مختارات من القصص العربية
مختارات من القصص العربية
الاستعداد حاول "جمال" مرارا تركيز ذهنه على أحداث الرواية التي بين يديه لكن فكرة لقاء تلك المرأة الغريبة الأطوار كانت تشوش على خياله : ترى كيف هي هذه المرأة؟ وهل ما حكى عنها "حسن" حقيقة أم كذب بغيض؟ - إن في هذه الرواية أحداثا خارقة لكن ما في الواقع لهو أغرب مما في الحكايات، هذا ما تحدث به "جمال" وكأنه يخاطب شخصا معه في الغرفة التي يعد فيها شهادة الإجازة. الساعة قريبة من السادسة. اقترب موعد إغلاق المعامل. بعد نصف ساعة سوف يطرق بيت "جمال" وسوف يفتح الباب مسرعا ليقول لصديقه الجديد الطريف: هيا بنا أنا مشتاق لرؤيتها. من تكون المرأة الغريبة؟ هل هي خطيبة جديدة لـ "حسن"؟ أم هي إحدى جاراته أو أحد أفراد عائلته؟ - ابن اللئيمة! لقد عرف كيف يشد اهتمامي بالموضوع، كان قد قال: إن غرائبية الرواية التي تقرأ الآن لا تساوي شيئا بالنسبة لما سوف تراه بمنزلنا، سوف ترى بأم عينيك ما هو أعجب من شخوص وأحداث رواياتك. قال ذلك ثم انفجر ضاحكا وكأنه يضحك سلفا من اندهاش لما سأرى . ثم أضاف: موعدنا غدا على الساعة السادسة والنصف، حتى ندرك صلاة المغرب في بيتنا. فكر "جمال": - بما أنني سوف أشاهد المرأة الموعودة في بيت "حسن" حتما ليست هي خطيبة جديدة له فأنا أدرى بتقاليد شباب بلدي، خطيبة جديدة يعني امرأة ما زالت في الشارع، لكن لم أصر أن يكون لقاؤنا قبيل صلاة المغرب، هو لا يصلي، فما علاقة الصلاة بالعجائبية؟ الساعة جاوزت السادسة والنصف و"حسن" لا يظهر في الشارع من خلال النافذة، ألقى "جمال" بالرواية فوق السرير وراح ينزع عنه ملابس الأسبوع المنصرم ليلبس ملابس أخرى وفي نيته أنها ستكون ملابس زيارة "البيت ذي الخبايا" ... و... دق جرس البيت . صوت بالخارج معروف جدا يصيح: - افتح يا "جمال" .. أنا "حسن" .. ها هما الآن في غرفة حسن، ولا شيء خارق يستأهل الانتباه: بنيان سفلي يتألف من غرفتين واحدة لـ "حسن" وأخرى مقفلة ومرحاض - دوش و "وسط - دار" . كل شيء عادي تماما. - هل في مثل هذه البيانات الساذجة تقع أغرب الأحداث؟. لربما كانت مزحة منه. هذا ما فكر به "جمال" في الحين الذي كان فيه "حسن" يخلع ملابس "النجارة" وكانت عبارة عن سروال وجاكت أزرقين سليمين من أي تقطيع. - الظاهر أنك شاطر في النجارة؟ - بالتأكيد أجاب "حسن" الذي كان يخلع عنه الملابس الحرفية. - سوف أستحم بسرعة البرق. أضاف "حسن". بعد أقل من عشر دقائق عاد "حسن" إلى الغرفة وهو شبه عار لا يستر عورته سوى فوطة، رثة، ثم صار يرتدي ملابس السهر والنوم: "سورفيت" زرقاء، سأله "جمال". - أين "الغرابة". يقصد المرأة ذات التصرفات الغريبة. أتقصد جدتي؟ - وما أدراني أن تكون جدتك؟، أنت لم تحك لي عن أي شخص (! ) قلت لي فقط: تعال لتر أغرب الشخصيات. صار "حسن" يضحك وقال: - أنا أمزح معك، أعرف أنك لا تعرف شيئا، فقط من باب تحريض الاشتياق من تكون المرأة في نظري؟ - وما أدراني، لقد أنهكت من فرط التخمين لربما كانت جدتك فعلا، لكن من أين للجدات أن يكن، "غرائبيات"؟ أصمت إنها قادمة، لسوف ترى بأم عينيك. سمعت خطوات نحيلة تنحدر من الدرج، كان الشخص ينزل من الطابق العلوي إلى الطابق الأرضي، خطوات ثقيلة كزحف سلحفاة، خطوات تسبقها رائحة غريبة وكأنها رائحة "الحرمل"، همس حسن: - إنها هي، جدتي الغريبة. انفتحت عينا "جمال" وسأل: - إنها امرأة عجوز جدا فكيف لها أن تحدث العجائب؟ تقدمت العجوز من باب الغرفة وصارت تفتحه في أمان مطلق. ثم ولجت الغرفة. في سرية تامة تقدم الشابان من الباب وصارا يطلان من ثقبه. كانت العجوز تصلي صلاة المسلمين، كبرت الله وصارت تصلي، همس "جمال في أذن "حسن": - لا شيء غريب فيما أرى، لا بد وأنك خدعتني (؟) - انتظر يا أحمق إن للمعجزات زمنا للظهور ! سلمت العجوز على الملائكة ورفعت يديها داعية الإله، ثم طوت السجادة ووضعتها جانبا. - ماذا ستفعل ؟ قال "جمال" هامسا. - سوف ترى. تقدمت العجوز من صندوق خشبي أصفر اللون وجرته إلى مكان الصلاة فصار داخله مرئيا وكان فارغا تماما. ثم تمددت داخله وأرخت يديها وأغمضت عينيها وصارت تقول كلاما واضحا تماما: - كنت مسلمة ولم أقترف ذنبا في حياتي، معذرة! اقترفت بعض التفاهات. - ماذا تفعل ؟ سأل " جمال". - إنها تتدرب على الموت. وهذا حالها منذ كنت صبيا. - ألا تكون داعية الله وراجية إياه الغفران؟ - لا يا مشكك! لقد صارحتنا بالأمر قديما، وأبي هو الذي صنع لها تابوتا لتتدرب على الموت. - والآن؟ ماذا تفعل؟ - إنها تتقدم إلى طابور الانتظار. - ولم تخلع الآن ثيابها؟ إنها تتعرى، لا أريد أن أنظر. - بل يجب عليك أن تنظر حتى تعرف كيف يتخيل الناس ساعة الحساب. كانت العجوز عارية تماما وكانت عيناها مغمضتين ويداها متقابلتين وصارت تقف على رجل واحدة. - إنها حمقاء. - الأحمق هو أنت! يا مثقف إنها لم تقترف خطأ قط، وأنا عازم على القيام بتجربتها. - أنت الآخر أحمق. - بل الأحمق هو أنت. أنت تدعي المعرفة وما أنت إلا شخص واهم. - هيه إنها تبتسم وترقص من مكان إلى مكان، حمقاء - الأحمق هو من لم يستوعب دواخل الآخرين. إنها الآن في الجنة. - لم أر شيئا كهذا! - ولهذا استدعيتك. انظر إنها تتوجه لإطفاء النور لكي تميت "احتمال أن يراها غير مصدق". - ماذا؟ ولم يكمل "جمال" سؤاله حتى أظلمت الحجرة. الخيول البيض في الليالي الأربعين تتجمد أطرافك، وتبتعد أصابع يديك عن بعضها البعض، تصطلك أسنانك، ترتعش شفتاك، يزرق لونك، ويتقلص جسدك!. نعم، يتقلص جسدك، حتى إنك تحس بأن ملابسك غدت فضفاضة بعض الشيء! في الليالي الأربعين - إذا كنت من الذين يستيقظون في الصباحات الباكرة - تجد أن سطوح البرك قد تجمدت .. إلى درجة أنه يمكنك أن ترفع ذلك الغطاء الزجاجي بين يديك. كبار السن في قريتنا يتدثرون بعباءاتهم بالقرب من المواقد، ويمتهنون التثاؤب، وإذا أراد أحدهم الإشارة إلى شيء ما، أشار إليه بالشفة السفلى، حتى لا يضطر إلى إخراج يده من العباءة وبين الحين والحين يبحثون بأقدامهم في ذاكرة الرماد عن بقايا جذوة. الليالي الأربعون موسم من مواسم الحكايات. - يقولون إن الراعي "مسعود" قد ذهب بقطيعه إلى الأودية، فهذا أوان ظهور الخيول البيض. - مسكين هذا المسعود، منذ سنوات وهو يفعل ذلك في عز الشتاء، لكن دون جدوى. - كم أتمنى أن أرى تلك الخيول. - أنا أكثر قناعة منك، أنا لا أحلم إلا بجواد أبيض واحد. - يقولون إنها خيول كثيرة، يسوقها سائس بلباس أبيض. وبيده سوط طويل تسمع له فرقعة. - ويقولون أيضا إن من يرى الخيول البيض يحقق كل أمانيه. - ويتزوج بمن يشاء. - إن الخيول البيض لا يمكن للنساء أن تراها. شهقت الأخريات شهقة جماعية: - لماذا؟ - لأنها لا تظهر إلا في ليلة واحدة من السنة، وهي ليلة غير معروفة، كما أنها لا تظهر إلا في الأودية البعيدة، وقد تمر سنوات دون أن يراها أحد، فكيف يمكن للنساء أن تراها؟ - هذا يعني أن رؤيتها تكاد تكون حكرا على الرجال، والرعاة بالذات، فهم وحدهم الذين يبيتون في الأودية. تنهدت إحداهن: كم أتمنى أن يتزوجني أحد الرعاة ..! إذا تزوجك الراعي فلن تكوني في حاجة إلى رؤية الخيول البيض .. ! أحد الأماسي الأربعينية الباردة .. كانت تمطر بلا صوت. في الحنايا والسفوح كانت تسمع شهقات الأرض الخافتة وهي ترتشف دفقات المطر، وفي الأحشاء الندية كان الربيع ينمو خلسة. (مسعود) يُشعل النار وهو يطلق صيحات غريبة، زاجرا القطيع، أو مناديا الكلاب، حاثا إياها على النباح. دخان الحطب المبتل يتصاعد كثيفا مقاوما زخات المطر. السيول تخرخر متجهة نحو الشمال، وتغيب في المنعطفات، حيث الأودية تصب في أودية. غربان المساء تتشاكس، وتتقلب في الهواء، فرحة بالمطر وبالعودة إلى أوكارها. وفي الأفق الشرقي ترتسم (الندوى) (3) قوسا زاهيا. يتلاشى أسفله خلف ذوائب الأشجار. تكوم الراعي بالقرب من النار، مصغيا، كان يخيل إليه أحيانا أنه يسمع صهيلا أو وقع حوافر. وأحيانا أخرى يتخيل إليه أن حصانا قد نخر خلف الشجرة المجاورة، فيقوم ليستطلع الأمر، ويصيخ إلى سكون الليل. وفي آخر الليل غلبه النعاس، فاستسلم للنوم بالقرب من الجمرات الخابية تحت الرماد الأبيض. وقبيل الفجر، حينما كان (مسعود) لا يزال مستغرقا في النوم . كانت الخيول البيض تنحدر مع الوادي. وقد أخفت السفوح الندية وقع سنابكها. الكلام الساكت وفي صباي المبكر رأيتني في المنام أفقد البصر وأعيش أعمى، كرهت الدنيا وتمنيت الموت لكن العمر امتد بي وشاب شعري، انحنى عودي وصرت أتوكأ على عكاز، كان الزمن في المنام ينقضي بسرعة فرأيتني جدا لعشرات الأحفاد الذين لم ألتق آباءهم رغم أنهم أولادي . كان الأحفاد يتناوبون بانتظام لقيادتي من عند باب داري وتوصيلي إلى الزاوية، حيث أتوضأ وأصلي قبل أن يعيدني من أخذني منهم إلى داري، وقبل أن أقعد أسمع صوت المؤذن ينادي للصلاة التالية فيتعجلني حفيد آخر لأقوم ويقتادني إلى الزاوية قبل إقامة الصلاة وقبل أن أنقض وضوئي، أتوكأ على العصا وكتف الحفيد الآخر وأذهب إلى الزاوية، أصلي ويعيدني الحفيد، لكنني قبل أن أخلع مداسي أسمع صوت نفس المؤذن ويتعجلني صوت حفيد آخر فأتساند عليه ويقتادني، وعلى هذا النحو كنت أؤدي الصلوات في أوقاتها بفضل الأحفاد البررة الذين لم أحفظ أسماءهم أبدا. قلت لأمي تفاصيل ما شهدته في منامي فزغردت تعبيرا عن فرحتها، وقالت لي كلاما كثيرا لا أذكر منه إلا بعض العبارات: "قلبي وربي راضيين عليك، خلعت رأسي ودعوت لك فاستجاب الرب لدعواتي، أبشر لأنه سوف ينعم عليك بالبصر الحديد فتتمكن من رؤية الأشياء البعيدة وكأنها بجوارك، بل إنك سوف ترى في حلكة الظلام وعتمة الليل بمثل ما ترى في عز الظهيرة" أذكر أنها نبهتني بعدم البوح لأي إنسان عندما تتحقق النبوءة ويهبني الله نعمة البصر الحديد حتى لا تزول النعمة، وعدتها بالكتمان وكتمت الأمر في نفسي لأحمي نفسي من عيون الحاسدين، لكنني لا أذكر على وجه الدقة متى بدأت أنعم بالبصر الحديد، ربما حدث الأمر بهوادة وبطء بحيث لم ألحظ التغير إلا عندما كنت قد أحسست باكتمال المعجزة، صرت أرى من البعيد البعيد ما لم يخطر على خيال نفر من ناس كفرنا، مرة رأيت خالي الكبير في سوق البندر وأنا واقف تحت الجميزة العجوز الكائنة في مدخل كفرنا، رأيته يركب حماره ويخرج من السوق وقد وضع أمامه على الحمار بالعرض عنزة لون شعرها بني مائل للسواد، وفوق عينيها دائرتان من شعر أبيض أوسع قليلا من اتساع العينين، أسرعت إلى أمي أخبرها بما رأيت فكذبتني رغم أنها هي التي بشرتني بالنظر الحديد، لكن بعد ساعة أو تزيد جاء خالي حاملا نفس العنزة التي كنت قد رأيتها عند مدخل السوق ووقف عند باب دارنا، تبادلت أمي معه حوارا عن ثمن العنزة ومن أي الناس اشتراها ومتى خرج بها من السوق فجاوبها وهو يبدي دهشته واستعجابه الزائد من أسئلتها ثم زغد الحمار في بطنه بالمداسين والكعبين آمرا إياه أن يسرع بالابتعاد عن باب دارنا حتى لا يصيبه خبل من كثرة أسئلة أمي التي نادرا ما كانت تسأل عن الأشياء التي لا تخصها، لكن أمي التفتت ناحيتي وصارت تحدث نفسها وتحدثني وقد سحبتني إلى وسط الدار وصرنا وحيدين لا ثالث لنا إلا الله: سبحانك يا رب، تمنح سرك لأضعف خلقك، سامحني يا رب سامحني، وقدرني أن أقدر عليه ليصون السر ولا يبوح لمخلوق على سطح الأرض. بمثل هذا الكلام كانت تتحدث وقد خلعت طرحتها ومنديل رأسها الزهري وقد رفعت كلتا يديها ونظرت في اتجاه السماء وأنا أنظر معها فلا أشاهد غير الزرقة التي لا يحدها حد برغم ما تأكد لي من امتلاكي للبصر الحديد. لا أعرف كيف فاتت سنوات عمري وقد رأيت ما لم يره في كفرنا النعسان بشر أو طاف في خيال بني آدم، شفت وما بحت، حتى بعد أن بلغت أمي من الكبر عتيا ثم ماتت وما عاد لي ونيس أو جليس أفضفض معه بشيء مما أراه وأشهده فلا يحس به غيري، وفكرت أن كتابة السر على الورق المخبوء في الخزانة سوف يريحني ويكشف بعض ما اكتشفته بعدما يحين الأجل المحتوم، لا بد أن أبوح على الورق أخف من البوح باللسان، هكذا كنت أظن في أول الأمر حتى اكتشفت أن البوح بكل الأشكال بوح في نهاية الأمر، وأنني بعدما كتبت سري وشعرت ببعض الراحة على نحو غامض كنت أفقد قدرتي المتميزة بالنظر الحديد، كأنني كنت أرمح وحدي منذ تحققت نبوءة أمي وقدرت على إقناعي بصيانة السر، أرمح وحدي وقد حملت حملا ثقيلا، لا كنت قادرا على حمله ولا كنت قادرا على التخلص منه إلا بعد أن بحت بالسر للأوراق المصكوك عليها في الخزانة. وفي زمن آخر رأيتني في المنام وقد أصابني صمم وانطرشت، ما عدت أسمع أي الأصوات، أفزعني أن أرى نظرات الفزع في عيون أولادي وأحفادي، هل صرخت أولا بصوت ثم انكتم الصوت فما عدت بقادر على الأنين أو التعبير عن المواجع حتى ولو على طريقة الأبكم؟ كنت في المنام أرى الأشياء أكثر وضوحا، أستطيع تفسيرها للناس دون أن أتكلم، أبادلهم تحريك الشفاه بتحريك الشفاه، والغمز بالغمز، ورفع الحواجب برفع الحواجب، والطرقعة بالأصابع في الهواء بطرقعات الأصابع في الهواء، لكن دون قدرة على التواصل معهم رغم كل الجهد المبذول منهم ومني، كنت في المنام الصعب أشعر أنني انعزلت عنهم وانعزلوا عني بفعل فاعل خبيث، أو مجموعة فعلة خبثاء. في الصباح حدثت زوجتي بتفاصيل الكابوس الذي كبس على أنفاسي وأشك أن يزهق روحي خلال الليل فزغردت تعبيرا عن فرحتها وهمست في أذني قائلة: أوصيك بالكتمان، أوصيك بالكتمان، سوف تسمع دبة النملة وتحس بالريح قبل أن تهب، وربما وهبك الله لسانا فصيحا يقدر على نطق الكلام الصحيح في مستقبل الأيام، لكن لا بد أن يكون لسانك حصانك، إن صنته صانك، وإياك إياك من الاندفاع وراء جرس الكلمات مثلما يفعل بعض الشعراء الحمقى، حذار حذار من أن ترمي روحك في سكة الهلاك، علتك الكلام ودواؤك السكوت والحذر من الحبيب الحبيب قبل العدو. بمرور الأيام بدا لي أن قدرتي على السمع زادت، كنت أتوهم أنني أسمع عند شاطئ النهر أصوات أنياب الأسماك الكبيرة وهي تنهش لحوم الأسماك الصغيرة فأتعذب، وكنت أتوهم أيضا أنني أسمع أصوات من يتآمرون على الوطن من خارج حدود الوطن، أتوجع وأظل وحدي أكابد الوجع، أسهر بينما ترقد الزوجة والأولاد وأدرب لساني على الكلام اللائق دون تفاصح أمام من صاروا رؤسائي في العمل أو رؤساء رؤسائي، وأتذكر هؤلاء الأنصاف ممن يدسون في آذانهم عبارات المديح وينفخون أوداجهم بكل أشكال التملق، لكنني في الصباح كنت أنسى وأندفع، أتفاصح وأتخطى حدودي المسموح بها، أراهم على حقيقتهم ويتبدى لي أن أكثرهم صعد على سلم السادة دون أمارات كافية، كنت أستشعر الخطر يحوطني من كل جانب بينما أنطق بالحقائق، يتزايد أنصاري من صغار الناس ويتزايد أعدائي من الأكابر وأنصاف الأكابر وأرباعهم، أرجع من الشغل وقد خصموا من مرتبي يوما أو نصف يوم فتتشكى زوجتي لأمها بالهاتف من قسمتها التي رمتها لأكون أنا من نصيبها، أهدئها إذا ثارت في وجهي وأعدها أن أسد فمي في اللحظات الحرجة لأمنعه من الكلام في المواجهة في الصباح التالي، لكنني كنت أفشل أيضا، كنت أحتج على الأسعار وزحام المواصلات وضآلة الرواتب وفساد الذمم وسيادة الكسل وبلادة المشاعر، وكان من المألوف أن أتعارك وأصاب في المعارك بإصابات متنوعة، ولا بد أنني لاحظت بنفسي أنني خلال تلك الفترة كنت أتدخل بالكلام الساخر من كل شيء أصادفه سواء كان يخصني أو لا يخصني، كانت ادعاءاتي بأن كل ما يحوطني وما أراه يهمني بدرجات متفاوتة هي السبب الذي جعلني على استعداد لتصديق كل ما كنت أسمعه من وشايات وكأنها صوت هاتف من البعيد البعيد لا يقدر غيري على سماعه، وأنها بالقطع وراء انطلاقات اللسان المفلوت بلا رابط، قلت لروحي: جرب السكوت حتى لا تنعجن حياتك أكثر مما انعجنت، واجعل من أذنيك المعاندتين نفقا علويا مفتوحا لتمرير الكلام، وقلت أبوح لأول من يصادفني بتفاصيل المنام القديم لأحرم زوجتي من إحساسها الدائم بأنها الوحيدة التي تعرف سري الخطير وتحفظه، وقلت لروحي: ربما يا ولد تفسر بالبوح تلك الهواتف المزعومة وحالات التفاصح التي جعلتك تخسر على طول الخط بينما يتقافز ويعلو من هم أقل منك طولا وعرضا وقدرة على الفهم والاحتمال وإنجاز العمل. عندما التقيت صديقي القديم في منتصف الطريق بين بيتي وبيته كنت قد عقدت العزم على البوح له بالسر، لكنه بادرني بالهمس سائلا إن كنت على استعداد لسماعه لبعض الوقت فجاوبته بالموافقة، روى لي أنه رأى في المنام حلما عجيبا لا يعرف تفسيره فتحركت في ذاكرتي كل الخبرات والمراجع التي تحسن تفسير الأحلام، قلت له إنني جاهز للسماع فابتسم بخجل قبل أن يروي لي حلما يتشابه في جوهره مع حلمي القديم الذي ائتمنت عليه زوجتي وحدها منذ سنوات، أدهشت لأنه لا يختلف إلا في بعض التفاصيل البسيطة وقلت لروحي إنها تحاصرني بالبوح لأصحابي وربما زملاء العمل ورؤسائي فأتعرى أمامهم وأنا الموهوم بأنني رجل مستور، وبدا لي أنني لم أعد بقادر على سماع صوت صاحبي القديم أو الرد على إشاراته الكثيرة بالأصابع وغمزات العين وحركات الشفتين، كنت أبادله إشاراته بإشارات مماثلة وأشعر في نفس الوقت بأننا فقدنا التواصل وتباعدنا إلى حد مؤسف رغم وجودنا في نفس المكان، ولم يكن لدينا مفر من ترك المكان والسير في اتجاهين متعارضين. من يومها وأنا ساكت أرى وأتظاهر أنني لا أسمع، انبنى بيني وبينها جدار وهمي فانعزلت عنها وانعزلت عني بفعل فاعل خبيث أو مجموعة من الفعلة الخبثاء وكأنما انكتب علي أن أعيش في الواقع كابوس المنام الصعب وتذكرت، وصاياها القديمة: علتك الكلام، ودواؤك السكوت والحذر من الحبيب الحبيب قبل العدو.
|
|