من العبودية إلى النبالة
من العبودية إلى النبالة
إنها سيرة لأسرة تفيض بالمغامرات المتباهية المتهورة، توقظ أسلاف بوشكين بنجاح في مكانه الخليق به كواحد من الشخصيات الأكثر إثارة للعجب في القرن الثامن عشر في روسيا. في عام 1704، وصل صبي أسود البشرة عمره سبع سنوات إلى بلاط بطرس الأكبر قيصر روسيا، وقد لاحظ بطرس ألمعيته، وتبناه كابن بالمعمودية، وتم تعميده تحت اسم أبراهام بيتروفيتش هانيبال. وطبقًا لأعراف القصر، فيما يخص الشديدي السُمرة، أعطى له اسم هانيبال نسبة إلى ذلك القائد القرطاجنى الذي جاء من إفريقيا وكان عدوًا لروما، كتب هيوج بارنيز، أن طقوس التعميد كانت بمنزلة تدشين لمهنة متفرّدة في البلاط الروسي، متنافرة وتقليدية، ليس فحسب بسبب لون جانابال، ولكن أيضًا بسبب انحداره من أسلاف تجعل قصة حياته شيئًا استثنائيًا: حفيده الأكبر ألكسندر بوشكين، شاعر روسيا القومي، وقد كتب بوشكين الرواية بطريقة متقنة، لكن لم ينهها هذا الأسود وبطرس الأكبر. والآن، فإن مؤرخ السيرة بارنيز الذي يعرف روسيا جيدًا، كتب تلك السيرة الجديدة كاملة، فقد قال إن هانيبال هذا ليس أثيوبي الأرومة ولكنه، وفي إنجاز غير مسبوق للبحث التأريخي وكتابات الرحلات، أثبت وعن قناعة تامة أنه ابن لشيخ قبيلة من تشاد، وقد سافر مكتشفًا وزائرًا لقريته من أهله وبني جلدته وأجرى كذلك أيضًا مقابلات مع بعض المتحدّرين من أسلافه. لقد تم بيع هانيبال من قبل تجار الرقيق، وتم إحضاره إلى بلاط العثمانيين، وكان في حال اضطراب عندما وطئ استانبول وسجل اسمه كعبد في فترة السلطان أحمد، حيث احتدم القتل بطريقة وحشية ودارت كئوس الانقلابات على رءوس صانعيها، وانتشرت المكائد على أيدي الإنجليز بطريقة جنونية. وكجزء من بطانة بطرس الأكبر، استمر هانيبال في القتال ضد الملك تشارلز الثاني عشر ملك السويد، وتلقى تدريبًا متواصلاً كمهندس ونجار سفن. في عام 1709 عندما ناهز اثني عشر عامًا، حارب في معركة بولتافا التي هشّمت أسطول الإمبراطورية السويدية، وكفلت لبطرس الأكبر عاصمة جديدة هي سانت بطرس، ومنذ ذلك الحين أضحى هانيبال السكرتير الخاص لبطرس، موجهًا كل رسائله، لكن القرابة الملكية جعلته عدوًا خطرًا للمحسوبين على الإمبراطور، والأمير ألكسندر مينشكوف. في عام 1717، اصطحب الإمبراطور هانيبال في جولة أوربية، حيث حط رحاله في باريس، وأصبح يرتاد صالونات الدوقات والفلاسفة، ويحاور فولتير كما يساير زنوج القيصر، حيث يُحتفى به مع الأولين، ويتحبب إليه الآخرون (الزنوج). انطلق بطرس صوب وطنه، تاركًا هانيبال كجاسوس في بلاط الملك الصغير، لويس الخامس عشر، الذي كان يحكم في الحقيقة عن طريق وصي على العرش هو دوق أورليان. كان هانيبال مستمتعًا بقضايا الحب وشجونه، وبالرغم من موالاته الشديدة للملك، فما إن بدأت أمواله تتناقص حتى أصبح متورطًا في مكائد البلاط الغادرة، ولم ينقذه من براثن ما وقع فيه إلا أمر الإمبراطور بطرس له بالعودة في الوقت المناسب تمامًا. في روسيا أصبح هانيبال مهندسًا متألقًا، وأضحى محل ثقة القيصر في الوقت نفسه الذي توّج فيه القيصر نفسه كأول إمبراطور لروسيا في عمر اثنين وخمسين عامًا، وقبيل وفاته بعام سنة 1725 !، وقد خلفته على العرش أرملته، كاترين الأولى، التي كانت محظية سابقة وخليلة لمينشكوف الذي كان يملك ولا يحكم، بينما كانت كاترين تحكم ولا تملك طيلة العامين اللذين حكمت فيهما بين عامي 1725 - 1727، بينما بدأ هانيبال يحيك مؤامرة ضد مينشكوف. عندما توفيت كاترين، خلفها حفيد بطرس متخذًا اسم بطرس الثاني، وكان تحت مجهر مينشكوف، واكتشف الملك الشاب المؤامرات التي تنسج حبالها حول عنقه ومن وراء ظهره. تم إبعاد ونفي هانيبال إلى حدود الصين، حيث قام ببناء قلعة هناك، وعندما سقط مينشكوف في انقلاب عسكري، تم استدعاء هانيبال من قبل أصدقائه الذين شجعوه وآزروه كأسقف أبرشية يحظى بالاحترام، حتى يشيد حصونًا على ضفاف بحر البلطيق. اقترن هانيبال بفتاة روسية تدعى إيفا دوكيا Yevdokia، وكان زواجًا موفقًا تظلله خمائل السعادة: وعلى الرغم من صرامته المنضبطة في بيته، فقد تزوج بعدها بأخرى سويدية الجنسية كريمة المحتد وذات أصل نبيل، وأنجب منها سبعة أطفال. وخلال حكم ابنة بطرس الأكبر إليزافيتا Elizaveta، المتقلبة الأهواء، أصبح هانيبال متصرفًا وحاكمًا على استونيا. في عام 1762، بدأت المؤامرات على بطرس الثالث الذي تسلم سدة العرش في العام نفسه الذي أطيح به في «انقلاب قصر» من قبل زوجته كاترين العظمى (الثانية) التي دام حكمها 34 عامًا (1762 - 1796) والتي ما فتئت أن طردت هانيبال، وسرعان ما انكفأ معتزلاً في ضياعه المترامية الأطراف حتى لحقت به المنية في عام 1781 عن عمر يناهز الرابعة والثمانين. سلّط بارنيز الضوء بدقة على مسيرة ومسار حياة هانيبال الرائعة: هذا الرقيق الأسود القادم من تشاد الذي انتقل بكونه قِنّا يمتلكه السلطان العثماني إلى ابن بالمعمودية، ونبيلاً مالكًا لأرض، ويحظى بتقدير يدعو للدهشة على مستوى عالمي وأصبح ملء السمع والبصر على امتداد القرن الثامن عشر لما يتمتع به من مواهب شخصية. قصة هذا البطل الأسود في البلاط الإمبراطوري لا تستطيع شركة «هوليوود» أن تتغافلها، بل لا يمكن مقاومتها، حتى تصير فيلمًا يسيل له لعاب المنتجين والمخرجين؟! ومن العجب ألا نعثر أو نكتشف عما حدث لبقية أسرة هانيبال، خاصة منذ إماطة اللثام عن الأرشيف الذي يحتوي على المهنة الناجحة، التي امتهنها أبوه، جنرال إيفان هانيبال الذي خدم تحت إمرة كاترين العظمى، والأمير بوتيمكن على ضفاف البحر الأسود، مشيّدًا المدينة الأولى خيرسون Kherson.
|