النبوءة

النبوءة
        

          كانوا ثلاثة، قادمين من بلدة الحميمة بالشام، ومتجهين جنوبا إلى مكة للالتحاق بموسم الحج، ثلاثة من أشراف العرب، بدا ذلك واضحا في هيئتهم وتصرفاتهم وبصف الخدم الذين يسعون خلفهم وهم يسوقون الإبل وما عليها من متاع فاخر، كانت الصحراء تمتد مثل متاهة بلاحد، الرمل تحت الشمس الغاربة رمادي شاحب، تقدم أولهم، أبو جعفر، كان في بداية الأربعين من العمر، عريض الصدر، كث اللحية، عيناه نافذتان كحدقتي صقر، أشار إلى قرية صغيرة، كل بيوتها بلون الطباشير الباهت، لون الجبل نفسه الذي يحتضنها، وقال إلى أقرب الرجلين إليه: سنقضي ليلتنا في هذا المكان ياعماه

          قال الآخر الذي لم يكن يكبره في السن إلا بسنوات قليلة:

          الرأي لك يابن أخي

          وتقدم الثالث بجواده وهو يقول: سأنتظر على هذا التل حتى تغرب الشمس فأصلي وألحق بكما.

          قال أبو جعفر: من عجب أن تحافظ على وضوئك كل هذا الوقت يابن عبد الله

          لم يتبين الثالث نبرة السخرية في صوته، واكتفى بتمتمات الحمد، وتركه الرجلان وانحدرا من على قمة التل، وبقي هو مشرئبًا يرقب قرص الشمس بحمرته الذائبة، قال أبو جعفر لعمه: محمد بن عبد الله هذا سيشف جسده من كثرة التعبد وسيتحول إلى روح هائمة في هذه الصحراء

          قال عبد الله بن علي: يا أبا جعفر يابن أخي، هؤلاء الطالبيون لا يطلبون شيئًا في دنيانا، لو كان زمن الشهادة قائما لقدموا رقابهم راضين إلى بني أمية

          وفكر أبو جعفر في نفسه، ولكن زمن بني أمية قد انقضى، والناس الآن يلبسون السواد، ويرفعون أعلامًا عليها خرقا سوداء، جاء بنو العباس بوعد غامض من الرسول وسيوف مجلوة لا يخطئها أحد، صعدوا إلى سدة الحكم تؤازرهم قوة الموالي والعجم، ودانت لهم دنيا واسعة، تمتد من حدود الهند إلى أقصى بلاد المغرب، لم تستعص عليهم إلا بقعة وراء البحر هي الأندلس، امتلكوا الأرض بعد أن كانوا مطاردين فيها، وسكنوا القصور بعد أن كانوا لا يجدون جحرًا يختبئون فيه من سيوف بني أمية.

          كان هذا زمن الفتنة، أئمة مخلوعون وخلفاء هاربون، وقادة تركوا الفتوح وانهمكوا في احصاء الغنائم، ودولة بني أمية التي اتسعت أطرافها أخذ قلبها ينبض في وهن، كل ثائر فتح جرحًا، وكل حاكم أبدى تخاذلًا، وعندما انطلقت سيوف أبي مسلم من خراسان تحمل دعوة بني العباس وبيارقهم السوداء لاحت نذر النهاية، شاخت دولة بني أمية وانقضت، وسبحان من له الدوام.

العرافة

          نصبوا خيامهم في ساحة القرية وأوقدوا نارهم، وبدأ الخدم في إعداد الطعام، ولكن أحدًا لم يقترب منه حتى هبط محمد بن عبد الله من فوق التل بعد أن انتهى من كل الصلوات، أكلوا وتسامروا وأخذت نسائم الليل تهب عليهم باردة، ولكن انقطع حديثهم عندما أقبلت عليهم امراة، غجرية من الشام، مكشوفة الوجه، مهوشة الشعر ثيابها صاخبة الألوان، تقدمت حتى وقفت أمامهم، وانعكس وهج النار على وجهها المليء بالتجاعيد، سلط عليها أبو جعفر عينيه النافذتين ولكن لم يبد عليها أنها تأثرت أو خافت، قالت: يالكم من ثلاثة قلما تجتمعون في مكان واحد، ولا جامع لكم بعد الآن.

          غاصت أحاديثهم ولم يقطع الصمت إلا صوت الحطب الذي يطقطق والشرر الذي ينطلق منه، وتطلعوا إلى وجهها المتغضن في قلق، وكان أبو جعفر هو أول من تمالك نفسه وقال لها: من أنت يا امرأة؟

          قالت في صوت خافت ولكنه واضح ومؤكد: امراة بصارة، تقرأ الغيب وتعرف المخبوء في بطن القدر.

          ضحك محمد بن عبدالله في عصبية: هذه أشياء لا يعلمها إلا الله

          قالت المرأة بصوت يحف به صدى الصحراء:

          ولكن سماته في خلقه لا تخطئ، هأنا أراكم أمامي، خليفة، وخارج عليه، وعاص له.

          قال أبو جعفر: امرأة مجنونة، نحن فقط ثلاثة من الأصدقاء خرجنا معا للحج.

          نهضت المرأة وهي تقول: لست مجنونة، وإنما الزمن أصابه الجنون.

          واختفت في الظلام كأن لم توجد، دون أن تطلب أجرًا أو صدقة، وظلت النيران ترتعد تحت برد الليل، كانوا يرتجفون، ولكنهم تجاهلوا ماسمعوا من كلمات، وناموا متجاورين تحت ضوء النجوم البعيدة.

الخليفة

          تعاقبت الأيام، كانت في انتظارهم أحداث جسام أنستهم كلمات المرأة المجنونة، وعلى الرغم من انقضاء موسم الحج فإن أبا جعفر فضل البقاء في مكة حيث قبيلته من قريش وبيوت أهله من بني العباس، كان يأنس لهذه البقعة التي أصبحت صغيرة وسط دولة بهذا الاتساع، ولكن رسولًا عاجلًا جاء من الشمال، يحمل حزنًا على وجهه ورسالة في يده، كانت الرسالة من عيسى بن موسى العم الثاني، والساعد الأيمن لأخيه الخليفة أبي العباس السفاح، كان يخبره بموت السفاح أول خلفاء بني العباس، وأنه قبل أن يموت قد اختار أخاه أبا جعفر المنصور ليكون الخليفة الثاني على المسلمين، وأنهم جميعا ينتظرون قدومه للعراق حتى يستوي على عرشه، تداخلت، وتناهت إلى سمعه كلمات مختلطة، كلمات التهاني مع كلمات التعازي والمبايعة، ولكن جعفر لم يكن يهتم بمن أمامه، كان يبحث عن شخصين لم يكونا حاضرين، صاح: اطلبوا بيعتي من أقرب الناس إلي، عمي عبدالله بن علي، وصديقي محمد بن عبد الله..

          ولكنهما كانا قد اختفيا عن الأنظار.

العاصي

          في مدينة حران بالشام، كان عبدالله بن علي غاضبًا يصرخ فيمن حوله: جعفر هذا لا يستحقها، أنا أحق بالخلافة منه، أنا أكبر بني العباس سنًا وقدرًا ومقامًا، أبي وعدني بالخلافة عندما بدأنا الدعوة، ولكن السفاح أخذها مني، وها هو يهديها لأخيه الأصغر.

          ردد كل من حوله: والله لن نسكت أبدا، سنسبقه للعراق ونقطع عليه خط الرجعة، ولكن تهديداتهم كانت متأخرة، وكان العم الآخر عيسى أبن موسى قد قطع نصف الطريق إلى الأنبار، وقابل الخليفة الجديد، وأخذ منه وعدا بأن يكون هو ولي عهده، كل شيء كان ملتبسا، والفرق بين الموالاة والعصيان يكاد لا يرى، وعندما استوى أبو جعفر المنصور على عرشه أحس بريح الخطر القادمة من الشام، كان يدرك أن حرب البيت الواحد تكون هي الأشد ضراوة، لذلك لم يكن يريد أن يكون البادئ بالقتال وأحضر الرسل وأمرهم أن يسيروا إلى عمه حاملين رسائل المسالمة والتصالح، والتذكير بقرابة الدم وصداقة الروح، الوعد ببذل كل شيء من أجل الحصول على رضاه، ولكن ترضية العم الوحيدة كانت العرش، وفشلت كل المراسلات، ولم يبق بديل إلا المواجهة والتقاتل، قال أبو جعفر: لن أرسل إليه أحدًا من بني العباس فليذهب إليه غريب عنا، فليذهب أبو مسلم الخراساني.

          ولكن القائد الفارسي، هو، رجل المهمات الصعبة، لم يحدث أن خاف أو تراجع، كان مترددًا هذه المرة، كان قد ذبح ما يكفي من العرب الذين والوا بني أمية، ولكنه كان مدعوا هذه المرة لذبح رأس كبيرة من بني العباس، وهو ذنب مهما بدا مبررا الآن فلن يغتفر بعد ذلك، ولكن أبا جعفر أكد له مضاء عزيمته وتحجر قلبه: اذهب وآتني برأس هذا العم العاصي.

          كانت السلطة كعهدها سيفا أعمى، يقطع الوشائج ويبتر الأواصر، سار أبو مسلم إلى حران، وهناك رأي جيوش عبد الله بن علي محتشدة ومتحفزة، كان لابد من استخدام الحيلة، أمر عيونه فداروا حول خيامهم حتى عرف أين توجد مصادر المياه التي يستقون منها، أمر أتباعه فذبحوا بعض الخيول المريضة، وأنتظروا حتى دب فيها العفن ثم ألقوها في هذه المياه، من خبرته كان يعرف أن العطش في وهج الصحراء أشد وطأة من السيوف الباترة، وعندما هاجم جنود ابن علي كان في انتظارهم، ومثلما توقع لم يصمدوا طويلا، سوف ينهكهم العطش قبل أن يجهدهم الكر والفر، وكان له ما أراد، انهزم عبد الله بن علي وتشتت جيشه، وهام في الأرض يبحث عن مخبأ، ولكن كل الذين لجأ إليهم وشوا به للخليفة، عندما ارتمى على قدم أبي حعفر متوسلا إليه:ارحم عمك، لحمك ودمك.

          كان اوان الرحمة قد فات، ولم يخيب الخليفة ظنون أبي مسلم فكافأه هو أيضا بالقتل بعد فترة وجيزة من مقتل عمه.

الثائر

          بقي العدو الآخر، الصديق المختفي، كان محمد ابن عبدالله من نسل الحسن بن علي بن أبي طالب. زاهدًا وعادلاً ومتعبدًا، لذا أطلقوا عليه النفس الزكية، كان هو الأمل الباقي للعلويين من أجل استعادة الخلافة، الإمام الذي سيعيد للزمان ميزانه الذي اختل، طلب أبو جعفر من جميع عماله وولاته وقادته أن يبحثوا عنه، أعلن أنه سيعفو عنه، وانه يريده فقط أن يحضر ليلقى البيعة ويعلن الولاء، ولكن النفس الزكية كان متأكدًا أن أبا جعفر ليس بعاف، ولو كان كذلك لعفى عن عمه، ظل مختبئًا، لا تبوح الصحراء بسره ولاتشي الآثار بمكانه، وقال الخليفة في حنق: لو عرفت مكانه لأرسلت له من يدس له السم. ولكن عيسي بن موسى رد في حنكة: فلنحتل له يامولاي، إن لم يكن يريد الظهور فلنرغمه على ذلك.

          وهكذا بدأت حملة شعواء، هجم جنود الخليفة على بيوت العلويين، قبضوا على الأب العجوز للإمام المختفي، وعلى أمه وأخواته وأولاد عمه، وضعهم الخليفة داخل السجون وأقام عليهم عشرات العيون والحرس، كان أبو جعفر يعرف أن النفس الزكية لن تتحمل هذا الأمر، وأن إحساسه النقي بالعدل سيتحول إلى إحساس قاتل بالذنب..

          كان الخليفة مصيبا في حدسه، لم يتحمل النفس الزكية ما حدث لأهله، جمع أنصاره على عجل وقرر أن يخوض المعركة، لم يكن الوقت مناسبا له، ولا كان هو نفسه محاربا، كان ناسكا أرغمته الظروف على أن يلجا للسيف، خاض معركته بلا تراجع، وواجه جيوش دولة العباس ولكن من ذا الذي يقدر على هزيمة دولة وهي في نجم صعودها.

          دارت الدائرة وانهزمت النفس الزكية، وحملوا رأسه إلى أبي جعفر العباس، قلب الرأس بقضيب كان في يده، وتذكر تلك الليلة البعيدة، عندما ظهرت المرأة العجوز لثلاثتهم من جوف الصحراء: وقال: لقد تحققت النبوءة.

سَأعْتِبُ خلاَّني وأعْذِرُ صاحبي بما غَلَبتهُ النَّفسُ والغلواءُ
وما ليَ لا أعفُو وإِنْ كان ساءَني ونفْسي بمَا تَجْنِي يَدَايَ تُسَاءُ
عِتابُ الفتى في كلِّ يومٍ بليَّةٌ وتقويمُ أضغانِ النِّساء عناءُ
صبرتُ على الجلَّى ولستُ بصابرٍ علَى مجلسٍ فيه عليَّ زِرَاءُ
وإِنِّي لأَستَبْقِي بِحِلْمي مودَّتِي وعندي لذي الدَّاءِ لملحِّ دواءُ


بشار بن برد

 

محمد المنسي قنديل