جلواح الجزائر

جلواح الجزائر
        

هذه حكاية التعرف على شاعر جزائري يحمل اسم العائلة نفسها اسمه: مبارك بن محمد جلواح (1908 - 1943م)، وجانب من حياته وشعره.

          بداية أود أن أشير الى أن هذا المقال عبارة عن سطور تعريف عام بالشاعر الجزائري وليس قراءة أو استعراضا أو دراسة أو استكناها داخليا لشعره وقناعاته.

          - رحم الله الشاعر الجزائري المبدع: مبارك بن محمد جلواح الذي قال في أول صفحة من ديوانه (دخان اليأس):

ليدفنَ آثاري العُداة فإنها أشعّة شمس لا تُغَيَّبُ بالدفنِ
فقد ينقضي جسمي ويجمعني الثرى ولا ينقض من سمع هذا البقا لحني


          هل سمعتم به من قبل..؟!

          ولا.. أنا..!

          لأنه مغمور.. لم يعرفه حتى أغلب المهتمين بالشعر من أبناء بلده..!

          ولم أبحث عنه مطلقا.. لأنني لم أسمع عنه أصلا.. بل جاء اسمه إلى أحشاء داري عبر بحث مصور به (بعض) المعلومات عنه.. في قصة مدهشة. فقد تم التعرف عليه لأول مرة حينما كنا في مجلس عائلة الجلواح بقرية القارَة بمنطقة الأحساء (شرق المملكة العربية السعودية) نستقبل المعزين بوفاة والدتي يرحمها الله، وفيما نحن في استقبال الوافدين لتقديم واجب العزاء وصل المجلس للغرض نفسِه عدد من أقاربنا من مملكة البحرين المجاورة التي تبعد عن الأحساء نحو ساعتين بالسيارة عبر جسر الملك فهد، وبعد أن قدموا التعازي، قام أحدهم وناولني ظرفا مغلقا، وما إن فضضته حتى رأيت به صورة من دراسة تحمل عنوان: (الشاعر جلواح.. بين التمرد والانتحار) لكاتب اسمه الدكتور عبد الله ركيبي.. من الجزائر الشقيقة.

          هنا.. فغرت فاهي، ولم أترك البحث حتى قرأته حرفا حرفا، والدهشة المفرحة تلبسني، (على الرغم من حزني على رحيل أمي)، ثم أحسست أن ثمة مشاعر غريبة متضاربة مشوبة بأسئلة كثيرة بدأت تنتابني عن هذا الموضوع حول المدّ الجغرافي والاجتماعي والثقافي، والنّسَبي، وغير ذلك.

          كان شيئا غريبا ومفاجئا، وطريفا حقا في آن أن أعرف أو أسمع أو أكتشف لأول مرة عمن يحمل اسم عائلتنا في جزء بعيد عن محيط العائلة المعروف في شرق الوطن العربي وهو الجزائر الشقيقة.

          وهو ليس شخصا من عامة الناس، بل هو شاعر..، وشاعر مُجيد، بضم الميم وفتْحِها..

          ولا باس أن أذكر شيئا طريفا راودني أثناء قراءة البحث..وظننتُ حوله الظنون، والله تعالى يقول: {وإن الظن لا يغني من الحق شيئا} فقد توقفت عن القراءة حين عرفت أن هذا الشاعر ولد في منطقة القبائل البربرية أو الأمازيغية الجزائرية، أو قريبا منها.. وبالتالي فقد يكون غير عربي، هكذا ظننت بكل صراحة لكن ذلك كله قد تبدد حين قرأت للشاعر هذه الأبيات: الدامغة الدلالة، العنيفة التأكيد، الشمسية الجلاء، الراكسة الهوية، الجزائرية السّمَة.. إذ يقول:

أنا عربي ْ..لا جنسَ أمجَدُ من جنسي أنا عرَبيْ.. أفدي العروبةَ بالنفْسِ
أنا مسلمُ المبدَا.. جزائريُ الحِمى أنا بلبلُ الفصحى المقدسة الجَرْس
شدوتُ بما شادت صوارمُ (خالد) وأسيافُ (عمْرُو الفتح)، بل عمُر ِالبأس
شدوت بما شادت لهاذمُ (1) (طارقٍ) و(ابن ِ نُصيرٍ)، والضياغم ِ(2) من (قيس)
ولا زلت أشدو في الوجود بما بنَتْ عوالي فتى (الجَرّاح) في الروم والفُرْسِ


          وبعد هذه القراءة.. انطلقت فكرة العزم على السفر الى الجزائر والتعرف عن قرب على أهل الشاعر مبارك جلواح وعائلته، ثم العزم على إعادة طباعة ديوانه، وكل ما يتعلق بحياته وشعره وما كُتِب عنه من أبحاث ودراسات. وقد تم بحمد الله الاتصال والترتيب مع الأساتذة الجزائريين المختصين الذين عرفوا هذا الشاعر وقرأوا له وكتبوا عنه كالدكتور عبد الله الركيبي الآنف الذكر، والبروفيسور الأديب الدكتور عبد الله حمادي أستاذ الأدب بجامعة قسنطينة، والدكتور أحمد مَنُّور الذى أرشدني للدكتور رابح دوب الذي قدّم رسالته للماجستير عنه، وجمع ديوانه (دخان اليأس) كاملا، وتربطه بأهله وإخوته صداقات حميمة.

رحلة الجزائر

          وقد ورد اسم هذا الشاعر أيضا استعراضا باسم (مبارك جلواح العباسي) نسبة لقلعة (بني عباس) التي ولد فيها وذلك في المجلد السادس من (معجم البابطين للشعراء العرب المعاصرين / دراسات في الشعر العربي المعاصر الشعر في الجزائر)

          تم سافرت بعدها لهذا الغرض الى الجزائر في شهر ديسمبر عام 2005 م ومكثت فيها أسبوعين والتقيت معظم أهل وأقارب وعائلة الشاعر في كل من (الجزائر العاصمة) و(قسنطينة) و(البليدة) و(عيال مسعود) و(بجاية).

          ورغم عدم وجود ما يثبت صلة القرابة والنَّسَبْ بين الشاعر الجزائري وبيننا فإن مجرد اشتراكنا في اسم (جلواح)، ولكونه شاعرا أيضا هو ما حفّز على القيام بكل بذلك.

          وقد حاولت عن طريق كبار السن عندهم معرفة ما إذا كانوا قادمين في الأصل من الجزيرة العربية فذكروا لي بشكل غير مؤكد أنهم كانوا يسمعون من أجدادهم أنهم جاءوا من اليمن منذ عهد بعيد، على أن أقدم وثيقة رأيتها لديهم لا يتجاوز تاريخها المائة عام..!

          ولأن الحديث سيكون عن جلواح الجزائري فليعذرني أحبتي القراء أن أجنح بهم إلى سطور قد تكون شخصية لكني أراها مناسبة في سياق الموضوع، فأقدم هذه المعلومة لمن يسأل دائما عن معنى كلمة (جلواح) فمعناها: (الأرض الواسعة) وذلك بحسب ما ذكره العالِم اللغوي: مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروز أبادي المتوفى عام: 817هـ، في كتابه الضخم: (القاموس المحيط).

          وقد ذكر الدكتور عبد الله ركيبي الأستاذ في الجامعة الجزائرية / العاصمة في بحثه عن الشاعر أنه: مبارك بن محمد جلواح - ولد عام 1908م بقلعة (بني عباس) بولاية (اسطيف) جنوب شرق الجزائر العاصمة.

          نشأ في بيئة متدينة وتعلم القرآن الكريم على يد والده الذي كان أحد علماء وقته، ودرس اللغة والشريعة والتاريخ، عمل جنديا إجباريا في الجيش الفرنسي كأترابه الجزائريين في تلك الفترة بين عامي 1928-1929، وبعدها أرسل إلى المغرب ليكون مساعدًا عسكريًا لضابط مغربي مثقف يملك مكتبة زاخرة.. مما جعله يقرأ كثيرًا، والضابط يساعده في تحصيله.. فيما يصعب عليه من المعارف، - وبقي لدى هذا الضابط فترة قصيرة ثم عاد لأسرته.

          التحق بجمعية علماء المسلمين الجزائريين وأصبح عضوًا بارزًا فيها، وقد مكنه هذا الالتحاق من أن يتصل بالشيخ عبد الحميد بن باديس الداعية الجزائري المعروف، الذي كان يشرف على هذه الجمعية ويتأثر بأفكاره ودعوته ثم بدأ يمارس نشاطه الأدبي والإصلاحي والوطني.

الصدام مع الغرب

          اختير ليكون عضوًا في الوفد الجزائري إلى فرنسا /باريس للدعوة إلى الحركة الوطنية الإصلاحية التي تبناها الشيخ ابن باديس، حيث كانت هذه الجمعية تحارب فرنسا على أرضها، بالوسائل السلمية والتوعية والتعليم والتعبئة الفكرية العامة للجزائريين المقيمين بها، ولم يكن بالطبع من بين أهدافها جمع المال أو التبرعات بل كان هدفها توعويًا وتعبويًا محضًا، فقد كانت تحصل على دعم مادي من داخل الجزائر ، وكانت مهمة الشاعر مبارك جلواح نشر البيانات والبلاغات الإعلامية والإذاعية هناك.

          وهناك اصطدم بالمجتمع الغربي المفتوح وهو الرجل الملتزم المتدين، وبالدولة التي استعمرت شعبه وتحكمت في وطنه، فنشطت الدماء العربية الإسلامية في داخله، وأخذ يلعب دورا مهمًا في مختلف القضايا الوطنية.

          سيق إلى الحرب العالمية الثانية مكرهًا.. عام 1937 كغيره من الجزائريين لمدة عامين.. ثم سرح مع من سرح..

          عاش حياة مضطربة متناقضة يائسة.. مشوبة بالغربة والبؤس والإحباطات، وهو شخصية صريحة في التعبير عن عواطفه يقدس الحرية والمشاعر الرقيقة وهو بذلك قد تحدى بيئته الخاصة الصارمة الملتزمة القاسية التي نشأ فيها. وجلواح بحسب ما يذكر الدكتور عبدالله ركيبي من أوائل الشعراء الجزائريين المعاصرين الذين تغنوا بالعروبة، وكتبوا قصائد مباشرة في فلسطين.

          وقد اختار إحدى ضواحي مدينة باريس مقرا له.. لأسباب كثيرة.. وفيما هو يمارس أنشطته المتعددة في مجال الأدب، والوطن، والغربة، والحياة.. لم يمهله الموت طويلا.. فقد وجدت جثته تطفو على (نهر السين) عام 1943 في ظروف غامضة لم تعرف بعد، ولم يحسمها أحد، وإن كان الكثير من معاصريه ومن قراء ديوانه يميل إلى انتحاره ومنهم الدكتور الركيبي نفسه، وبخاصة حينما يرون كلمة (الانتحار) تتردد كثيرا في العديد من قصائده، ويستدلون على ذلك بقصيدة يبدو من عنوانها وأبياتها ما يشير بجلاء الى نيته المبيتة في الانتحار فهو يقول في قصيدته (زفرة منتحر على ضفة السين):

يا (سين) جئتك في ذا الليل ملتمسا بعرض لُجّك إخمادا لأنفاسي..
خل القلى جانبا، وابسط الى كبد حرى، وقلب معنى راحة الآسي


          بالإضافة الى قصائد أخرى مشابهة.

          في حين يصر أهله وأقاربه وابنته الوحيدة على انه أُسقِط غيلة في نهر السين ولم ينتحر مطلقًا، وتذكر السيدة مسعودة ابنته أن أمه قد بكت عليه بعد خبر وفاته حتى كَفّ بصرها، وماتت وعمرها 50 عاما.

          وتؤكد ابنته عدم انتحاره وأنها سافرت إلى فرنسا في بداية التسعينيات وذهبت الى المنطقة التي كان يقيم فيها والدها، والتقت بالفعل بعض أصدقائه مثل الحاج محمد بو بيجني الذي أكد لها عدم انتحاره..،وأن ذلك قد تم بفعل وشاية من جاسوسة فرنسية كانت تقيم بالقرب من داره وتشي به عند السلطات الفرنسية، حتى سجن لفترة في سجن (ساموري) بباريس ثم أطلق سراحه، والحديث لا يزال لابنته السيدة مسعودة ـ، وحين رُمِيَ في نهر السين لم يكن قد مات بل أسُعِف إلى المستشفى وهو حيّ، ثم مات في المستشفى.

          وهم يبررون عدم انتحاره بأن هناك عوامل عديدة تحد من قيامه بهذا العمل الشنيع منها طبيعة الشعب الجزائري المسلم المحافظ الذي يرى أن الانتحار هو إلقاء النفس في التهلكة التي نهى عنها الإسلام، بالإضافة الى أن الشاعر نفسه كان رجل دين ومتمسكًا بدينه وملتزما تعاليمه ولا يمكن لعضو عالم وعامل في جمعية العلماء المسلمين أن يقدِم على هلاك نفسه، الى غير ذلك من الأسباب.. هذا والله أعلم.

          وهذه أيضا نماذج من شعره ومطارحاته..

          يقول الشاعر مبارك جلواح في رسالة تودد شعرية إلى ابنته الوحيدة السيدة (مسعودة مبارك محمد جلواحي / هكذا في هويتها الرسمية)، التي يناهز عمرها الآن السبعين عاما والتي التقيتُها في منزلها بالجزائر العاصمة أثناء زيارتي بحضور حفيدها، وتحدثتُ معها عن أبيها.. وكان قد أحس أنها عاتبة عليه لابتعاده عنها.. فبعث إليها من منفاه هذه الأبيات:

ولي بنت غداة البين كانت بظل المهد تصطخب اصطخابا
ولما جئتها فرت سراعا وقد ارخت من الخفر الحجابا
فقلت لها أميطي الستر هذا أبوك اليوم قد رام الترابا
تقول هجرتني دهرا وما لي ذنوبٌ أستحق بها العقابا
فقلت لها ابنتي عفوا فإني أب ذو رحمة إن زاغ تابا


          ورغم ما أحاط شاعرنا من إحباط وأحزان ومآس فإنه لم يترك التغني بالحب وبالطبيعة، فها هو يعزف شوقا في قصيدته (زورة الوداع):

باتت إليك يد الأشواق تدفعه نِضْو جفى جنبه المكلوم مضجعُهُ
طارت تجوب به الأغوار صبوته والليل قد جلل الأقطار برقعُهُ
ترى مُرَنّمة الأزهار تخبره أنْ قد حوتنا بهذا الليل أربُعُه


          وله أشعار وقصائد فلسفية وفكرية ووجدانية ووطنية ومناسباتية كثيرة للغاية، في استقلال مصر وسورية، ونهضة الوطن العربي وشهداء فلسطين والثورة الجزائرية وغيرها كثير لا يتسع المجال لاستعراضها، ولابد من الإشارة إلى أن للشاعر كتابات نثرية عديدة نشرها في عدد من الصحف الجزائرية المعاصرة له أبرزها جريدة البصائر وغيرها، وسيخرج إبداع هذا الشاعر مع جانب عن حياته وشعره ونثره وما كتب عنه في كتاب مستقل سنقوم بطباعته قريبا إن شاء الله.

          وقد يكون من نافلة القول العودة إلى المقولة المأثورة التي أنقلها معنى لا نصا.. أن (من أبطأ به عمله.. لم يسرع به نسبه) ولكن كيف يكون امتداد الحرف، والزمن، والدم، والخفقان.. بين الأحساء.. والجزائر.. فنعرف هذا الشاعر الذي ظل مجهولا لفترة طويلة ؟ فهل هو مِن آلنا ? الله أعلم..!.
----------------------------------
(1) اللهاذم: جمع لهذم وهو السيف القاطع أو الرمح الحاد أو أي شيء حاد القطع.
(2) الضياغم: جمع ضيغم وهو من أسماء الأسد.

 

محمد الجلواح   





 





كاتب المقال، الثاني من يسار الصورة وهو في ضيافة آل الجلواح بالجزائر