جمال العربية

   جمال العربية
        

عبدالحميد الديب..
شاعر كبير وحياة بائسة!

          في عام 1898 وُلد الشاعر عبدالحميد الديب بقرية كمشيش في محافظة المنوفية بمصر، وكان رحيله بالقاهرة عام 1943، المدينة التي قصدها وهو في الثانية عشرة من العمر، ليلتحق بالأزهر الشريف، حيث حصل على شهادته الثانوية، والتحق بمدرسة دار العلوم العليا. لكنه لم يُتم تعليمه، مؤثرًا حياة الفن والصعلكة، بعيدًا عن الدراسة وعلومها التي لم يُسغها، وكانت هذه الصعلكة طريق شقائه المستمر ومعاناته طيلة حياته حتى يومه الأخير.

          وعبدالحميد الديب شاعر ينتمي - بأسلوبه في الحياة، وتمرّده على قيم المجتمع، وضيقه بالناس - إلى الشعراء الصعاليك في تراثنا العربي القديم: عروة بن الورد والشنفرى وتأبّط شرًا والسليك بن السلكة وغيرهم، الذين يمثلون عالمًا شعريًا مختلفًا عن عالم شعراء المعلقات. سعيهم الدائب من أجل الحرية، التي لا تخضع لسيطرة قبيلة أو سلطان عظيم من الناس، وفي شعرهم تصوير بارع لتمرّدهم ومواجهتهم الدائمة لما يحيط بهم من أخطار، وقطع طرق القوافل، ونهب ما يعتبرونه حقًا لهم، ولابدّ من توزيع الحقوق على أصحابها المحتاجين الذين ينتظرون نتيجة صعلكتهم ومغامراتهم. لكنهم في أعماقهم مزهوُّون بما يصنعون، فخورون بنزعتهم الإنسانية وأعمالهم البطولية، وبأنهم يواجهون الموت في كل موقف وكل لحظة، ويخرجون من مواجهته منتصرين ظافرين.

          ولم يكن عبدالحميد الديب بعيدًا عن الروح الإنسانية والشعرية العارمة لهؤلاء الصعاليك، وفي شعره ما يؤكد هذا الزهو بالذات - بالرغم مما يعانيه من حُرفةٍ وإملاق وضائقه وإدانته للأمة التي تجهل منزلته وحقيقة قدره. يقول:

يا أمة جهلتني وهي عالمةٌ أنّ الكواكب من نوري وإشراقي
أعيش فيكم بلا أهلٍ ولا وطن كعيش منتجع المعروف أفَّاقِ
وليس لي من حبيبٍ في ربوعكمو إلا الحبيبين: أقلامي وأوراقي
ريشت لحظّي سهام من نميمتكم فصارعتني ومالي دونها واقِ
لم أدْرِ ماذا طعمتم في موائدكم لحم الذبيحة أم لحمي وأخلاقي


          في هذا الأفق الشعري حلّق عبدالحميد الديب، مرتفعًا عن كلّ من حوله بتمرّده وعناده وثوريته، وأحيانًا بهجائه المقذع، وأبياته العارية، التي أتيح لها انتشار واسع وذيوع صيت، وقد حفظها كثير من رواة شعره، ونشروها في حياته وبعد رحيله، وعدّها الناس جوهر شعر الديب وشهادة إبداعه الشعري. هذا الأفق ضمن للديب الشاعر تفرّده، واتساع إهاب شعره الكلاسيكي الصياغة لروح شعرية عصرية عارمة، شديدة الحرارة والتوهج، جعلت لهذا الشعر حضورًا فنيًا وتشكيليًا مخالفًا للسائد والمعهود. يقول الديب:

شكوت، وما شكواي ضعفٌ وذلةٌ فلستُ بمستجدٍ ولا طالبًا يدا
ولكنني أفحمتُ ظُلمًا بمنطقٍ من الدهر، لم تبلغ غباوته مدى
دمي دم أكفاء الحياة ونظرتي بها للمحيط الضخم لا الطلّ والندى


          ويرى - في نفسه وفي شعره - عونًا للهيف وغوْثًا ونصرة للمحتاج. وهذا دليل على روح الصعلكة بمعناها الحقيقي، وفي جوهرها الفردوسي النبيل، عندما يقول:

أأسجنُ من عون اللهيف وغوْثه ونُصْرتي المظلومَ سجْنًا مؤبّدا
أيُبئسني قومي، لأني شاعرٌ أهلهل في الآلامِ شعرًا مُخلّدا
وشِدْتُ كما شاد النبيّون شِرْعَةً تنزّلَ فيها الوحي شعرًا مُردّدا
وقلت، وقال الناس، لم يُبْقِ قولُهم بيانًا ولا سحرًا، فأربيْتُ مُنشدا


          وصولا إلى ذروة موقفه الوجودي والشعري في قوله:

يمينًا لئن لم يؤمنوا بقضيّتي لأُمضي إليهم سهْمَ ظُلمي مُسدّدا
سأرقبُ عدلاً من قُضاتي، فإن أَبْوا أَبتْ قَوّتي في الهجر أن تتقيّدا


          وهي أبيات تذكّرنا بنفَس المتنبي - شاعر العربية الكبير - وعنفوان شاعريته في قمة زهوه واعتداده بنفسه، ووعيه بقدرته الإبداعية المغايرة لكل ما عداه، ولكل شعراء زمانه حين قال من البحر الشعري نفسه والقافية نفسها، أبياته التي تابعه فيها الديب - وهو لا يدري - وكان المتنبي يخاطب فيها سيف الدولة والزمان الشعريّ كلّه:

أجزْني إذا أُنْشدت شعرا، فإنما بشعري أتاك المادحون مُردّدا
ودع كلّ قولٍ غير قولي فإنني أنا الطائر المحكيُّ والآخرُ الصدى
وما الدهر إلا من رُواة قصائدي إذا قلت شعرا أصبح الدهر مُنشدا


          بل إنه يذكّرنا بمن هو أقدم من المتنبي وأسبق.

          يذكّرنا بالمهلهل الشاعر الجاهلي، الذي قيل إنه سُمّي بهذا الاسم لأنه أول من هلهل القصيد، أي أول من أحكمه وجعل له بِنْية ونظامًا. ألم يقل الديب:

أيُبئسني قومي، لأني شاعر أُهلهلُ في الآلام شعرا مُخلّدا


          هذه الهلهلة التي يشير إليها عبدالحميد الديب، هي الإفصاح الجهير عن شعوره بالتفوق والريادة. وهذا الإفصاح الذي داخلته المبالغات وتضخّم الذات هو ردّ الفعل الحاد لشعوره الداخلي - بينه وبين نفسه - بأنه الأزهري الذي لم يكمل تعليمه، والأديب الذي لم يُتح له وضع اجتماعي يفرض احترامه على الناس، كغيره ممن هم دونه قدرًا وموهبة، لكنه يراهم - ويعاني من هذه الرؤية - وقد أتيحت لهم المناصب وتحقيق المآرب وتسنّم درجات الرقيّ الاجتماعي والمادي، من حيث الحيثية والأهلية، بينما قعدت به ظروفه عن نيل بعض ما نالوه ومواجهة العوز بسلاح الدخل الثابت الآمن، والمستقبل بيقين المطمئن الهانئ البال.

          يصوّر الديب في واحدة من قصائده الموجِعة، البديعة التصوير والتعبير، حاله قائلاً:

مُستضعفٌ يُحْنَى عليَّ، كأنني يُتْمٌ يُدلّلُ في جحودِ سِماحِ
يا محنةً أكل الشقاء شبيبتي فيها، ومزّقت الخطوبُ جناحي
ولبِسْتُ باليَها بعُرْسي مُكرَها وشربتُ آسنَها مُعتّقَ راحِ
في أسرةٍ ترجو المعيشة قُنّعًا بالخبز مؤتدمًا بماءٍ قراحِ
ولها سوى حرب الشعوب حروبُها والدهر، عزلاء بغير سلاحِ
جرحان في كبدي لفرط صبابتي ولشقوتي والناسُ جِدٌّ شِحاحِ
ولو أنّهم جرْحى خطوب زمانهم من ذا يقيس جراحُهم بجراحي؟
لا تحسبوا بُخلي بدمعي صابرًا فيض الدموع بمقلة التمساحِ
أنبتُّ في الأخلاقِ صدْقَ محمدٍ وجنيْتُ كِذب مُسيلمٍ وسَجاحِ
أشكو إلى الأخلاق غِرًّا والغًا في الإفك رغْم هداية النُّصّاحِ
كم ذا أقلْتُ عِثارهُ ورحمْتُه فارتدّ يهجو نعمتي ويُلاحي
نبغ النبوغ اللّغْو في تهريجه ومن الطعامِ مُهرّج الأفراحِ
تخذوه تسلية النديِّ وحسْبُه هزْءُ الضّحوكِ ونُكتةُ الفضّاحِ
من معشرٍ أكلوا «الجراية» قُنّعًا بالخبز مؤتدمًا بماءِ قراحِ
ظفروا على الأحداثِ جُندَ موفّقٍ للمال أو خدمًا لدى مِسْماحِ
إن كان هذا الفُحْشُ خفّةَ رُوحِهِ فمن الحماقة خفّةُ الأرواحِ
ما كان ضرّك لو رعيْتَ كرامتي ورحمْتَ تبريحي وطول نُواحي؟
وأنا الذي لبِس النجوم قلائدًا وزكا غُدوّي في العُلا ورواحي
وطلعْتُ في محْل الخلائق واكفًا ومحا ظلام المعتفين صباحي
أيُباحُ عرْضي في سفاهك بينما عِرْضُ الأذل الغرّ غيرُ مُباحِ؟
وأشدُّ ما ألقاهُ يوم رزيتي أن أجعل الهجوَ الوجيع سلاحي
من قبل يوم البعْثِ لؤمُك باعثٌ في كلّ يومٍ حامل المصباحِ
نحن الملائك والملوكُ، وحسْبُنا بالشعر تزكيةً ونيْلَ وِشاحِ
يا محْنةَ الأدب الرفيع بمعشرٍ جعلوا السفاهة آيةَ الإفصاحِ
لا يصدعُ الزبدُ الجفاءُ سفينةِ والبحرُ طوْعُ رغائِب الملاّح


          وفي قصيدته «قطر الندى» يطلعنا عبدالحميد الديب على واحدة من غنائياته العاطفية المرتبطة بأشجان ذاته وهمومها من ناحية، وأجواء الحرب العالمية الثانية التي أبدع الشاعر قصيدته وهو يعاني ما خلّفته من دمار وحطام وما أثارته في النفوس من فزعٍ واضطراب ويأس. والقصيدة - كما يقول ديوانه - نظمها الشاعر عام 1940 والحرب العالمية في عنفوانها. يقول الديب:

يا رحيق الورد يا قطر النّدى
كم سقى عطفك من قلبي الصّدى

***

أنت يا قطر الندى دُرٌّ مُذاب
أنت أحلى من رحيق أو رُضاب
يا صفاء الماس يا لطْفَ الحبَابْ
يا دموع البِشْر من خوْدٍ كعاب
يا رحيق الورد يا قطْرَ الندى
كم سقى عطفك من قلبي الصدى

***

غنّت الورقاء والشمسُ نؤوم
في صباحٍ قد هوتْ فيه النجوم
فإذا قلبي بحسنائي يهيم
بين عطر الورد أو قطرْ الندى
يا رحيق الورد يا قطر الندى
كم سقى عطفك من قلبي الصدى

***

أنت أغريْت حبيبي بالبكور
ليُحييك بأهدابِ الزهور
ويُندّي القلب من شدو الطيور
ويُلاقيني على شطّ الغدير
بين عطر الورد أو قطر الندى

***

لستُ بالطارق حانًا للصّبوح
أنا من لُقْياهُ نشوان مروح
كلّ خمري منه ألطافٌ وروح
وانجذاب وهيامٌ وطموح
وجنون بين وردٍ وندى
يا رحيق الورد يا قطر الندى
كم سقى عطفك من قلبي الصدى

***

فتح الأكمام إشراقُ الحبيب
حسْنُه يضفي على الوردة طيبْ
ويُساقي الغُصْنَ أعطاف الندى
يا رحيق الورد يا قطر النّدى
كم سقى عطفك من قلبي الصدى

***

حالت الحرب فما إن نلتقي
غير أطيافٍ بحلمٍ مُغلقِ
هو في المغرب في عيشٍِ شقي
وأنا أهفو له في المشرقِ
وكلانا ذاكرٌ عهد الندى

***

يا له عهدًا على طول الزمنْ
قد طويناه كأحلام الوسنْ
بين ليلٍ سرُّنا فيه كَمنْ
وصباحٍ كلُّ ما فيه حَسنْ
رقْت النسمةُ فيه والندى
يا رحيق الورد يا قطْرَ الندى
كم سقى عطفك من قلبي الصدى

          وتحت عنوان «ثورة بائس» يطالعنا ديوان الشاعر بهذه الصرخة العاتية، أطلقها حين رفض أحد رؤساء الوزارة في مصر - عام 1939 - أن يُقلّد شاعر البؤس عملاً بحجّة أنه ماجن عربيد لا يفيق من الشراب. فكانت هذه القصيدة التي تنضح ألمًا وتفيض مرارة:

أيُعفيك من دمعي نفورُك من ذنبي؟ دع الذنب يُحصيه ويغفرهُ ربي
شربت بكأسٍ أنت منشئُ كرْمها كلانا بها طبٌّ علي السلْم والحرْبِ
تلوم لتُقصي الخير عنّي، وترتدي غلالة ذي نُسْكٍِ تعبّد في خطبْي
أتصبحُ قدّيسًا لتفسق بالندى وتهبط بالأخلاق من شُرف القلب؟
إذا كان قطع العيش عني هدايةً ضمْمنا إلى الأخلاق مكرمة الكِذْب
أيخذلني من لو يشاءُ أغاثني ويُبدلني أمْنًا من الخوفِ والرُّعبِ
وفكّ إساري حِسْبةً لقصائدي وإطلاق ورقائي من المحْلِ والجدْبِ
أقلْني من حبسي على الدمع والأسى وخُذني مدى عمري حبيسًا على الكتْب
طعنْت سلوكي طعنةً لو ببعضها أصيبت سماءُ الله قُدّْت من الشّهْب
دعوني وخمري إن كأسي قيامةٌ من الموتِ، في بأساء عيشي أو كرْبي
تحيّرْتُ في مصرٍ، فمرجع خيرها إلى ثعلب يعدو على الناس أو ذئب
إذا ما كشفْنا كنْزها آض تبْرهُ لمن لم يكن منه على مركبٍ صعْب
لكلّ خمولٍ أو جهولٍ، وتنتهي إلى يدنا منه الفجائعُ بالنّدْبِ
أعوذ بآلاء الكنانة، إنها غدت هملاً كالعيسِ تعطو إلى شُرْبِ


          ويذكرنا البيت الأول في مقطعه الأخير ببيت المتنبي في كافوريته الشهيرة التي يهجو فيها كافورًا ويقول:

نامت نواطير مصرٍ عن ثعالبها فما بشمْن وما تفنى العناقيد!


          ثم يقول الديب، مواصلاً صياغته المحكمة، وروحه الهجائية الساخرة والمريرة في آن - وكأنها روح شاعر النيل حافظ إبراهيم في اجتماعياته ونفثاته الانتقادية، وبين الشاعرين بؤس مشترك، وغضب عارم على الحياة والناس، وشكوى الحظّ العاثر والوضع المتردي والإحباط المستمر - يقول الديب:

أيُجمع قومي أن شعريَ مُلهمٌ وأغدو عيالاً في طعاميَ أو شربي
فيا ذُلّها تلك المواهب، إنها أضاعت إبائي بين أهليَ أو صحْبي
أتغفل تقديري لشعري، وتنبري لتصديق واشٍ جاء يأفك بالذنب
إذا قلت: مظلوم، تقولون: ظالمٌ ويصبحُ مرًا في مذاقكمو عذْبي
فإني كالحسناءِ في بكر حُسْنها تعافُ، فلا تُرجى بعرسٍ ولا حُبّ
وكالكنز مرصودًا، فليس بنائلٍ به كاشف يومًا سوى صرخة الرعب


          وفي ختام القصيدة، نداء غاضب إلى رئيس الوزراء - الذي رفض إعطاءه وظيفةً أو عملاً يعيش منه - يقول فيه:

أقلْنيَ من ذا اللوم حتى تُقيلني من البؤس، واتركني لما شاء لي ربّي!


 

فاروق شوشة