اللغة حياة

اللغة حياة
        

من أخطاء الساسة والإعلاميين
قرينة البراءة

          درج بعض الإعلاميين والساسة على استخدام مصطلح جديد هو «قرينة البراءة». وقد ابتكروا هذا المصطلح في ترجمتهم للجملة الأخيرة، من الفقرة 12، من التقرير الأخير الصادر عن المحقّق «ديتليف ميليس»، الرئيس السابق للجنة الدولية التي كلّفت التحقيق في جريمة قتل رئيس الوزراء اللبناني الراحل رفيق الحريري. كما استعملوه في تأويل الفقرة 322 من ذلك التقرير التي تشير إلى أن المتهمين بقتل الرئيس الحريري «أبرياء حتى تثبت إدانتهم في محاكمة عادلة». وقد عنى أصحاب ذلك المصطلح أن المتهمين يفيدون من كون الشروط الشكلية والأساسية لصدور الحكم بإدانتهم لم تُستوف، فقال بعضهم، مثلا: «يحتفظ المتهمون بقرينة البراءة».

          وتلك العبارة وأمثالها تخدش سليقة الفصحاء، وتجعل اللغويين في شك من كون هذا اللفظ مصطلحًا فقهيًا أو قانونيًا، على الرغم من انسياق النائبة العامة للجمهورية في سورية إلى استعمال عبارة «مبدأ قرينة البراءة»؛ ولعلها استخدمتها تأثرًا بالإعلام، لا بالمصطلح القانوني الدقيق. وسبب شكّنا في ذلك أن هذا الاستعمال مجاف للغة، فالقرينة، في العربية، من القران الذي هو الجمع بين الشيئين، وهي تعني، عامة، ما يلازم الشيء فيساعد في كشف حقيقته، فكنية «أبي عبدالله» مثلا، قرينة على أن لصاحبها ولدًا اسمه عبدالله، وليست دليلا على ذلك، لأنّ من المحتمل أن تكون قد أطلقت لمجرد التفاؤل أوالتحبّب أو غير ذلك من العادات اللغوية الاجتماعية.

          وتعني القرينة في علم اللغة، خاصة، كل ما يصاحب الوحدة اللغوية من ألفاظ تساعد في تقدير ما خفي منها أو احتاج إلى تأويل أو تسويغ، كقول الشاعر: «تَذْكُرُ العهدَ وتمحو»، حيث مفعول «تمحو» محذوف للقرينة؛ فالأصل في المفعول أن يكون مذكورًا، لكن سُمح بحذفه، في هذه الجملة، استثناء، لوجود اسم آخر ظاهر هو «العهد» يسمح بمعرفة المحذوف أو تقديره، ولأن المحو مما يقع على العهد (المحذوف)، مع احتمال أن يقع على غيره؛ وفي قريب من ذلك قال عثمان بن جنّي في كتاب «الخصائص»: «من ذلك امتناعهم من تقديم الفاعل في نحو: ضرب غلامُه زيدًا، فهذا لم يمتنع من حيث كان الفاعل ليس رتبته التقديم، وإنما امتنع لقرينة انضمت إليه، وهي إضافة الفاعل إلى ضمير المفعول، وفساد تقدّم المضمر على مظهره لفظًا ومعنى»؛ وتبدو القرينة في كلام ابن جني بمعنى السبب المقترن بأسباب أخرى أو الملحق بها والمؤدّي، هنا، إلى ضرورة مخالفة الأصل، وهو تقدّم الفاعل على المفعول.

          ويعني المصطلح في الفقه كلّ علامة ظاهرة تقارن شيئًا خفيًا فتدل عليه دلالة غير قطعيّة، في الغالب، أي أن يوجد أمر ظاهر يمكن التعويل عليه ويكون على صلة بأمر خفيّ يراد كشفه؛ ويعني في القانون، عمومًا، ما يحيط بالحادثة أو الحالة من ظروف ومعطيات واضحة تسهم في كشف حقيقتها، مشكلة بداية دليل أو مدخلاً إلى الدليل، وقلّما تكون دليلاً تامًا؛ كأن تقع جريمة قتل بجوار بيت أحدهم ويجد المحققون في باحة البيت نفسه مسدسا ساخنا، فهذه قرينة على أن أحدًا في البيت قد ارتكب الجريمة، لكنها ليست دليلاً كافيًا، لاحتمال أن يكون المسدس قد استعمل في أمر آخر، أو أن يكون المجرم قد ألقى المسدس في الباحة تمويهًا، أو ما أشبه ذلك. أما إذا رئي أحدهم دهشًا ملطخًا بالدم، وبيده سكين، وبجواره قتيل يسيل منه الدم، فإنّ القرينة تكون قطعيّة بأنه هو القاتل، وتبقى هذه قرينة، مع ذلك، حتى يظهر شهود على الجريمة أو دليل مؤكد على ارتكاب حامل السكين لها، وكم من إنسان حكم عليه بمقتضى قرينة قطعيّة، ثم ظهرت براءته في وقت لاحق.

          وعلى ذلك يكون معنى «قرينة البراءة» هو العلامة الظاهرة المتصلة بأمر خفيّ هو البراءة، فهي تساعد في كشفها. والواقع أن هذا يكاد يكون بلا معنى، أو مخالفًا للمقصود على الأقل؛ إذ إنّ المصطلح ترجمة عن الفرنسية لـ Présomption d'innocence أو عن الإنجليزية Presumption of innocence، وكلمة (Présomption (Presumption لا تعني القرينة، كما يزعم بعض المعاجم، بل هي تعني الظن المبني على العلامات الظاهرية؛ على حين أن معنى القرينة هو العلامة نفسها. فالمصطلح الأجنبي هذا يدل على شبه ما يعنيه مصطلح التقدير في النحو العربي، أو ما شبه ما يعنيه مصطلح الافتراض في الرياضيات وسائر العلوم. أما  في القانون فهو يدل على استنباط واقع غير معروف، من  وقائع أخرى معروفة، في غياب أي دليل ثابت ينفي ذلك الواقع. فالعلاقة بين الظن أو الاستنباط وبين القرينة، كالعلاقة بين الفكرة والأداة، والأقرب إلى معنى Présomption d'innocence هو «تقدير البراءة» أو «افتراض البراءة». والعبارة الثانية هي ما استخدمه النص العربي الرسمي لتقرير ميليس الصادر عن الأمم المتحدة، في فقرته الحادية والعشرين ويقول: «ولذلك يظلّ افتراض البراءة قائمًا».

          قد يقال: لكن يمكن ترجمة عبارة Présomption de Paternité، (Presumption   of Paternity) مثلاً، بقرينة الأبوة؛ وهي تعني أن الطفل الذي تحمل به أمه أثناء الزواج يرجح أن يكون ابن زوجها؛ بمعنى أن قرينة الأبوّة هي الزواج والمساكنة، ولو لم يقدّم على ذلك دليل. لكن هذا يكون ترجمة على سبيل الاتساع، ويكون سبب استعمال مصطلح القرينة، هنا، هو أنه ليس من دليل قطعي يؤكد أبوة الزوج للطفل، وإن كان الطب، في أيامنا، قادرًا على تأكيد ذلك أو نفيه. أما الترجمة الدقيقة لتلك العبارة الأجنبية فهي «افتراض الأبوة».

          ومؤدّى ذلك المصطلح المركبّ، أي «افتراض البراءة»، وما اتصّل به في تقرير ميليس، أن الأصل في الأشياء براءة الإنسان، وأن الشك في مصلحة المتهم، وأنه لاإدانة بغير أدلة كافية، وسوى ذلك مما يضمن العدل، وإلا أخذ بالأصل، وهو براءة المتهم. لكن يبدو أن بعض الساسة والصحفيين يقرأون النصوص الأجنبية دون غيرها، أحيانًا، ثم يتبرّعون بترجمة لا يحالفهم الحظ دائمًا في أن تأتي صحيحة، مع أنهم قادرون على استعمال الترجمة التي أنجزها أهل الاختصاص، والاقتصاد في الجهد، وتجنيب القارئ أو السامع الخطأ؛ هذا، وربّما ترجم أحدهم النص، ثم وقع بعد مدة على ترجمة الاختصاصيين له، فلم يهن عليه، مع ذلك، أن يترك ترجمته المغلوطة، فيصرّ عليها ويستمرّ. فعسى أن يتمهّل رجال الإعلام في إطلاق المصطلحات، وأن يستعرب بعض الساسة، فيعرفوا لغة الضاد بمقدار معرفتهم للغات اللاتينية والإنجلوسكسونيّة، على الأقلّ.

 

مصطفى علي الجوزو