أحداث مصيرية على ضفتي قناة السويس أمين هويدي

أحداث مصيرية على ضفتي قناة السويس

منذ أربعين عاما وقف جمال عبدالناصر في ميدان المنشية بالإسكندرية يخاطب الجماهير قائلا يذكرني يوجين بلاك بالطريقة التي وقع بها الخديو سعيد عقد حفر القناة وكيف ضغط ديلسبس على الخديو ولكنني لست الخديو ومن المستحيل أن أخضع لأي شروط وقد وقعت مرسوما بصفتي رئيسا للجمهورية بتأميم شركة قناة السويس العالمية ونقل كل ممتلكاتها والتزاماتها للدولة. كان عبدالناصر قد نطق بكلمة السر "ديليسبس" وكررها بعد ذلك إحدى عشرة مرة حتى يتأكد من أنها وصلت إلى جماعة العمل المكلفة تنفيذ عملية التأميم التي انطلقت من فورها للاستيلاء على مباني الشركة في الإسماعيلية والسويس وبورسعيد والقاهرة وتتولى إدارة القناة بعد أن تم تمصيرها.

وقناة السويس تشكل مع سيناء كتلة استراتيجية واحدة، واهتمام مصر بما يجري على حدودها الشرقية كان قائما حتى من أيام المصريين القدماء فأي دولة معادية في هذا الاتجاه تهدد الأمن القومي المصري تهديدا مباشرا، ومنذ القدم شكلت سيناء معبرا إلى مصر يسير فيه الأنبياء والغزاة، فقد سار عليه يوسف وموسى وعيسى، كما سار عليه الهكسوس وغيرهم، وحارب قدماء المصريين على أرض فلسطين وانتصروا في معارك خالدة مثل قادش ومجيدو كما خرجت الجيوش المصرية عبر الحدود الشرقية لمواجهة المغول والانتصار عليهم كما توجهت جيوش صلاح الدين لمواجهة الصليبيين هناك في بيت المقدس وعكا. يعني المحور الاستراتيجي الشرقي هو المحور الرئيسي الذي يحقق الأمن القومي المصري حتى قبل حفر قناة السويس التي كان محمد علي باشا يعارض في حفرها قائلا "في اليوم الذي سيتم فيه حفر هذه القناة ستفقد مصر استقلالها".

وتشكل سيناء قلب الدفاع عن مصر وبالتالي فالدفاع عن القناة لا يستقيم إلا بالدفاع عن سيناء لأن سيناء هي التي تدافع عن القناة ومصر وليس العكس، ولذلك فإن سلامة مصر لا تتحقق أبدا إلا بقوة مركزها على حدودها الشرقية بل بعدم وجود قوى معادية شرق هذه الحدود ولذلك فإن اشتراك مصر بقواتها المسلحة في الصراع العربي الإسرائيلي ليس بدافع قومي فحسب ولكن بدافع ذاتي أيضا وهذا يوحد بين الأغراض العربية والأغراض المصرية على أرض فلسطين مما يجعل معركة فلسطين معركة عربية ومعركة مصرية جنبا إلى جنب مع اعتبارها معركة فلسطينية، ولذلك فليس من الخطأ ما يتردد من أن صلب الصراع العربي الإسرائيلي هو القضية الفلسطينية سواء على المستوى القومي أو المستوى المصري. وفي نفس الوقت فإن قناة السويس تشكل حلقة لربط الأمن القومي المصري بالأمن القومي العربي فهي ثالث المضايق التي تمر منها الملاحة من الخليج العربي من الشرق إلى البحر المتوسط في الشمال وهو ما نسميه ب"ترويكا المضايق" : مضيق "هرمز" عبر مياه الخليج. ثم مضيق باب المندب أو باب الدموع كما كان يسميه القراصنة القدامى عبر بحر العرب ثم مضيق قناة السويس عبر البحر الأحمر، ولذلك فنحن أمام كتلة استراتيجية واحدة يحدها شرقا الخليج العربي وغربا البحر الأحمر وربما نهر النيل ومنابعه وروافده ثم البحر المتوسط في الشمال فإذا كانت منابع النفط الغنية تقع في الشرق فإن خطوط مواصلاتها تقع عبر بحر العرب ثم البحر الأحمر في الغرب ومنطقة خطوط المواصلات ذات أهمية بالغة بالنسبة للمنابع، إذ يمكن قطعها من هناك وبسهولة، خاصة بعد أن امتد أنبوب "البترولاين" السعودي لينقل البترول من الشرق إلى "ينبع" على البحر الأحمر في الغرب تفاديا لمضيق هرمز، وبعد أن التحم خطا أنابيب الإيبسا IPSA والإيبسا العراقيان في أنبوب التابلاين لنقل بترول الحقول العراقية الجنوبية إلى البحر الأحمر في ميناء "المعجن" الذي يقع جنوب ميناء ينبع بخمسين ميلا. ثم نقل البترول اليمني من منبع "شبوة" إلى ميناء "بير علي" على بحر العرب ومن منبع مأرب إلى "رأس عيسى" في البحر الأحمر. كل هذه الأنابيب تمر في النهاية عبر مضيق قناة السويس إلى البحر المتوسط أو عبر ميناء عين السخنة على البحر الأحمر إلى سيدي كرير على البحر المتوسط عبر أنبوب برأس مال عربي ينتهي إلى معامل التكرير المصرية في سيدي كرير على البحر المتوسط وإلى معامل التكرير ملك شركة ميدورMidor برأسمال مصري إسرائيلي في نفس المكان والذي سيبدأ العمل به خلال سنتين إذ تم توقيع عقده خلال يوليو الماضي. إذن نحن أمام منطقة مترابطة تماما من ناحية الأمن القومي تحتم علينا أن نطبقه عربيا وليس قطريا وأن العمود الفقري لهذه المنطقة الحيوية هو قناة السويس وعلى ذلك فهي مستهدفة على الدوام، وقع وستقع على ضفافها أحداث مصيرية بعضها معروف والبعض الآخر مازالت تحوطه السرية ومحفوظا تحت القفل والمفتاح.

خديعة عرابي

حينما قامت الثورة العرابية بقيادة أحمد عرابي ضد الخديو توفيق استعان الخديو بالإنجليز لحماية عرشه وفعلا نزلت القوات البريطانية بحرا بعد ضرب ميناء الإسكندرية وتقدمت جنوبا في اتجاه القاهرة غير أن أحمد عرابي جمع قواته تسانده جموع الشعب في كفر الدوار للتصدي لقوات الغزو والتي كانت تتفوق عليه عددا وعدة فانتصرت عليه وهنا وصل إلى علمه أن القوات المعتدية سوف تقوم بعملية إنزال في بورسعيد والتحرك في قناة السويس ومن ثم تتجه شرقا إلى القاهرة فأعاد عرابي انتشار قواته في التل الكبير وقرر سد القناة بإغراق سفن فيها لمنع تقدم القوات الإنجليزية بقيادة الجنرال ويلسلي. وهنا اتصل ديليسبس بأحمد عرابي وأكد له كتابة أن فرنسا تضمن له عدم قيام القوات الإنجليزية باستخدام قناة السويس في غزوها لمصر وصدق عرابي ما وعده به ديليسبس فعدل عن سد القناة وكانت المفاجأة الكبرى أن الرجل حنث بوعده كما هو معروف. صحيح لم يكن عرابي ولا قواته في حالة تسمح له بالانتصار على القوات البريطانية حتى ولو لم تستخدم القناة إلا أن ما حدث يدل دلالة قاطعة على أن المطامع دائما ما تتغلب على الوعود وأن القوة تعلو على الحق. وعلينا أن نضع ما حدث في اعتبارنا ونحن نقوم ما فعله عبدالناصر بعد ذلك لمواجهة عدوان 1956 وحرب 1967 حينما أمر بإغلاق القناة ومنع الملاحة فيها بإغراق السفن المملوءة بالخرسانة في قاعها ومنع الملاحة فيها إذ لم ينس الخديعة التي وقع فيها أحمد عرابي عام 1882.

حرب منسية

من ضمن المخلفات التي ورثتها الثورة معضلات ثلاث في المحور الاستراتيجي الشرقي وهي وجود إسرائيل بعد حرب 1948 وهدنة 1949، ووجود القاعدة البريطانية في القناة بعد انسحاب القوات المحتلة من داخل البلاد لتتمركز في قاعدة قناة السويس من بور سعيد شمالا حتى السويس جنوبا ثم شركة قناة السويس الفرنسية التي كانت تسيطر على القناة تماما ولا تعطي إلا 5% من دخلها للحكومة المصرية.

قامت حكومة الوفد قبل قيام الثورة بإلغاء معاهدة 1936 في أكتوبر 1951 وخاض الفدائيون معارك مجيدة في القناة مما دفع القوات البريطانية بالقاعدة إلى تعزيز قواتها بقوات نقلتها من بريطانيا و ليبيا كما عززت قواتها الجوية في مطارات القناة وعينت حكاما عسكريين في بورسعيد والإسماعيلية والسويس وقيدت الدخول إلى منطقة القناة ومنع التجوال ليلا إلا للأطباء ورجال الإسعاف والنيابة والقضاء والشرطة. ورأى رجال الثورة بعد يوليو 1952 بدء المفاوضات مع البريطانيين لإجلائهم عن القناة، تلك المفاوضات التي استمرت دون جدوى منذ عام 1882. ولكن قبل بداية المفاوضات ركزت مصر على تعزيز كتائب الفدائيين الذين كانوا يعملون فعلا قبل قيام الثورة وقسمت منطقة القناة لنشاط الفدائيين إلى قطاعات خمسة: القطاع الأول بورسعيد والقطاع الثاني الإسماعيلية والقطاع الثالث فايد والقطاع الرابع في التل الكبير والقصاصين ورئاسته في الزقازيق أما القطاع الخامس فكان في السويس. وتركزت أعمال الفدائيين أثناء المراحل الأولى من المفاوضات على الحصول على المعلومات وتكديس الأسلحة والذخائر واستغلال حالة التذمر في الوحدات الأجنبية من الموريشيان والكينيين وحثهم على العصيان والإضراب مع تجميع جماعات الفدائيين على طول الجبهة وشكلت وحدات الحرس الوطني لحماية ظهر الفدائيين وبدأت المفاوضات في 23/4/1953 وما لبثت أن قطعت في 6/5/1953 وشنت مصر حرب الفدائيين وهي حرب منسية ولكنها كانت حربا بكل ما تحمله الكلمة من معنى، إذ كانت حربا على محاور ثلاثة: الحرب النفسية لشل إرادة الخصم بتوزيع المنشورات والقبض على الجواسيس ونشر الشائعات بل أنشئت محطة إذاعة سرية تذيع على الجنود في القاعدة في وقت فراغهم، ثم الحصار الاقتصادي فأصدرت وزارة التموين قرارا بحظر التعامل مع القوات البريطانية وعدم إمدادها بأي مواد غذائية واعتبر التعامل مع البريطانيين خيانة عظمى، وكان القرار يعني حرب التجويع ضد قوات الاحتلال مما أجبرهم على استيراد احتياجات قواتهم البالغ عددها. 80 ألف جندي من الخارج مما ألقى أعباء ثقيلة على الخزينة البريطانية ومنع العمال من العمل في القاعدة مع استمرار هجمات الفدائيين ليلا ونهارا، وفي يوم 23/6/1954 توقفت الحياة في جميع معسكرات الجيش الإنجليزي وفي يوم 25/6/1954 انتقلت القيادة البريطانية من منطقة القناة إلى قبرص وكان من جراء هذا الضغط توقيع اتفاقية الجلاء في 27/7/1954 نصت على الجلاء خلال 20 شهرا مع بقاء أجزاء من القاعدة في المنطقة، وهذا ما عبر عنه عبدالناصر بوجود مسمار جحا وعلينا خلعه في المستقبل القريب. وقد تم الجلاء في المواعيد المحددة، وكان آخر معقل يغادرونه هو مبنى البحرية في بورسعيد الذي تسلمه الجيش المصري في 13/6/1956، وفي يوم 18/6/1956 رفع عبدالناصر العلم المصري على المبنى وأصبح هذا اليوم عيدا قوميا.

وسط كل هذه الأعمال كانت القيادة المصرية تحسب حسابا كبيرا لما يمكن أن يكون عليه رد فعل القوات البريطانية وهي في قاعدة قناة السويس فكان يمكن لهذه القوات قطع التموين والإمداد عن قواتنا الموجودة في سيناء والمتمركزة أمام إسرائيل على الحدود الشرقية، وكان يمكنها أن تقطع إمداد البترول من معامل التكرير الذي تنقله أنابيب البترول إلى القاهرة والدلتا، وكان يمكن لهذه القوات إذا فقدت عقلها أن تتقدم لاحتلال القاهرة، ولذلك كانت العمليات الفدائية مسيطرا عليها تماما بحيث تكون عملياتها محسوبة، وفي يوم 18 فبراير 1953 حصلت المخابرات المصرية من مكاتب مركز قيادة الجنرال "فيستنج" قائد القوات البريطانية في القناة على وثيقة بها خطة اسمها الكودي "روديو" يمكن للقوات البريطانية بمقتضاها احتلال القاهرة والدلتا والإسكندرية وكانت الخطة موضوعة من قبل الثورة بعد عدم الاستقرار الذي ساد البلاد وأصبح احتمال تنفيذها قائما بعد سوء الأوضاع في القاعدة وبعد تعثر المفاوضات واشتداد العمليات الفدائية، ويبدو أن لندن كانت قد أرسلت إنذارا للقيادة البريطانية في القناة لتنفيذ الخطة في مدة إنذار ست ساعات، لأن منشورات عديدة كانت تطبع على قدم وساق لتوزيعها على الشعب لحضه على الثورة ضد جمال عبدالناصر حينما تنفذ الخطة روديو.

نذكر هذا كله لنوضح مقدار العواصف وحجم المؤامرات التي توجه إلى هذه المنطقة الحيوية وكيف واجهتها مصر بثبات وحكمة وشجاعة، الأمر الذي يجب أن نضعه دائما في الحسبان. فبقدر أهمية المنطقة يجب أن يكون حجم التهديد ومواجهته.

المصريون يخلون مواقعهم

كانت القيادة البريطانية في منطقة القناة تعجم عودة الثورة بين وقت وآخر فتقوم ببعض التحركات في اتجاه القاهرة، وكنا نقابل ذلك بتحركات مضادة "كلعبة الشطرنج" وطلب في ذلك الوقت من قسم الخطط بالعمليات الحربية في رئاسة الجيش - وكنت أتشرف برئاسته - عمل تقدير موقف من الناحية العسكرية إذا بدأت المفاوضات مع الجانب البريطاني وانتهينا من تقديرنا للموقف إلى الآتي:
- يواجه الجيش المصري عدوين في وقت واحد : بريطانيا في منطقة قناة السويس وإسرائيل على حدودنا الشرقية.

- لن يكتب النجاح للمفاوضات المقبلة مع بريطانيا إلا بالضغط العسكري من جانبنا على أن يعطى الثقل الأكبر لاستخدام الأعمال الفدائية.

- لا يمكن لمصر أن تخوض معركة عسكرية - دفاعية أو هجومية - ضد إسرائيل مادامت القوات البريطانية في منطقة القناة تهدد خطوط مواصلاتنا نحو الشرق.

- العدو الرئيسي في الوقت الحالي هو القوات البريطانية في قاعدة القناة والعدو الفرعي هو القوات الإسرائيلية على حدودنا الشرقية.

- بناء على ذلك لا بد من إخلاء سيناء من قواتنا العسكرية حتى لا تكون عامل ضغط علينا عند بدء العمليات الفدائية إذ يمكن للقوات البريطانية منع الإمدادات والذخائر بقطع كوبري الفردان على قناة السويس أو من أي أماكن أخرى عبر القناة متخذة من ذلك ورقة ضغط علينا في الأيام المقبلة. كان الرأي الذي انتهينا إليه خطيرا للغاية، فعقد مؤتمر في رئاسة هيئة أركان الحرب حضره كل من: الرئيس جمال عبدالناصر وكان وقتئذ قائد الثورة الحقيقي برتبة مقدم ومديرا لمكتب اللواء محمد نجيب رئيس الجمهورية، عبدالحكيم عامر قائد الجيش، ورئيس هيئة أركان حرب الجيش، ومدير العمليات الحربية، وأنا الرائد أركان حرب أمين هويدي مدير قسم الخطط. ووفق في المؤتمر على سحب قواتنا في سيناء إلى غرب القناة مع ترك وحدات رمزية في بعض المناطق الحساسة بغرض إثبات سيادة مصر، على أن تعمل خطة الإخلاء في سرية كاملة ولا يبدأ في تنفيذها إلا بعد إعطاء التعليمات بذلك. وقبيل بدء المفاوضات أعطيت إشارة البدء لإخلاء سيناء، وكانت الخطط قد تمت والتعليمات قد جهزت، وكان علينا سحب القوات في أقصر وقت ممكن ومفاجأة القوات البريطانية في القناة حتى لا تتمكن من التدخل وكانت العقبة الكأداء هي توفير وسائل النقل الكافية لنقل المعدات الثقيلة والتي لا يمكن تحريكها إلا بالقطارات غير أن الإجراءات الدقيقة التي اتخذت مكنتنا من تنفيذ العملية بنجاح كامل.

- كان يسمح بعودة نصف الجنود فقط الذين يقومون بالإجازات ثانية إلى وحداتهم بسيناء ويبقى النصف الآخر في أماكنه الجديدة والتي خصصت له غرب القناة.

- بدئ في تخفيف المعدات في ليال متتابعة بالقطارات التي كانت تخترق القاعدة البريطانية في القناة واتخذت ترتيبات هائلة للتمويه والخداع.

- كان يحجز من كل قطار يصل إلى العريش أو رفح عدد محدود من عربات السكك الحديدية وأحيانا القاطرات حتى توافرت العربات اللازمة واحتاج الأمر إلى حسابات دقيقة وإجراءات معقدة للتوفيق بين حجم الأحمال المراد نقلها وبين سعة وسائل النقل المتاحة.

- اتخذت الترتيبات لإرسال بعض الوحدات نهارا إلى سيناء لإظهار نيتنا في تعزيز قواتنا هناك ثم كان على هذه الوحدات أن تعود ليلا في القطارات ومعها أضعاف أضعاف القوات التي تقرر تخفيفها.

- استمر إرسال معدلات المواد التموينية دون نقصان حتى لا يشعر البريطانيون بنيتنا على إخلاء سيناء.

- منع تداول أي مكاتبات بخصوص هذا الموضوع.

وفي الوقت المحدد فوجئت القوات البريطانية بسيل لا ينقطع من قطارات السكك الحديدية تعبر كوبري الفردان في طريقها إلى الغرب وكان الوقت متأخرا أمامها لاتخاذ أي إجراء مضاد لو أرادت ذلك، وبذلك نزعنا من يد البريطانيين ورقة ضغط كانوا سيستغلونها للضغط علينا إن نحن استخدمنا ضدهم سلاح الحصار الاقتصادي كما حدث. وفي يوم 20 نوفمبر 1953 خطب عبدالناصر قائلا "أقرر أمامكم أننا نستعد لمعركة التحرير منذ أول يوم قامت فيه الثورة، وإننا نعرف أن الحرية لا تنال إلا بالكفاح والقتال. لقد قررنا التخلص من الإنجليز ولن يكون ذلك بالكلام أو الهتاف ولكن بحمل السلاح والقتال.

تواطؤ ثلاثي في سيفر

مرجعنا الأساسي في التحدث عن هذه المؤامرة الغربية هو كتابنا "حروب عبدالناصر" وعن لسان أحد شهودها وهو "موردخاي بار أون" وكان يعمل وقت المؤامرة في أكتوبر 1956 مساعدا عسكريا لرئيس الوزراء دافيد بن جوريون، وقد كتب شهاداته في ورقة بحث عنوانها "ديفيد بن جوريون وتواطؤ سيفر" قدمها إلى مؤتمر عقد في مركز أبحاث وودرو ويلسون بواشنطن حضره كثيرون ممن عاصروا حرب السويس 1956 بمن فيهم كاتب المقال، وقدمت ورقة بحث في المؤتمر بعنوان "ناصر وأزمة 1956" ونشرت أبحاث هذا المؤتمر في كتاب عنوانه (سويس 1956 - الأزمة ونتائجهاThe Crisis and it's Conse Quences Suez 1956. )

كان إعلان تأميم قناة السويس بواسطة عبدالناصر في 26/7/1956 حلقة من معركة أعمال خطيرة قام بها منذ قيام الثورة: معركة رفض الدخول في مناطق النفوذ، معركة حرب التحرير ومعاهدة الجلاء، معركة عدم الانحياز، معركة كسر احتكار الأسلحة بعقد اتفاقية السلاح مع تشيكوسلوفاكيا، معركة القضاء على الرجعية وطرد الملك وإعلان الجمهورية، القضاء على أعوان الاستعمار، القضاء على الإقطاع والرأسمالية المستغلة، ثم جاءت بعد ذلك معركة التأميم التي كانت كالقشة التي قصمت ظهر البعير.

ونحن نؤكد هنا بعد اطلاعنا على الوثائق السرية بعد السماح بنشرها في العواصم الكبرى أن اتفاقية السلاح هي التي كانت السبب المباشر للعدوان الثلاثي وأن معركة التأميم كانت الحافز والمبرر للعدوان. وكانت العواصف تتجمع منذ أوائل عام 1956 تنذر بأن انفجارا كبيرا سوف يحدث، فقد عقدت اتفاقية السلاح ووصل الاتحاد السوفييتي إلى المياه الدافئة، وطرد الليفتنانت جنرال "سيرجون باجرت جلوب" قائد الجيش العربي في عمان من موقعه تحت الضغط الشعبي، ولم يوفق "كرستيان بينو" عندما قابل عبدالناصر في القاهرة في إقناعه بعدم مساندة ثورة الجزائر إذ أفهمه عبدالناصر أن تخلي مصر عن واجبها في مساعدة الثورة معناه التخلي عن قوميتها العربية، وزادت أعمال الفدائيين ضد إسرائيل ثم وفي 16 مايو 1956 اعترفت مصر بالصين الشعبية إثر تزويد الولايات المتحدة لإسرائيل بالطائرات عن طريق كندا وفي 13/6/1956 غادر آخر جندي بريطاني قاعدة القناة تنفيذا لمعاهدة 1956.

في وسط هذا الجو الملتهب قررت مصر بناء السد العالي بمساعدة أمريكا وبريطانيا والبنك الدولي، إلا أنه في 19/7/1956 سحبت الولايات المتحدة عرض المساهمة في تمويل السد وتبعتها بريطانيا والبنك الدولي، وفي 26/7/1956 أمم عبدالناصر القناة لرد اللطمة، وفي 26/7/1956 أي في اليوم نفسه بدأ التدبير للعدوان وعن لسان إحدى السيدات الفاضلات أطال الله عمرها كانت حاضرة حفل عشاء أقامه رئيس الوزراء إيدن في 10 داوننج ستريت لملك العراق ووصي العرش ورئيس الوزراء نوري السعيد أن أحد المساعدين دخل غرفة العشاء ومعه ورقة وما أن اطلع عليها إيدن حتى اكفهر وجهه وسقطت الملعقة من يده، فلما سئل عما حدث أجاب "لقد أمم عبدالناصر قناة السويس" فقال له نوري السعيد لا بد من ضربه فورا لأن كراسي الحكم تهتز الآن في أكثر من عاصمة، وفعلا ومن تليفون غرفة العشاء استدعى رئيس الوزراء رئيس هيئة أركان حرب القوات المشتركة لمقابلته فورا، بعد العشاء.

ليس في نيتنا ذكر أخبار المؤامرة بالتفصيل ولكن الذي حدث هو أنه بعد مشاورات ومقابلات اجتمع مسئولو إسرائيل وبريطانيا وفرنسا في فيللا بونييردي لاشاييل في سيفر إحدى ضواحي باريس عدة مرات وانتهوا إلى توقيع اتفاق العدوان يوم27/10/1956 من 3 صور وضع كل رئيس وفد من المتواطئين صورته في جيبه وانصرفوا. ويصف دايان الموقف كالآتي: "كان الجميع واقفين حول المائدة يحوطهم جو من التوتر العصبي لا يعرفون كيف يتخلصون منه، وكان الجميع يريدون مغادرة الاجتماع لأن جوه أصبح أثقل مما يتحملونه، وكان البريطانيون أول المغادرين وحينما علم إيدن بأن الاتفاق كتب على ورق وأن مندوبيه وقعوا عليه أرسل اثنين على طائرة خاصة من لندن لسحب الاتفاق المكتوب لأنه كان يريد أن يتم التآمر شفاهة ولكن كان الجميع قد غادروا سيفر ووثائق المؤامرة في جيوبهم موقعة من الجميع. وكان الاتفاق ينص على أنه في ساعة الصفر تقوم إسرائيل بشن هجومها على مصر في عمق سيناء، ومن ثم يقوم البريطانيون والفرنسيون بإرسال إنذارهم إلى إسرائيل ومصر للابتعاد عن القناة وإذا لم يتم ذلك تبدأ عملية "موسكتنر" بواسطة القوات البريطانية والفرنسية.

الشيء الغريب أن المتآمرين لم يعترفوا بالتآمر إلا بعد فترة وبدأت المذكرات تصل إلى أيدينا باعترافات المتواطئين في أغرب عملية قذرة تقوم بها دولتان عظميان ودولة صغيرة، وهو موقف أشبه بعربة يقودها "فارسان" وطفل صغير يتعلق بمؤخرتها ليصعد إلى الجبل. ومن الغريب أن أحد الحاضرين في سيفر أبلغ خطة المؤامرة إلى ملحقنا العسكري في باريس الذي أرسلها مع مندوب إلى القاهرة وقابل المندوب عبدالناصر صباح 29/10/1956 أي قبل تنفيذ الخطة "موسكتنر" بساعات وأخبره المندوب بالمؤامرة ولكن عبدالناصر لم يصدقها، فلم يكن يعتقد أن بريطانيا الأرستقراطية يمكن أن تهبط إلى مستوى التآمر مع إسرائيل. أما فرنسا فمن السهل عليها أن تقوم بذلك، ولكن السياسة شيء والجانب الأخلاقي شيء آخر.

واستمرت العواصف تهب على المنطقة طوال السنوات اللاحقة تم فيها لإسرائيل ضم سيناء إليها مرتين لتعود أدراجها إلى الحدود الشرقية بضغوط متنوعة وقامت حرب 1956 وحرب 1967 ثم حرب الاستنزاف ثم حرب رمضان، وانتهى الموقف الآن إلى أن معاهدة القسطنطينية عام 1888 التي تقرر حرية الملاحة في القناة تطبق الآن على جميع الدول بما فيها إسرائيل بعد توقيع معاهدة السلام معها عام 1979، والتي تنظم في نفس الوقت انتشار القوات المسلحة حول ضفتي القناة وفي سيناء سواء من ناحية الحجم أو الكيف تحت مراقبة محطة إنذار أمريكية في جبل الراحة وقوات متعددة الجنسيات في سيناء، علاوة على محاولات لتهميش دور قناة السويس في الملاحة العالمية كممر مائي يدخل التنافس مع استراتيجيات الأنابيب وصناعات بناء السفن.

فالنظام العالمي الجديد يستخدم الوسائل الاقتصادية لفرض توازناته التي يتصارع من أجلها ويغلفها باتفاقات سلام تبنى على أساس توازن القوى وليس على أساس توازن المصالح، والجو من حول القناة مازال ملبدا بالعواصف الكامنة والمستترة والاستقرار الذي يبدو استقرارا قلقا، فالمنطقة مهمة وخطيرة على مستوى الأمن القومي المصري والعربي والإسرائيلي والدولي، والأطماع موجودة ولكنها مستترة تحت مظلات سلام قد ترضي الأجيال القادمة كما أرضت الأجيال الحالية.. ولكن ما الذي سوف يحدث لو أن الأجيال القادمة لم تقنع وترضى؟ وعلينا أن نتساءل: هل كان محمد علي باشا ذا فراسة حينما عارض حفر القناة؟ هل من حفروها بعد ذلك كانوا على حق أم على خطأ؟ هل مسئولية ما يحيط بالمنطقة الآن تقع على من حفروا القناة أم على عاتق الذين كلفتهم الأقدار بالمحافظة على أمنها وسلامتها؟

 

أمين هويدي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




أحداث مصيرية على ضفتي قناة السويس