ترجمة الأيديولوجيا العربية المعاصرة جابر عصفور

ترجمة الأيديولوجيا العربية المعاصرة

أوراق أدبية

زارني صديق حميم من المغرب الأقصى، وتبادلنا الأحاديث في موضوعات متعددة، تتعلق بالأحوال الثقافية في المغرب الشقيق الذي يعرف صديقي اهتمامي ومتابعتي لما يحدث فيه، خصوصا على مستوى النقد الأدبي الذي حقق فيه المغاربة إنجازات متعددة لا بد أن يحسدهم عليها المشارقة وأن يسعوا إلى الإفادة منها. والحق أن المركزية النقدية العربية (أو حتى الإبداعية) التي لا يزال يتوهمها البعض من المشارقة، خصوصا أولئك الذين يتصورون أن القاهرة أو بغداد أو دمشق هي وحدها مركز الثقافة العربية الوحيد، قد تداعت إلى حد بعيد، وتهاوت القسمة القديمة التي كانت تقسم عوالم الثقافة العربية إلى مراكز منتجة وأطراف مقلدة ومستهلكة، نافية المغرب الأقصى إلى منطقة الأطراف البعيدة التي تستهلك وتقلد وتتبع. وبالقدر الذي تهاوت به المفاهيم التقليدية للمركز والأطراف، في الثقافة العربية المعاصرة، استبدل مثقفو الطليعة العربية مفهوم العواصم المتكافئة، المتحاورة، المتفاعلة، بمفهوم العاصمة التي تبدع نيابة عن الجميع، أو تنتج وحدها ليستهلك الآخرون انتاجها. وتحول المشهد الثقافي العربي المعاصر، أخيرا، إلى مشهد حواري، لا مكان فيه لمركز يعلو على أطراف ولا مجال فيه لنزعة استحواذية تلغي الحوار الفاعل بين الأكفاء أو تستبدل بالحوار الهيمنة القمعية لمركز يتجسد به المدار المغلق للزعيم الواحد الأوحد. وها هي أقطار المغرب العربي، خاصة المغرب الأقصى و تونس، تطرح، على مستوى التنظير الفلسفي للواقع العربي المتردي، وعلى مستوى النقد الأدبي الواعد، ما يطالعه القراء العرب في كل مكان، وما يتأثر به شباب الدارسين المحدثين في الجامعات المشرقية أكثر من تأثرهم بالكتابات البالية لأساتذتهم الذين أصابهم تحات الكسل العقلي بالترهل والتخلف عن الإيقاع المتصاعد لمتغيرات الواقع المحلي والقومي والعالمي. وفيما كان صديقي من المغرب الأقصى يحدثني عن آخر الكتب التي صدرت في المجالات التي يعرف اهتمامي بها، ويحمل لي بعض النتاج الذي أرسله أصدقاء أعزاء في المدن المغربية الواعدة بالإبداع، فاجأني بقوله: هل قرأت الصياغة العربية الجديدة لكتاب عبدالله العروي الأيديولوجيا العربية المعاصرة؟. فقلت: وهل هناك صياغة عربية جديدة لهذا الكتاب؟ وما المقصود بها؟ فأجابني بأن العروي، نتيجة الأخطاء الكثيرة في ترجمة كتابه التي صدرت لأول مرة في أكتوبر 1970 عاد وقدم صياغة جديدة بالعربية عن المركز الثقافي العربي، وقد صدرت الطبعة الأولى منذ أشهر قليلة (عام 1995). وأعطاني صديقي نسخة من هذه الطبعة حملتها معي إلى المنزل، وتركتها على مكتبي إلى أن أفرغ لها. وسرعان ما وصلتني نسخة أخرى من المركز الثقافي العربي نفسه، فأعطيت إحدى النسختين لتلميذ من تلامذتي، وأخذت أطالع النسخة المتبقية لأعرف ما الفرق بين "الترجمة" القديمة و "الصياغة" الجديدة.

نقد الذات العربية

ولم أستطع، قبل أن أشرع في القراءة، سوى أن أسترجع المناخ الذي طالعت فيه الترجمة الأولى التي صدرت منذ أكثر من ربع قرن. وكانت الطبعة الأصلية لكتاب العروي قد صدرت عن دار نشر ماسبيرو قبيل نكسة عام 1967، وصدرت ترجمة محمد عيتاني المتضمنة تقديم مكسيم ردونسون بعد النكسة بسنوات ثلاث، وتحت وطأتها القاسية، فكانت أفقا مفتوحا لنقد الذات العربية، وسبيلا إلى التعريف بأطروحات العروي التي وصفها رودنسون بأنها صيحة الأعماق الصادرة عن رجل أثار غيظه تواطؤ الجهل والعجز عن التفكير العقلي المنتظم. وجاءت مقدمة العروي للترجمة الأولى دالة، تنكأ الجراح، خصوصا ما قاله من أن كتابه يدعو المثقفين والمفكرين العرب إلى وعي انتقادي دائب، وإلى الشك والتشكيك في تكنوقراطية الغرب وعاطفية العرب، وإلى العودة إلى واجبهم التعليمي والتنظيمي لإقناع الجماهير العربية أن القوة الحقيقية تكمن في التنظيم الجماعي لا في الآلات الحربية وحدها ولا في النداءات الحماسية. وحاول العروي، في هذه المقدمة، أن يعيد صياغة أسئلته الأساسية في ظل متغيرات 1967، موضحا أن النكسة لم تغير كثيرا من دوافع تأليفه، أو البنية الأساسية لأطروحاته، فقد أرهص بالنكسة في الكتاب الذي تحولت ترجمته إلى نقد لأسبابها. وكما حاولت المقدمة التركيز على هذا النقد، ومن ثم الإشارة إلى ثرثرة أنصاف المثقفين، حاولت تغيير صيغ الأسئلة الأساسية مع الإبقاء على المضمون الذي صاغه العروي أثناء تأليف الكتاب، سنة 1965، والذي قدم نتائج له ظلت سليمة بعد كارثة النكسة.

وأذكر أن مقدمة العروي كانت تتضمن إدانة واضحة للمفكرين العرب الذي دأبوا، منذ القرن الماضي، على الترجمة واجترار الأفكار والتلفيق دون معيار ولا مقياس، وتتضمن، بالقدر نفسه، إدانة لنموذج الشيخ والزعيم السياسي وداعية التقنية. لكن أوجع ما كان في هذه الإدانة، من منظور ذاتي خالص، هو حديث العروي عن الشعب المصري الذي سبق كل الشعوب العربية إلى الإصلاح والرقي والتنمية، والذي حاول أربع مرات أن يقوم بثورة شاملة عجز عنها أيام محمد علي وأيام إسماعيل و عرابي، ثم بعد ثورة 1919 وبعد ثورة 1952. أربع مرات حاول هذا الشعب، فيما قال العروي، أن يغالب القدر المتمثل في شره المستعمرين، القدامى منهم والمحدثين، ولم ينجح. هل خانته آلهته كما اعتقد ذلك شعب المكسيك حين غزاه الأسبان؟ لا بل خان نفسه لأنه لم ينتج القيادة القادرة. لقد أراد هذا الشعب، قبل الجماعات العربية الأخرى، أن يكون تلميذا طائعا ومقلدا أمينا، انقاد للأرقام ولم يغير العواطف، شيد الجسور والسدود، ركب المولدات والمحركات، ولكنه لم يولد إنسانا جديدا بل احتفظ، بكل حنان، بعواطف الريف وطيبته، وركن إلى أمله في الخلود. وأضاف العروي، ما نخس بكلماته جرحنا، في ذلك الزمان، مؤكدا أن الإخفاق هو قبل كل شيء إخفاق النخبة المفكرة المصرية، وما من عربي اليوم، فيما قال، إلا وعليه أن يحلل هذا الإخفاق دون تسامح ولا تشف، لأن الكارثة المصرية كارثة العرب جميعا، وإذا لم تستدرك عواقبها، ففي انتحار مصر انتحار العرب جميعا.

هل هي شماتة؟

وتلك كانت كلمات موجعة إلى أبعد حد، منذ أكثر من ربع قرن. فهمها بعض المصريين، مع الأسف، على أنها نوع من الشماتة في مصر، وقرن بينها وبين هجوم العروي الساخر على نجيب محفوظ، ونقاشه النقضي للكثير من أطروحات النهضة المصرية. والحق أن العروي لم يكن شامتا بقدر ما كان حزينا، ساخطا، غاضبا، مجروحا، شأن الكثيرين من المصريين الذين دفعتهم النكسة إلى إعادة النظر إلى كل شيء، بل شأن بعض أقراني الذين أعجبهم، مثلي، نقد العروي لمشروع الدولة القومية بالصراحة نفسها التي نقض بها أطروحات نموذج الشيخ ودعاوى رجل التقنية المنعزل عن الواقع. والواقع أن الوقائع اللاحقة أثبتت أن البنية التسلطية لمشروع الدولة القومية هي التي أدت إلى عرقلة التحديث الفكري والنمو الاقتصادي، وانتهت إلى نقيض ما قامت به من أجله ودعت إليه وهو تحرير الوطن والمواطن. فهذه الدولة التي تعمدت الانتقاء والتلفيق، ساعية إلى تجسيد التناقض، هي التي حاولت إقامة قشرة دولة حديثة، مخالفة تمام المخالفة للذهنية العتيقة الموروثة التي ظلت قائمة تحت سطح القشرة الخارجية، الذهنية التي تجسدت في تسلطية الزعيم الأوحد، وإلغاء معنى التنوع وحق الاختلاف، وانتهت بالدولة القومية إلى أصولية تولدت عنها المجموعات الإرهابية المتسلحة بتأويلات شائهة للدين. وما أصدق ما قاله العروي، بعد ذلك، من أن نظام جمال عبدالناصر حارب الإسلاميين كأشخاص، كأعداء سياسيين ومنافسين، لكنه، وفيما تابعته الأنظمة المقلدة له، لم يحارب أبدا المبادئ التسلطية والمقولات القمعية التي جمعته وأعداءه السياسيين الذين حاربوه باسم الدين، متسلحين بالآليات نفسها التي اتخذت أسماء مغايرة في الظاهر فحسب.

وأذكر أن وقع كلمات العروي عن النخبة المصرية، في ذلك الزمان، كان أشبه بالصدمة الموجعة التي أسهمت، مع كثير غيرها من وقائع ذلك الزمان، في أن تدفع بأمثالي إلى وضع كل أفكارنا التي تعلمناها من أساتذتنا موضع المساءلة، حتى على مستوى النقد الأدبي الذي رفض العروي، صراحة، ما كان شائعا منه، ودعا إلى مجاوزة النقد الأدبي السائد، شأن الفكر السائد الذي كان يشكل بنية الأيديولوجيا العربية المعاصرة. وكانت النتيجة أن أفكار العروي أسهمت، مع بعض المؤثرات الموازية المهمة، في الانتقال بنا إلى نظرة نقدية، نقضية، أطلق بعضنا عليها اسم الحداثة، ورأينا فيها ما يجاوز أصولية اليمين واليسار، ويدفعنا دائما إلى أن نضع كل شيء موضع المساءلة.

تراجع لا تقدم

وأذكر أن العروي اختتم مقدمة الترجمة العربية الأولى (المقدمة المكتوبة في الدار البيضاء في يوليو 1970) بقوله إننا إذا لم نستوعب حقائق الأوضاع، ومغزى الأحداث، فسرعان ما نرجع القهقرى كما تراجعنا في ماضينا القريب بعد ثوراتنا الوطنية المتوالية، ونستسلم من جديد إلى عبادة المطلقات، ونفضل من جديد الأموات على الأحياء. وها هو ربع قرن يمر على هذه الكلمات، ويتحقق التراجع لا التقدم، ونستسلم مرة أخرى إلى عبادة المطلقات، ولا ينجح داعية التقنية في إشاعة التحديث الذي يفرض الحداثة، ويتحول الزعيم السياسي الشريد إلى نموذج جديد من نماذج الشيخ الأصولي الذي لا يكف عن تكفير الجميع، سلاحه نوع جديد من شباب "المكفراتية" الذين يجتثون كل ما فيه أثر لحرية العقل.

وأحسب أن العروي كان مدركا أن الأسلوب الفرنسي الذي كتب به كتابه في حاجة إلى إعادة الكتابة بالعربية، شأنه في ذلك شأن صياغته الصورية عن "الأيديولوجية" التي كان يستخدمها بدلالات مألوفة من السياق الفرنسي الذي صاغ فيه كتابه، خاصة أن الخطاب الذي توجه به العروى إلى القارئ الفرنسي الذي كان قد أخذ يألف أسلوب كلود ليفي شتراوس وألتوسير وفوكو و لاكان يختلف عن الخطاب الذي ألفه القارئ العربي، وتعود عليه، ولم يحاول أحد، على نحو جدي، أن يخلصه منه بعد كارثة العام السابع والستين. ودليل ذلك ما جاء في المقدمة التي كتبها العروي للترجمة العربية الأولى، وتأكيده أنه لو أتيحت له الفرصة كما كان يؤمل لأن يعيد صياغة الكتاب باللغة العربية لكان استعمل أسلوبا آخر أقل تجريدا وأكثر بيانا. وتلك عبارات لا يمكن فهمها تماما إلا في سياقها الذي يتصل بأهمية الإبانة في توصيل الفكر، وعلاقته بالمتلقي، وذلك من منظور البيان الذي يهتم به العروي بوصفه مظهرا من مظاهر الأصالة.

ويبدو أن هذه الرغبة ظلت كامنة داخل العروي، تؤججها معاظلة الترجمة التي انطوت على الكثير من الجمل المغلقة التي لم نفهم منها شيئا على سبيل القطع في ذلك الزمان، فجاوزناها إلى ما عوضنا عنها من بقية الجمل التي التقطنا منها ما أتاح لنا الفهم الإجمالي، الفهم الذي أكملنا به الناقص على طريقة استنتاج معنى المحذوف الغائب بواسطة الحاضر المذكور من الكلمات. ولست أدري لماذا ظلت هذه الرغبة محبوسة في صدر العروي أكثر من عشرين عاما؟ ولماذا حققها، متأخرا، في العام الماضي، بصياغة كتابه صياغة عربية، هي نوع من أنواع الترجمة المبينة؟ لعلها الشواغل العديدة. ولعله الإحساس بأننا على أبواب كارثة أخرى. ولعله الإحساس بأن الحاضر الراهن في حاجة إلى استرجاع الأطروحات التي أثبتت الأيام صوابها. المهم أن العروي أصدر ترجمة جديدة ومقدمة جديدة، وهذا عمل طيب ومفيد إلى حد كبير. وأضاف إلى ذلك حذف المقدمة القديمة للترجمة التي فجعته على مستوى دقة توصيل أفكاره إلى القارئ العربي. وذلك حذف له ما يبرره لاختلاف الزمن.

أخطاء بالغة

والحق أنني أخذت أطالع الصياغة العربية الجديدة لكتاب العروي، ممتلئ الذاكرة بوقائع السبعينيات التي استهلتها ترجمة محمد عيتاني، ووقائع هذا الزمان الذي نحاول فيه أن نصد جحافل الإظلام والتعصب والتطرف والقمع على السواء. ولم أدهش لغضب العروي على الترجمة القديمة، تلك التي سابقنا فيه الجمل منذ ربع قرن، وحاولنا القفز على معاظلة الصياغة، واستنتاج المعنى الجزئي من المعنى الكلي لنكمل ثغرات الجمل الغامضة المستغلقة. وها هو العروي يحدثنا، في مقدمة الصياغة العربية الجديدة، أنه أحصى مالا يقل عن مائة وخمسة وأربعين خطأ. ويكشف عن أن الخطأ وصل في مواضع كثيرة إلى قلب معنى النص، وأن المترجم لم يستوف المعنى في العديد من الجمل، وأضاف الركاكة إلى نقض المعنى وتشويهه، واستخف بكل قواعد الكتابة المسئولة، ولم يحاول، فيما يقول العروي، أن يراجع ترجمة النصوص العربية على أصولها، أو مراجعة المقتبسات، أو التضمينات، وترجم عن الفرنسية ترجمة حرفية مباشرة، ما كانت نتيجته تحول رواية هيكل "هكذا خلقت" إلى "هي هكذا"، وانقلبت كلمة "فقيه" إلى كلمة "حقوقي"، و"زوايا" إلى "أخويات"، و"علم الكلام" إلى "لاهوت".. إلخ.

ويضيف العروي إلى ما سبق أن ترجمة كتابه تمثل نموذجا من نماذج الترجمة اللبنانية (وغير اللبنانية) التجارية التي تستخف بالدقة، وتستبدل العجلة بالمراجعة، لملاحقة مطالب السوق الاستهلاكي، وتحصيل مزيد من الكسب المادي الذي يتحقق على حساب الوعي النقدي. وينتقل العروي من ترجمة كتابه بوصفها مثالا دالا إلى التعميم الذي له أمثال بالغة الكثرة، ويقول إن الأمر يبدو كما لو كان المترجم العربي المعاصر (التاجر) يتناول القلم باليمنى والكتاب الذي يريد تعريبه باليسرى، مكتفيا بما في ذهنه من مفاهيم ومفردات. وإذا ما خانته الذاكرة عاد إلى المنهل أو المورد، فتكون النتيجة التشويه لا التدقيق. ويضرب العروي على ذلك مثالا من ترجمة عيتاني التي تقول (ص 203) ما يلي:

لقد كانت النزعة التعددية دائما بضاعة غربية، في صيغتها الإثنوغرافية، وكذلك في الشكل المستعيد صوابه الذي يعطيه لها بعض المنشقين عن ماركسية جرى تبسيطها إلى درجة الابتذال الشديد. ولم يجر تطوير الماركسية في أي مكان من البلدان العربية في مذاهب ملتحمة متكاملة المنطق، وذلك لأن الماركسية تتعارض كثيرا جدا مع التجربة اليومية ومع تجربة الماضي. هكذا فهم محمد عيتاني النص الموجود في الأصل الفرنسي (ص144 س 5 ـ 10) الذي يترجمه العروي نفسه على النحو التالي:

"لقد كانت النزعة التعدية (الاعتراف بحق المخالفة والتمايز) دائما بضاعة غربية، سواء في صيغتها الإثنوغرافية التقليدية أو في المنظور الجديد الخاص ببعض الناقمين على الماركسية بعد أن شاعت وفقدت سحرها. ولم يقبل مبدأ الاختلاف المطلق في أي مكان من البلدان العربية كمذهب فكري منتظم. وذلك لأنه يتعارض صراحة مع التجربة اليومية ومع تجربة الماضي (المسجلة في كتاب الملل والنحل). أين نشأ الخطأ في الترجمة؟ يقول العروي: من كون المترجم لم يكلف نفسه مشقة العودة إلى قاموس فرنسي مفصل ليفهم كلمة " Desenchante " قبل تعريبها، فاكتفى بفكها إلى " des " و " enchante " وعربها بـ "استعاد صوابه". ولو عاد إلى قاموس مفصل لعلم، من الأمثلة الأدبية المتضمنة فيه، أن الكلمة اشتهرت في القرن الماضي بعد أن استعملها الكاتب بيير لوتي في رواية عن نساء الأستانة. ونشأ الخطأ ثانيا من أن المترجم تسرع فلم يتحقق أن الضمير " il " في الجملة يعود إلى " pluralisiMe " لا إلى " marxisme " فعكس المعنى. وما أكثر الأخطاء من هذا النوع الذي يشمل إساءة فهم حروف الربط والاستثناء والضمائر والأفعال والنعوت.. إلخ. الواقع أنني بعد أن طالعت، متأنيا، ملاحظات العروي على ترجمة كتابه، استبعدت، لا شعوريا، علامات الاستفهام التي وضعتها على الجزئيات التي لم أفهمها من ترجمة عيتاني التي كان علينا أن نطالعها نحن الذين لم نعرف الفرنسية في ذلك الزمان ونكتفي بها لنعرف أفكار العروي وأطروحاته التي كان لها تأثيرها علينا برغم وسائط الترجمة غير الدقيقة. ومن حسن حظ القراء الشباب، اليوم، أنهم لن يقرأوا أمثال الجمل التي ضربنا إزاءها أخماسا في أسداس، والتي كانت تلغز علينا بعبارات من قبيل : "هذه الرؤية تعززت خلال الأزمنة بجميع النظريات الدورانية والدورية للتاريخ التي تدرك، منذ الأخلاقيين الفرس حتى ابن خلدون مرورا بالغزالي، من خلال النظام الطبيعي". ومن حظ القراء الجدد الذين لا يعرفون الفرنسية أنهم سيطالعون أفكار العروي مباشرة، دون وساطة معوقة، ودون أن يطرحوا على أنفسهم السؤال الذي طرحناه على أنفسنا، عما إذا كان يكفي في الترجمة أنها تحفظ الأغراض وتؤدي المعاني على سبيل الإجمال؟ وأذكر أننا لم نقنع بالوسائط المعتمة. وقلنا لأنفسنا : وماذا عن معنى الخاص، ناهيك عن أخص الخاص؟ وماذا عن قلب المعنى، وتشويه المقصود؟ والمؤكد أن فهمنا كتاب العروي الأول، في ذلك الزمان، كان يمكن أن يكون أعمق، ومن ثم أقدر على وضع الكتاب نفسه موضع المساءلة، أو النقض، لو طالعناه في ترجمة دقيقة. ولكن ذلك لم يتحقق بسبب رداءة الترجمة. وهي رداءة يرى فيها العروي، بحق، مثالا دالا يعكس وضعا ثقافيا، هو جزء من بنية الأيديولوجيا العربية المعاصرة التي حاول الكشف عنها في كتابه. وهو وضع ثقافي يتصل بأم المسائل (وليس "أم المعارك") في هذه البنية، أي مهمة تحديث العقل العربي الذي لا يمكن أن يتم دون مادة مكافئة، ودون ترجمة حقيقية، دقيقة، أمينة، واعية، محدثة، تتيح لنا أن نقرأ الآخر على ما هو عليه، وأن يقرؤنا الآخر على ما نحن عليه.

 

جابر عصفور

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات