تكفير وهجرة على الطريقة الغربية شوقي رافع

تكفير وهجرة على الطريقة الغربية

حرب عالمية على أصحاب الطرق

قتل، خطف اغتصاب، انتحار جماعي، وتبشير بالعنف، هذه بعض التهم التي توجهها أكثر من دولة إلى "أصحاب الطرق" الدينية. البرلمان الفرنسي، بعد ستة شهور من التحقيقات، أصدر تقريرا عن أصحاب الطرق، أعلنت الحكومة بسببه الاستنفار، وكلفت قوات الأمن بكل فروعها متابعة نشاطات هؤلاء "المجرمين الواقعيين والمحتملين"، سويسرا وبلجيكا بدأتا أخيراً تحقيقات مشابهة، الحكومة النمساوية طلبت من جهاز التحقيقات الجنائية دراسة شاملة، وألمانيا تخوض حرب داحس والغبراء ضد كنيسة "سينتولوجي" التي تصدر في أمريكا صحيفة "كريستيان سانيس مونيتور" أما في أمريكا نفسها فإن "الداوديين" وملحقاتهم مازالت جثثهم ماثلة، وكذلك في اليابان حيث القتل الجماعي بالغاز السام مازال كابوس مترو الأنفاق. أما في روسيا، فإن أول تصريح أطلقه الجنرال الكسندر ليبيد بعد توليه شئون الأمن، فكان "سوف أحظر وأمنع منعا باتا نشاطات بعض الطوائف الدينية الأجنبية في روسيا" وأضاف الجنرال في كلمته أمام مجلس الدوما "البرلمان" : "إن هؤلاء، من كنيسة "المورمون" الأمريكية. إلى "الحقيقة السامية" اليابانية يشكلون تهديدا للأمن القومي الروسي".

إذن هي حرب عالمية على أصحاب الطرق وبعض المذاهب، هنا بعض المواقع والجبهات الساخنة في هذه الحرب. تقرير البرلمان الفرنسي يكـشف أن في فرنسـا 172 مذهبـا (SECT) يضاف إليها 800 مجموعة. ولكل مجموعة طريقة. أخطر هذه المجموعات والمذاهب جماعة "معبدالنظام الشمسي" التي عثر على 16 من أعضائها في ديسمبر الماضي جثثا هامدة، بعضهم مات قتلا وبعضهم انتحارا. التحقيقات الفرنسية كشفت أن هؤلاء هم الفرع الفرنسي للمجموعة التي مات 53 فردا من أعضائها، أيضا قتلا وانتحارا، في كندا وسويسرا عام 94.

مجموعة أخرى "شيطانية" قامت في يوينو الماضي بنبش المقابر في 4 مدن فرنسية، استخرجت الجثث وقلبت الصلبان، وكتبت شعارات معادية للكنيسة.

ومجموعة ثالثة، كشفت عنها صحيفة "هيرالد تربيون" الدولية في تقرير من باريس يقودها من يسمي نفسه " اللورد منارة" ولقبه "المسيح الكوني" ويستقر هذا اللورد مع أتباعه فوق قمة جبل في الجنوب الفرنسي، فيما يسمونه "مدينة مندروم المقدسة" حيث تنتصب تماثيل ضخمة للسيد المسيح، وبوذا، واللورد منارة، جنبا إلى جنب، وينام الأتباع وينهضون على مكبرات الصوت وهي تطلق الصرخة "أرووم".

الحكومة الفرنسية في مواجهة هذه المذاهب العلنية لجأت إلى القاعدة الذهبية التي سبقتها أمريكا إلى ممارستها وهي التحقيق فيما إذا كان أصحاب هذه المذاهب والطرق يدفعون الضرائب ( !). وكانت أولى ثمار هذه التحقيقات، أن "اللورد منارة" حطم تماثيله، وترك أتباعه، وهرب من مدينته المقدسة، وكذلك تم إقفال مركز لأتباع كنيسة "سينتولوجي" الأمريكية لأنه لا يدفع الضرائب.

الجريمة واقع ومشروع

وليس في هذه المذاهب والطرق أي براءة. إن "اللورد منارة" يبدو أقرب إلى المهرج، ولكنه يكتب في إحدى نشراته "إن السماء قد منحتني القدرة على الخلق والتدمير" وفي هذا الكلام، كما يشير أحد المحققين، مشروع جريمة.

وعبارة "مشروع جريمة" تأخذ أبعادها العملية والواقعية في اليابان وتتحول إلى جرائم مرعبة على أيدي جماعة "الحقيقة السامية" - أوم - وزعيمها سوكو آشارا. وقد كشفت التحقيقات التي قامت بها الشرطة اليابانية حتى الآن كيف يمكن لهذه الفرق أن تتحول من العبادة على طريقتها إلى القتل على طريقتها أيضا، ولأسباب تافهة، ولعل هذا ما يثير الرعب فعلا.

"الحقيقة السامية" أو اسمها المختصر "أوم"، كانت جمعية علنية مرخصة من الحكومة، أي ليس في نشاطها ما يشير إلى أنها تسعى إلى تكفير المجتمع - على الطريقة اليابانية - تمهيدا لتدميره، وكان يمكن لهذه الفرقة غير الناجية أن تتابع طقوسها في جبل فوجي، بعيدا عن المجتمع الملوث بثقافة الهمبرغر، غير أنه حدث أن امرأة يابانية ثرية أعجبت بنشاطات آشارا ومجموعته وزهدهم في الدنيا فتبرعت بمبلغ 60 مليون ين (600 ألف دولار) للجماعة، وكانت تلك هي المقبلات فحسب، فثروة السيدة تقدر بالملايين مع كثير من العقارات التي تملكها في طوكيو، وكان آشار يأمل أن يحصل عليها كلها. بعد أن يقنع السيدة بالهجرة إلى المعبدفي جبل فوجي، لتقضي ما تبقى من عمرها .. غير أن شقيقها - كما تقول التحقيقات - تدخل في اللحظة المناسبة وأقنعها بوقف سيل التبرعات أولا، وثانيا بالابتعاد عن الجماعة بعد أن اختار لها مكانا آمنا.

وعصف الجنون بالزعيم وأمر جماعته باختطاف شقيق السيدة (نيوشي كارايا -68 عاما) في وضح النهار من أحد شوارع طوكيو، وبعد الاختطاف ضاعت آثار الشقيق وبدأت الشرطة حملة تحقيق لمعرفة مصيره.

وكما اعترفت قيادات بارزة في المجموعة، فإن كارايا تعرض لتعذيب رهيب، وتم حقنه بالمخدرات، دون أن يعترف بمكان وجود شقيقته وأخيرا أصدر زعيم "أوم" أمرا بقتله، ولكنه كان قد مات فعلا، مع ذلك فإن أعضاء الجماعة ولإخفاء الحقيقة عن الزعيم، قاموا بخنق الجثة بحبل، ثم بحرقها.

ومع متابعة الشرطة لتحقيقاتها كان آشار يزداد توترا، وعندما راودته الشكوك في أن واحدا من أعضاء الجماعة ربما كان عميلا للشرطة كلف أتباعه باستنطاقه لمعرفة الحقيقة، وهؤلاء الأتباع لم يقصروا فزرعوا الدبابيس في الأماكن الحساسة من جسده، وكووه بالحديد المحمي، ثم خنقوه قبل أن يحرقوا جثته.

وعندما اقتربت التحقيقات في خطف كارايا من الجماعة أعلن الزعيم أن "يوم الدينونة" قد حل، وفي يوم 20 مارس - عام 95 - كان غاز الأعصاب يحصد 12 قتيلا في مترو طوكيو مع آلاف المصابين، ويجتاح كالكابوس أهل المدينة الكافرة.

"كان آشارا يعتقد أن هذا القتل الجماعي سوف يشغل كل شرطة العاصمة بحيث لن تتابع تحقيقاتها في قصة الخطف .." يقولها أحد القياديين في "أوم".

ولكن حدث العكس وزعيم "الحقيقة السامية" ينتظر الإعدام شنقا بما يزيد على 15 تهمة.

إذن فإن الانتقال من التنظير المعادي للمجتمع إلى التطبيق العملي قد لا يكون بالضرورة نتيجة خطة مدروسة، وربما كان آشارا ما زال يعيش مع جماعته في جبل فوجي بسلام، لو أن تلك السيدة لم تقرر أن تفتح خزائن أموالها .. والمال والسلطة، وفق ما يقول التقرير الفرنسي، هما الدافع غالبا وراء قيام هذه الطرق والمذاهب . وهو ما ينقلنا إلى "المهاريشي" في رحلة عجيبة تبدأ من أمريكا وتنتهي في لبنان مرورا بالهند.

الفقير : داعية ومليونيرا

تنتشر جماعة "المهاريشي" حاليا في لبنان، وخاصة في الجبل وتستقطب نخبة من الأطباء، وعددا من المثقفين من مختلف الطوائف، وتعتمد هذه الجماعة على "التأمل" وسيلة لبلوغ المعرفة والحقيقة، وهي أقرب إلى الحركات الصوفية التي شهدت انتشارا واسعا بعد تدمير بغداد على يد "هولاكو"، وكانت هذه الحركات تستعيد نشاطها في كل مرة تقع كارثة سواء، أكانت هذه الكارثة حربا أم زلزالا أم وباء، حيث يهرب الناس من رعب الخارج إلى يقين الداخل، وبالتالي لم يكن مستغربا أن تنتشر حركة "المهاريشي" وأمثالها في لبنان بعد كوارث الحرب الأهلية والغزو الإسرائيلي، ومع أن الأحزاب السياسية تحارب هذه الجماعة "لأنها تشغل الناس عن مشاكلهم الحقيقية وتعزلهم عن حركة الواقع" كما يقول أحد الحزبيين، فإنه يمكن تصنيف أتباع هذه الجماعة بأنهم ينأون بأنفسهم عن العنف، بكل أشكاله.

هذا في واقعها الحالي في لبنان، أما في تاريخها، فإن لـ "المهاريشي" تاريخا حافلا في الولايات المتحدة الأمريكية، وهو تاريخ موثق لدى مكتب التحقيق الاتحادي ومصلحة الضرائب. وتقول هذه الوثائق إن "المهاريشي" وصل إلى الساحل الشرقي في الولايات المتحدة قادما من الهند، وكان فقيرا أقام لدى أحد أقربائه، ولكنه، وخلال سنوات قصيرة نجح في أن يتحول إلى مليونير كبير عبر التبرعات التي كان يغدقها عليه أتباعه، وبعد أن توسعت جماعته وزاد نفوذه قرر إقامة "إمبراطوريته المقدسة" فانتقل إلى الغرب الأمريكي واشترى مزرعة تضم آلاف الهكتارات، وفوقها بنى مدينته الفاضلة، وقد زادت تكاليف بنائها على 80 مليون دولار، وتحول "المهاريشي" إلى نجم تتابع شبكات التلفزيون تحركاته، لأنه كان ينتقل ضمن موكب مهيب يضم 21 سيارة من نوع رولز رويس، وترافقه فتيات جميلات، وهو عندما يرفع يده لتمشيط لحيته بأصابعه تظهر في تلك الأصابع خواتم تحمل حجارة كريمة من النوع الثقيل، وطابت الحياة للمهاريشي، فأعلن عن بناء شاليهات في مدينته للراغبين في قضاء العطلات والعلاج على يديه، وكان يزود هؤلاء القادمين إليه بعازل لحمايتهم من "الإيدز" ويتقاضى مبلغ 16 دولار عن الشخص في الليلة الواحدة .. ولكن أفول إمبراطورية المهاريشي بدأ عندما أخذ سكان القرى والبلدات القريبة من إمبراطوريته بالشكوى، ثم أطلقوا تهديدات بإحراق المدينة وفي مواجهة غضب الجيران قام المهاريشي بتشكيل "الجيش المقدس" من متطوعين ورجال أمن محترفين وزود هذا الجيش بطائرات هليكوبتر يحلق بها رجال مسلحون يرصدون حركة الجيران على مدار الساعة.

هنا تحركت الشرطة المحلية ومعها الشرطة الفيدرالية ومصلحة الضرائب واخترق المحققون جماعة المهاريشي، وقاموا بتصوير فيلم فيديو عن فتاة شابة في قاعة مقفلة ويتناوب عليها مجموعة من الشباب بالضرب والركل والصراخ باعتبار أن هذه الطقوس هي وسيلة للعلاج. وفي الوقت نفسه كانت مصلحة الضرائب تضع قائمة كبيرة بالمخالفات.

وتمت مداهمة المدينة الفاضلة ولكن المهاريشي كان قد تسلل منها عائدا إلى الهند، بينما قامت سكرتيرته بسحب مبالغ نقدية كبيرة، كانت موضوعة باسمها في البنوك، قبل أن تلحق بحبيبها المهاريشي في الهند.

وقبل أن يسدل الستار على هذا الفصل، ربما من المفيد الإشارة إلى أن جماعة "المهاريشي" في لبنان يدفعون اشتراكا سنويا، حوالي 20 دولارا، كما يدفعون بدل جلسات تدريس، وعندما ينهي العضو مرحلة التدريس تؤهله ليتحول إلى معلم، يبدأ في إعطاء الدروس، واستعادة بعض ما دفعه، وهذا قد يصل إلى حوالي 600 دولار.

***

كيف تنتشر هذه المذاهب والطرق، وهل هي بعيدة عن السياسة؟

في فرنسا تشكو تنظيمات حقوق الإنسان من أن هناك فرقا ومذاهب عنصرية معادية للأجانب تتخفى في طقوس تعود إلى الحروب الصليبية، وبالتالي فإن الغاية السياسية هي الأساس في قيامها.

بينما في لبنان مثلا فإن جماعة "شهود يهوه"وقد نشطت أخيرا تعتبر السلطات أعضاءها أقرب إلى الجواسيس.

وفي كل الحالات فإنه في عالم يحكمه الاستهلاك ويتدافع فيه الناس على شراء "الماركة" ليحصلوا على مجد الأرض ويدخلوا صفوف "النخبة"، فإن الفقراء والعاجزين عن الشراء يبحثون عن "الماركة" في مملكة السماء ليحصلوا على وهم "النخبة" أيضا، وهناك دائما من ينتظرهم، وتجارة الأرواح لا تقل ازدهارا عن سوق "وول ستريت" والأرباح كبيرة .. ومثلها الخسائر.

 

شوقي رافع

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات