مغزى العامل الإنساني

مغزى العامل الإنساني
        

لقد أنتج الإنسان العاقل حياة مليئة بالتعقيدات .. وفي لحظة من اللحظات بدا هو نفسه وكأنه على وشك الضياع في متاهة هذه التعقيدات  

          عندما خسر بطل العالم للشطرنج جاري كاسباروف مباراته الشهيرة ضد الكمبيوتر «ديب بلو»، خاف الكثيرون. وكان السؤال: «هل بوسع الكمبيوترات أن تفكر حقا»؟

          كل ما فعله خبراء شركة آي بي إم مع ديب بلو أنهم أدخلوا إلى برامجه خطوات بديهية ليكملوا منطقه الرياضي. والنتيجة أنه نجح في قهر أحد أفضل لاعبي الشطرنج في التاريخ. فهل يعني هذا أن الكمبيوترات ستكون قادرة في لحظة ما على تطوير منطقها الخاص، والتصرف مستقلة حتى عن عقول مبرمجيها؟ وهل سيكون بوسعها يوما أن تحركنا نحن كأحجار على مسرح الحياة تماما كما فعلت مع الأحجار على رقعة الشطرنج؟

          لقد اخترع الانسان الكمبيوتر ليخرجه من متاهة الحياة المعقدة، أو هكذا تصور ذلك. لكن الكمبيوتر بات قادرا على التغلغل في أدغال نتائج التجارب العصية على الاختراق، وعلى تزويدنا بمجموعة من القوانين القادرة على تفسير جانب منها.

          هل خلقنا شيئا سيتمكن يوما من تهميش البشر؟ هل ستتمكن هذه الآلات يوما ما من أن تكون بشرا بمعنى من المعاني؟ هل نحن أمام نعمة واعدة أم أمام شر مطلق؟ هل ما يحدث أمامنا انتصار لذكاء الإنسان مخترع الآلة، أم أن الآلة ستقود يوما هجوما على الروح البشرية؟

          لا أعتقد أنها ستصل يوما إلى هذا الحد. لكن هذه التساؤلات تقود بدورها إلى تساؤلات أكبر وأكثر تفصيلا. هذه التساؤلات كانت محور كتاب البروفيسور جيمس تريفل، المؤلف العلمي البارز وأستاذ الفيزياء في جامعة جورج ماسون، الممتع «هل نحن بلا نظير؟ Are We Unique?»، الذي صدر أخيرا عن سلسلة عالم المعرفة الكويتية بترجمة ممتازة من السيدة ليلى الموسوي، التي قدمت نفسها للكاتب العربي من خلال هذا الكتاب كمترجمة واعدة ننتظر منها الكثير.

          والكاتب البروفيسور جيمس تريفل، قدم عددا من أشهر الكتب العلمية المهمة التي احتلت مقدمة قائمة الكتب العلمية الأكثر مبيعا، من بينها «تأملات على ارتفاع عشرة آلاف قدم: عالم في الجبال Meditations at 10,000 feet: A scientist in the mountains»، و«من الذرات إلى الكواركات From atoms to quarks». وهو يكتب بأسلوب جذاب يجمع بين الدقة العلمية وبساطة اللغة التي يفهمها القارئ غير المتخصص.

ما الذي يجعلنا بشرا؟

          والسؤال الذي حمله عنوان هذا الكتاب ينطوي في ذاته على عدد لا حصر له من أسئلة أخرى تتعلق بما الذي يجعلنا بشرًا ? بما في ذلك ما هو دورنا ومسئوليتنا على الأرض؟ وما الذي يكون الذكاء؟

          وقد اتسمت الحوارات حول هذه القضايا بالتعقيد الشديد، بل وبالتشوش في أحيان كثيرة. وكما يقول تريفل: «مع تبحر الإنسان أعمق فأعمق في العالم، فإننا نستهلك الأسئلة البسيطة. وباطراد تغدو المسائل التي نريد حلها أكثر صعوبة، وفي الغالب تصعب الرؤية عبر كمية البيانات لتمييز البساطة التي نعتقد أنها هناك. فالشجر الذي يألف الغابات يجعل الجذوع غير مرئية».

          وعبر صفحات الكتاب، يحاول تريفل أن يثبت ليس فقط أن الإنسان فريد، بل إنه الشيء الأكثر فرادة في الكون.

          والحقيقة أن هذا هو موقف «الإنسان» ذاته منذ أن بدأ التفكير. فقد أقر لنفسه بالسيادة على الأرض وكائناتها وثبت فجوة لا يمكن عبورها بيننا وبين بقية الخلق.

          وقد تغير هذا قليلا في السنوات الأخيرة. فقد بدأ بعض الفلاسفة والعلماء يتساءلون عما إذا كان ذكاء الحيوانات وتواصلها يمكن أن يصل بل وقد يقترب من المستويات الأساسية الفكر واللغة الإنسانيين..

          ومن خلال تشريحه للقدرات الإدراكية للحيوانات - بدءا من الثدييات وحتى القشريات (رتبة من الحيوانات البحرية تشمل السراطين وجراد البحر والروبيان) - والذكاء الاصطناعي، يقدم تريفيل مرافعة رائعة مفعمة بالحيوية ومدعمة بالبراهين العلمية عن تفوق العقل البشري.

          ويؤكد تريفل أن الذكاء البشري فريد في العالم الذي نعرفه. وبينما تتواصل الحيوانات- بعضها إن لم يكن معظمها يشك في قدرته على ذلك- فإنها ببساطة لا، وعلى الأرجح لا يمكنها أن، تستخدم لغة حقيقية. وهي توجد خلف حاجز غير مـــرئي لا يمكن تجاوزه يحول بينها وبين التفكير أو التواصل كما يفعل البشر.

          والفكرة الرئيسية التي يطرحها تريفل في هذا الكتاب هي أن الاختلاف بين «وعي» - إن جاز لنا استخدام هذا التعبير- الحيوانات ووعي الإنسان هو أكبر من مجرد اختلاف في الدرجة. فهو يبين بالأدلة العلمية أن الاختلاف كبير جدا إلى حد أنه يمثل اختلافا في النوع.

          ويكمن معظم هذا الاختلاف في الدماغ البشري، أو كما يقول المؤلف: «مهما كان الذي يفصلنا عن بقية الحيوانات، فإنه ذو صلة بوظائف دماغنا. في تلك الكتلة ذات الثلاثة أرباع الرطل والمحاطة بعظام جمجمتنا يكمن السر في تفرد الإنسان». وينطبق الأمر نفسه على آلاتنا. فقد طرح ظهور الكمبيوترات الأكثر تعقيدا إمكان أن يتجاوز الذكاء الاصطناعي يوما ذكاءنا ذاته، أو أن الكمبيوترات المتطورة، يمكنها، كما توقع البعض، أن تضاعف، وربما تحل محل، العقل البشري.

          وقد قسم تريفل كتابه إلى جزأين متساويين تقريبا. فقد كرس الفصول السبعة الأولى من الكتاب لكي يبين لنا أننا بلا نظير مقارنة بالمملكة الحيوانية. وهو ما تبدى في عناوين الفصول: هل تبقى لنا شيء؟»، و«البشر والحيوانات متشابهان ولكن مختلفان»، و«حول شقائق البحر الهاربة وأم الربيان الذكية»، و«هل تستطيع الحيوانات أن تتكلم؟»، و«الدماغ»، و«حول العصيات المدكوكة والخلايا الجدات.. كيف يعمل الدماغ؟» و«كيف غدونا بهذه الفطنة؟ تطور الذكاء». بينما خصص الفصول السبعة الأخيرة لإثبات أننا بلا نظير مقارنة بالكمبيوترات والذكاء الاصطناعي. وحملت هذه الفصول العناوين التالية: «العجلات المتحركة والإلكترونات المتحركة.. كيف يعمل الكمبيوتر؟»، و«الذكاء الاصطناعي، الآلات القابلة للتعلم والغرف الصينية»، و«لماذا لا يعد الدماغ كمبيوترًا؟»، و«هل يستطيع الدماغ إنجاز ما لا يستطيعه الكمبيوتر؟»، و«مشكلة الوعي»، و«الوعي والتعقيد» و«ما الذي تبقى لنا؟».

          وفي الفصول السبعة الأخيرة من الكتاب، يطرح جيمس تريفل سؤالا مهما: «هل بوسع الكمبيوتر أن يرسم يومًا لوحة كالموناليزا، أو يكتب يومًا مسرحية كهاملت أو يتوصل إلى ميكانيكا الكم أو نظرية النسبية؟»

          ويحاول تريفل أن يثبت أن الحدود التي تفصل بين الجنس البشري وبين الحيوانات والآلات هي حدود لا يمكن تجاوزها.

          ويستخدم أمثلة فاصلة مقنعة من بيولوجيا التطور، وعلم النفس، وعلم الكمبيوتر، والفلسفة وعلم التعقيد الجديد لإثبات ما ذهب إليه.

          ويشخصن المفاهيم العلمية المجردة مع القياس الأنيق مع النوادر الطريفة، مثل حكايته عن مغازلته لزوجته: «كنا في مطعم في شيكاغو، وعندما نظرت إليها عبر المائدة عرفت بيقين، أكبر مما عرفته عن أي شيء في الفيزياء أو الرياضيات، أنني أحب هذه المرأة. وسيتعين على المدافعين عن الذكاء الاصطناعي أن يبذلوا قصارى ما في وسعهم لكي يقنعوني أن الحساب المركب في ماكينة تورينج سيمكنه يوما أن يفعل شيئا من هذا القبيل».

          ويرى تريفل أن القدرة على صنع الآلات كانت دائما إحدى قدرات الإنسان المميزة. أو كما يقول المؤلف: «نحن نصنع السيارات، لكننا لا نشعر بالتهميش لأنها تسير أسرع منا... وفي رأيي أن جهازا يلعب الشطرنج وهو لا يمتلك وعيًا سيكون في نفس خانة عدم التهديد بالخطر».

فرادة الإنسان

          وعلى الرغم من أن البروفيسور تريفل يقدم دفاعا علميا متماسكا عن فرادة الإنسان، فإن أسلوبه المتبصر البارع والخفيف الظل? أو بعبارة أخرى الإنساني- هو الذي يقنع القارئ بأنه لن يمكن لأي آلة أن تنجح يوما في أن تحل محل مؤلف أو تنتج عملاً كعمله.

          وفي النهاية، يجيب تريفل عن التساؤل الذي حمله عنوان كتابه: نعم نحن بلا نظير، بكل ما يحمله ذلك من معنى، وسنبقى على الأرجح كذلك. وإذا أردت أن تعرف بالتفصيل أسباب ذلك فيمكنك العودة إلى هذا الكتاب الممتع.

          لكن في الختام لا بد لنا من إبداء ملاحظة مهمة، وهي أن المؤلف فقد جانبا من موضوعيته العلمية عندما حدد مسبقا ومنذ البداية هدفه من الكتاب وهو إثبات فرادة الإنسان. فلم يقدم عبر صفحات الكتاب تعريفا قاطعا لمعنى الفرادة. وتفوق كائن ما في صفة ما لا يعني أبدا أنه أكثر فرادة منا. فعلى سبيل المثال، أثبت العلم أن الحيتان تتواصل عبر الموجات الصوتية، وهي متفوقة بالتأكيد علينا في هذه المنطقة، فهل يعني هذا أنها أكثر فرادة؟ لكن رؤية تريفل كانت ستكون أكثر دقة لو أنه ناقش منذ البداية أسباب تفوق الإنسان. فعبر صفحات الكتاب، أثبت تريفل ببراعة شديدة أن البشر أكثر «بشرية» من كل الأنواع الأخرى.

 

جيمس تريفل   





 





البروفيسور جيمس تريفل