مساحة ود

مساحة ود
        

وسط حقائب كثيرة

          كنت أعيش بمدينة ما ببلد ما، وكان بعض الناس في هذه المدينة يعنون لي الكثير بل كانوا كل شيء لي هناك، الزمان والمكان وكل الأشياء التي أحب، فالناس أحيانا يختصرون كل الأشياء بذواتهم. مضت السنون والأيام وبدأ يتكشف لي أن لا شيء يبقى كما هو، وأن كل شيء قابل  للتغيير مهما كانت الثوابت التي يملكها. ومع أن هذا التغيير كان صارخًا ومؤلمًا وواضحًا فإنني لم أكن مقتنعة به ولا بأسبابه، وأنه ليس من الممكن أن يتغير المرء وأن يتنكر لمن يحب مهما كانت الأسباب.

          ومع أني فهمت هذا الواقع الجديد الغريب تماما عني فإنني كنت لا أزال غير مقتنعة ورافضة تماما لهذا الجديد الغريب وأرفض التعايش معه.

          دقت ببالي حينها كالناقوس كلمات  للشاعر الكبير محمود درويش عندما قال في إحدى قصائده:  ذهب الذين تحبهم فإما أن تكون أو لا تكون. كان الذهاب بالنسبة لي ليس بالمعنى الذي أراده محمود درويش، فالذهاب ليس بالموت أو الهجرة فقط، بل إنه يمكن أن يكون أقسى، عندما يتغير ويتبدل المرء وهو لا يبرح مكانه أمامك ومازال يشاركك في كل الأشياء أو بعضها، فإن هذا الذهاب أقسى وأمر من الموت بعينه ومن الهجرة، إذ لا يقف فيهما الأحباء أمامنا، لكنهم معنا بأرواحهم بكل التفاصيل التي نعيشها.

          وأصبح معنى الكينونة لي والحال هذه، أن أغادر، أن أرحل من هذا المكان، إلى حيث لا عودة.

          لملمت كل أشيائي ووضعتها في حقائب بأحجام مختلفة، اتسعت هذه الحقائب بأعجوبة لكل تلك الأشياء، لكنها لم تتسع بأي حال من الأحوال لكم هائل من الذكريات، لم تتسع للفرح والحزن اللذين عشتهما هنا، ولا للأيام الجميلة التي قضيتها مع كل الذين أحببتهم بهذا المكان، حتى أنا كنت أحاول اختزال كل هذه المشاعر وأحاول لملمتها في الحقائب تارة وأحاول طرحها منها ومن ذاكرتي تارة أخرى، فلم يكن الذنب ذنب الحقائب وحدها. المهم أنني نجحت أخيرا في جمع أمتعتي وأصبحت غرفتي فارغة أو نصف فارغة.

          وظننت حينها أنني أرحت نفسي من عناء كبير ولم يبق غير اليسير من هذه الرحلة، إلا أن هذه الراحة كانت بداية المشقة، فلا يعني أنني هيأت نفسي للرحيل أنني سأرحل فعلا وباللحظة التي أحددها فكان لابد من أن يقلني أحد إلى بلادي. وبدأت أبحث عن سيارة أجرة خاصة بالسفر إلا أن موسم الصيف وكثرة المسافرين من البلد الذي أقطن فيه وإليه, حالا دون مقصدي.

          حقائبي حولي، أرتدي كامل ملابسي المناسبة للسفر، أنتظر كل يوم سائقا ليأتي، وأصلي كل يوم ركعتي سنة السفر، أنزل كل الحقائب من الطابق الثالث حتى باب المبنى وأنتظر السائق، حتى إذا جاء نظر إليها  وهز رأسه، في إشارة منه للاعتذار، وأعاود إرجاعها للطابق الثالث، وأضطر في المساء لفتح الحقائب من جديد والبحث داخلها عما يناسبني لأبيت ليلي، ومن ثم أعود في الصباح الباكر لأرتدي ملابس أخرى مناسبة للسفر. ولأنني قررت أن أكون كما قال الشاعر فكان لا بد لي أن أرحل، لأبدأ من جديد ومن بعيد. قضيت على هذه الحال أسبوعًا كاملاً وأصبحت أنتظر أيا كان ليقلني إلى بلادي وبالمبلغ الذي يريد.

          كانت الساعة تشير إلى العاشرة والنصف ليلاً وكنت وحدي أقف بشارع معتم وحولي حقائبي وأنتظر أحدًا أيا كان ليقلني، نظرت للساعة وقلت لنفسي أين سأذهب إن لم يأت السائق؟ أين سأبيت هذه الليلة والوقت قد تأخر ولم أسافر بعد؟ وإن وجدت مكانا لأبيت فيه أين سأذهب بكل هذه الحقائب؟ اغرورقت عيناي بالدموع لإحساسي المخيف بالغربة والليل الموحش والوحدة، استدرت إلى جانبي الأيمن مسحت دموعي بيدي، نظرت حولي، أنا في غرفتي وعلى سريري وهذه شقيقتي ترقد على سريرها بالقرب مني، نعم هذا بيتنا، نعم الحمدلله أنني أصبحت في بيتنا، وهذه حقائبي فارغة ومرتبة بمكانها، وهذه أنا بانتظار أن أكون.

 

مرام النابلسي