والدهما حنا عاصي الملقب بالرحباني بعد نزوح أجداده من قرية رحبة الشمالية إلى أنطلياس، التي أقام فيها الرجل هاربا من مطاردة «الجندرمة» العثمانيين (لذا يسميه ابنه منصور طياحًا، أي فارًا متنقلاً من دون إقامة ثابتة)، قبل الحرب العالمية الأولى. وهو من عائلة مسيحية أرثوذكسية، ومن مواليد سنة 1882 بطنطا في مصر التي هاجر إليها والده هاربًا من العسف التركي، شأن كثيرين من اللبنانيين والشوام، وخصوصًا المسيحيين في القرن التاسع عشر، وعاد منها إلى أنطلياس، حيث تزوج من صبية مارونية وفدت عائلتها إلى البلدة الساحلية من قرية الشوير في سفوح جبل صنين، على ما يروي منصور الرحباني.

          عاش الأخوان رحباني طفولتهما وشبابهما الأول في كنف الطبيعة الريفية الساحلية، حيث أنشأ والدهما المتطبع بطبع «القبضاي» الشعبي أو «شيخ الشباب» المحب لـ «الطرب الأصيل» مقهى على نبع فواز أنطلياس، وجعله ملتقى لأمثاله وصحبه ولـ «العائلات المحترمة» التي عليها، في «بسطها وانشراحها»، أن تتقيد بأصول اللياقة و«الأخلاق الحميدة»، على ما روى منصور الرحباني أن والده كتب على لافتة علقها في المقهى. لكن للطبيعة الريفية الجبلية حضورها الأساسي في ذاكرة الأخوين ومخيلتهما، لأنهما عاشا كذلك في كنف هذه الطبيعة في المنيبيع والشوير وعينطورة على سفوح جبل صنين، حيث كانت تقيم جدتهما لأمهما، وسمعا منها الحكايات عن الجن ومخزون التراث الشعبي الشفوي.

تجديدات التراث

          مصدر الأغنية التي صنعها الرحابنة جديدة وفريدة لصوت فيروز الجديد والفريد بدوره، كان الزجل والمعنّى والميجنا والعتابا في التراث الشعبي القروي، لكن المستعاد والمصقول بذائقة شعرية «مثقفة» قامت بتشذيبه وبعثه في حلة ومخاطبة وصوت ونبرة جديدة تستجيب لحساسية متمدنة ابتعدت عن الحياة الريفية وحولتها أيقونة جميلة «فاخرة». والأيقونة هذه ليست متحفية أو صنمية، بل حية نابضة بصورها البصرية التي تخاطب الحواس.

          والعالم الشعري الرحباني، الذي غنته فيروز، وكذلك صوت فيروز نفسه، طالعان من «حلم يقظة» بعيد تنبض فيه صور «المعازة» (رعاة الماعز) والمقلعجية (قالعو الحجار من سفوح الجبال لتشييد البيوت) والنواطير والمكاريين والكروم ومعاصر العنب ومواسم القطاف و«أحراش» التلال وأضواء القنابل ومشاحنات المزارعين والأهالي على اقتسام المياه لري البساتين، ليخرج من العتمة قبضايات وجنيات وصبايا مسحورات أو مرصودات (منذورات) لحب رومنطيقي بريء. والطواحين ودروب العين وساحات القرى في الصباحات الباكرة، و«البيت، الذي ناطر التلة، والممحو وراء حدود العتم والريح»، و«ثلج صنين وحجله والكروم في الأعالي»، و«الصيف بمواعيده»، والحطابين والجسور القديمة على الأنهار، و«مواسم الحرير»، و«الخيمة في أعالي الجبل»، و«السهر في تشرين» و«النار الغافية في أحضان المواقد»، و«طيور المساء الآتية من سفر طويل»، و«طرق النحل ومشاويره (التي) ترسم سطورًا في هواء الظهيرة» و«البيوت الصغيرة المهجورة، التي غطى العشب أدراجها وجدرانها».. إن هذا كله وغيره الكثير مما يشبهه ويحاكيه من صور الحياة المادية الجبلية، يشكل معدن ذاكرة الأخوين رحباني ومخيلتهما الشعرية في صوت فيروز بين مطالع خمسينيات القرن العشرين ونهاياتها.

          تزامن إطلاق الأخوين رحباني أعمالهما الغنائية في صوت فيروز مع توسع موجات البث الإذاعي وشيوع الراديو (الترانزستر) والكاسيت على نطاق واسع في لبنان والبلدان العربية. لكن اليوم، بعد اجتياح الصور التلفزيونية والأغاني المصورة (الفيديو كليب) الحواس والأذواق، تجاوزت فيروز السبعين من العمر. على أن صوتها الأثيري العتيق، والعذب عذوبة مياه الينابيع الصافية، الصوت الحنون والبريء والمضمخ برغبة خجول مرجأة، لايزال يبعث بعض الأمل والرضا والعزاء، مع تناول قهوة الصباح.

          إنه الصوت الطري حتى النسيم والندى، البهي والأثيري الملون الآتي من خلف طبقة رقيقة شفافة من الضباب. الصوت القمري الهامس والمداعب كضوء الشمس في صباحات ريفية ربيعية، والمسائي المتخافت في حزبه الشفاف، والطالع من زمن ومكان وذكريات وحنين وأسى ومشاهد ولحظات عيش، رغم أفولها، تظل نابضة بحياة فائضة يمنحها إياها الصوت البهي الأنثوي في طبقاته الخافتة، الغريبة والمفاجئة والأليفة الطالعة، شأن الشعر الذي غنته، من هروب الزمن والأعمار في حلم يقظة سعيد ومجروح في وقت واحد. صوت يوحي لكل مستمع ومستمعة أنه يتوجه إليه وإليها، ويخاطبه ويخاطبها، كل وحده وبمفرده، لكنه أيضًا الصوت الطالع من أفراح الناس الخاصة والعمومية، ومواسمهم وطقوسهم الجامعة. وفي صفاته هذه، يغاير صوت فيروز معظم الأصوات الغنائية العربية واللبنانية التي زامنته. وإذا كان جزء من هذه الصفات مصدره خامة صوت المغنية الذي لا دخل لصنائع البشر فيه، فإن مساهمة الراحل عاصي الرحباني أساسية في تظهير هذه الصفات. فالصوت الفيروزي رحباني، قدر مساهمة هذا الصوت في تظهير التجربة الفنية الرحبانية، التي عثرت على صوتها حين عثرت على صوت فيروز، الرحباني الشخصية، قدر ما هو عاصي وتوأمه الفني، منصور الرحباني، فيروزيان، ولولا هذا التكامل «الوجودي» والفني بين الثلاثة، لما كتب للمدرسة الغنائية الرحبانية - الفيروزية أن تعرف البريق والانتشار اللذين عرفتهما في الربع الثالث من القرن العشرين، وامتدادًا إلى الثمانينيات من القرن نفسه.

          بعد ثلاثة أفلام سينمائية، وآلاف الأغاني، وعشرات الاسكتشات الإذاعية، وأكثر من عشرين عملاً مسرحيًا غنائيًا استعراضيًا، وعشرات الحفلات الغنائية في العواصم العربية والعالمية، أصاب الشلل «المؤسسة الرحبانية - الفيروزية» في السنوات الأولى من الحروب في لبنان.

          في زمن ما بعد الحرب، استعادت فيروز ومنصور الرحباني (بعد أكثر من 20 سنة على غياب عاصي) مشاهد من مسرحيات قديمة على منصة مهرجانات بعلبك الدولية، فشاب هذه الاستعادة «حنين» إلى ليالي الأمس البعلبكية. لكن هل كتب للحنين هذا أن يكون في البؤرة أو النواة من «الطوبى اللبنانية» أو هل شاء قدر هذه الطوبى أن تولد وتتكون في رحم «الحنين الجنائزي» إلى نفسها؟!

          ميشال شيحا، رائد «الطوبى اللبنانية»، وفيلسوفها الأثير، خط «حنينه الجنائزي» إليها في الأربعينيات من القرن العشرين، أي قبل نحو عقد كامل من قيام الأخوين رحباني بإطلاق صور هذه الطوبى في صوت فيروز، فكتب (شيحا) أن «لليل والنور والسكون والريح والبستان الزاهر وحديقة الخريف المحزنة، سيطرة شديدة علينا. لكن اليوم، أي في الأربعينيات، انعدم اكتراث الناس لـ«تعاقب الفصول» (إذ) سيان عندهم الربيع والخريف، النور والضباب، لهبة القلب والروح والكآبة». غير أن شيحا سرعان ما يبادر إلى إطلاق تشاؤمه المطلق، فيكتب: «القبح يغمر وجه الأرض بالبرص (...) والألم هو السبيل الوحيد (...) والهواء يمتلئ برعشة الأشياء التي تتوارى». كم سيكون مفجعًا لميشال شيحا ولعاصي الرحباني، لو عرفا أن «الطوبى» التي اختط كل منهما ملامحها وصورها للبنان، ما عادت قادرة على بعث حتى ذلك الحنين الجنائزي من رماده؟!

          لكن ربما علينا أن نفتح نافذة للأمل ونقول: لايزال صوت فيروز القديم يبعث فينا بعض الرجاء والعزاء. 

فيروز.. وعلى الأرض السلام

          في مملكة فيروز، تغوص الكاتبة ريما نجم، لنتعرف معها بين دفتي كتاب مصور قوامه 223 صفحة من القطع الكبير على عوالم فيروز الأثيرة، التي أسرت مخيلة عشاق فنها. تحلل المؤلفة الأغنيات وفق حوادث ذاتية ومجتمعية لتسجل إسهام المطربة الكبيرة كمنشدة لكل الأجيال والمدن والمواقف. وبعد أن تعرج على مسرح الرحابنة ودور فيروز فيه، تعدد الألحان الغنائية الفيروزية من شعبي، ورومانسي وطربي، وسائد ومبتكر، وموشحات وفولكلور وموال وزجل، ومحكية لبنانية وعامية مصرية وبدوية جبلية وفصحى شعرية، بين الشعر والنثر والقص، حتى تركز على فيروز الوطن بين وطنها اللبناني، ومدنها العربية وجرحنا الفلسطيني. وقبل أن تختتم بالحديث عن تكريمها بأوسمة العالم، تتناول أسرتها الفنية، عاصي الرحباني، وزياد، وشعراءها مثل سعيد عقل.

          ومن محاسن الكتاب (الألبوم) الجمة - الذي صمم غلافه ونفذه، وهو يحمل وجه فيروز على ميدالية فضية، الفنان وجيه نخلة - إبداعات المصور نبيل إسماعيل، الذي زينا ملف «العربي» لهذا العدد ببعض قطوف عدسته الذكية العميقة والمتألقة كأغنية فيروزية.

 

محمد أبي سمرا   





«ملكة بترا» مرثية للأمجاد العربية القديمة





فيروز وحشد من الفنانين: فيلمون وهبي، داليدا، ميراي ماثيو، وشارل أزنافور





فيروز وحشد من الفنانين: فيلمون وهبي، داليدا، ميراي ماثيو، وشارل أزنافور





فيروز وحشد من الفنانين: فيلمون وهبي، داليدا، ميراي ماثيو، وشارل أزنافور





فيروز وحشد من الفنانين: فيلمون وهبي، داليدا، ميراي ماثيو، وشارل أزنافور





فيروز وحشد من الفنانين: فيلمون وهبي، داليدا، ميراي ماثيو، وشارل أزنافور