أنتم تعرفون زخور
بخش طبعا.
ستسألون أيهم،
فالناس الذين يحملون هذا الاسم بالمئات وربما بالآلاف. أنا أقصد زخور بخش ذاك الذي
حصلت له تلك القصة المرعبة. سأرويها لكم ولن تستطيعوا نسيانها أبدا. زخور بخش سيدخل
قلبكم، وسيتراءى لكم زخور بخش في كل عابر سبيل أمامكم جاوز سن الشباب، وحين تتذكرون
أي مصير لقيه سينقبض قلبكم من الألم كما ينقبض الآن قلبي.
يبدو هذا غريبا
الآن، لكنه في أول لقاء لي معه لم يلفت انتباهي: كهل عادي ذو لحية صغيرة وشعر أشعث
وقدمين حافيتين يرتدي قميصا وسخا ممزقا عند الكتف وتهماداً. واحد من مئات، آلاف
المشردين . كان يقف عند حائط بيته صامتا لا يقول شيئا، ولا يسمع، فيما يبدو، شيئا.
كان يقف هكذا دون حراك ساندا ظهره إلى الحائط وكأنه متحجر.
كان المرج الصغير
أمام بيته غاصا بالناس - رجال، نساء، أطفال .. كان هؤلاء هم الذين تضرروا بالحريق.
كنت ترى حولك صرر الملابس والأسرة الخشبية المحترقة وأواني المطبخ ملقاة على الأرض،
فقد كان الناس يخطفون من مساكنهم التي تأكلها النار كل ما تقع عليه أيديهم. والآن
كان هذا كله يرقد في العراء. وكان يبدو من بعيد أنه تجمعت هنا أكوام من القطع
المتعددة الألوان.
لم يكن زخور بخش
يرى شيئا من هذا كله على ما يظهر - فماذا يمكن لإنسان أن يرى إذا كانت عيناه
الجامدتان شاخصتين نحو نقطة واحدة لا تحيدان عنها؟
لم يبق في بيته
إلا الحائط الأمامي، وما بقي من أثاثه كان متناثرا فوق المرج، وفي الهواء تتطاير
أوراق ممزقة من مخطوطات. كانت كل ورقة مكتوبة بخط زخور بخش - بخط عربي مزخرف جميل -
وكأنها وشي من الخرز الأسود على حاشية بيضاء. بدم القلب كتبت تلك المخطوطات، ومن
أجلها أفنى سنوات عمره. كانت الكتب المحترقة متناثرة في كل مكان على الأرض. كانت
هناك مذبحة أحرقت فيها الأبنية ونهبت الممتلكات وقتل الناس. هل من ضرورة لأروي لكم
كيف حدث هذا؟ كل من رأى ولو مرة واحدة بيوتا محروقة ومتاع البيت مرميا على الأرض
ووسط هذا وذاك رجالا ونساء توقفت نظراتهم وتجمدت، يدرك ما معنى الفتنة
الطائفية.
نظرت إلى هذا
الرجل من جديد، كان يقف وكأنه لغز حي في المكان نفسه: عينان واسعتان جامدتان
تتأججان بنار داخلية غريبة وجسم ضئيل: (لكن هذا هو زخور بخش نفسه! لقد قرأت قصصه.
ترجم إلى الهندية السعدي "غلستان" و "البستان" .. لكن ما الذي دهاه؟ حافي القدمين،
التهماد انزاح .. يقف ملتصقا بالحائط بشدة كانه مسمر عليه).
في صباح ذلك
اليوم عمل زخور بخش كعادته كل يوم. كتب عدة صفحات، وضعها جانبا، دخن "البيري" نهض
عن الطاولة وتمطى . كتب ما كتب ذلك اليوم بقدر كبير من اليسر والسلاسة. كان لا يزال
على حيويته حين سمع في الخارج وقع أقدام وصرخات وهتافات تمجد الإله "شيفا" ثم شتائم
قذرة. كان الوضع لا يزال متوترا منذ عدة أيام، وكان صمت منذرا بالخطر يخيم على
المدينة. وكأنما انفجر سد الآن فأغرق تيار الحقد المتدفق كل شيء حوله.
غير أن زخور بخش
كان لا يزال محافظا على هدوئه. نهض وهم بالتوجه نحو الباب، لكن صرخة زوجته
أوقفته:
- لا تخرج!
الأفضل أن تتطلع من النافذة .. لا لزوم لفتح الباب!
- مالك هكذا؟ لم
كل هذا الاضطراب؟ لن يمسوا بيتنا، لن يجرؤوا.
- لا لزوم لفتح
الباب! أرجوك، لا تفتحه .. قالت زوجته تتوسل إليه.
- لقد فقدت صوابك
تماما!. قال ضاحكا .. لا يوجد في المدينة شخص لا يعرفني بالوجه.
وتوجه إلى الباب
في هدوء. في هذه اللحظة بالذات اهتز الباب تحت ضربات فأس مسعورة. ضربة أولى، ثانية،
ثالثة ... بعد الضربة الثالثة انفلج الباب وسقط.
كان زخور بخش لا
يزال يظن أن ما جرى إن هو إلا سوء فهم. الآن يراه الناس ويعرفونه ويقفلون عائدين
على الفور. غير أن هؤلاء - وكان عددهم كبيرا - كانوا يحملون حرابا وهراوات وقد
ملأوا البيت كله في طرفة عين. أطلقت الزوجة صرخة مرعبة وتجمد زخور بخش - فهو لم
يتمكن بعد من الانتقال من العالم الخيالي الذي كان فيه وهو يعمل وراء طاولته إلى
عالم الواقع.
- ماما! صرخت
كبرى ابنتيه اندفعت نحو أمها. أما الصغرى فقد بقيت واقفة عند خزانة الكتب دون حراك،
وجهها فقط غشيته صفرة الموت وفي عينيها تجمد الرعب كما في عيني أيل مذعورة. وانحفر
هذا في وعي زخور بخش وكأنه على صورة ضخمة: ابنته التي سمرها الرعب وإلى جانبها كتب.
وخرست زوجته فجأة. لم يكن يعرف ماذا حل بها وبابنتها. لم يكن يرى أمامه شيئا، لم
يكن يفهم ما الذي يحدث! كانه غط في غيبوبة.
في لحظة من
اللحظات مرق أمام عينيه وجه فيشفيشفار الذي يقطن في الحي المجاور ويعمل في هيئة
تحرير إحدى المجلات. كان فيشفيشفار يعرف زخور بخش ويجل موهبته وكان لا يني
يردد:
"أنت يا زخور بخش
واحد من أولئك المسلمين الذين سيحملون الشهرة إلى أدب اللغة الهندية كان فيشفيشفار
ينشر في مجلته بعضا مما يكتبه زخور بخش. ماذا يفعل هنا؟ لماذا لا يوقف هؤلاء
الناس؟
- سيد فيشفيشفار!
أنت تعرفني ولا شك. صاح زخور بخش يخاطبه.
غير أن فيشفيشفار
غاب عن ناظره كأن الأرض انشقت وابتلعته. كان يحيط به أناس أغراب في حالة هياج
وموجان. وفجأة تثنت ركبتا زخور بخش وانعقد الخوف في حلقه. توجه إلى المهاجمين
يخاطبهم متهتها:
- اسمعوا أيها
السادة! كل شيء هنا تحت تصرفكم. خذوا ما تشاءون. شيء واحد فقط .. اسمعوا
...
ولكون زخور بخش
مثقفا حقيقيا كان يفترض أنه سيقوم على الفور بتوضيح كل شيء لهؤلاء الناس بطريقة جد
مهذبة ومفهومة وأنهم سيستمعون إليه ويفهمون ... شبك راحتيه وضمهما إلى صدره بضراعة.
سكت بعضهم لكن الآخرين تعالى زعيقهم أقوى مما في السابق.
لقد صعد الدم إلى
رءوسهم وفقدوا القدرة على استيعاب أي شيء.
- خذوا، أيها
السادة، كل شيء، كل ما في هذا البيت. إنما استحلفكم أن تتركوا لي كتبي، مخطوطاتي ..
لقد أمضيت السنين الطويلة أجمعها وأرتبها. لا تمسوها بحق الله. إنها ثروتي
الوحيدة.
ثم انفجر في زعيق
هستيري:
- انظروا، هؤلاء
هم الشعراء نيرالا، بانت، قتهديوي! - كان يصرخ كالمجنون - ها هي روايات بريمتشاند،
ومجموعة أعمال بريندافنلال فارما .. أنا أعرف نجاغافاتي وناغار .. هذه هي كتبهما..
جمعتها بعد جهد طويل .. حافظت على كل حرف فيها .. لا تمسوا مخطوطاتي .. ترجمت
"غلستان" إلى الهندية.
صفعه أحدهم على
وجهه فنشج وصمت. وامتدت على الفور بضع أيد أمسكت بزخور بخش وجرته إلى الخارج. "هذا
ما كان ينقصنا، يكتب بالهندية، الكلب ابن الكلب" - تناهى إلى سمعه وفقد
الوعي.
نهبوا البيت.
أخذوا كل ما وقعت عليه أيديه: حقائب، لوازم سرير، أواني مطبخ، أثاث، وسحبوه إلى
الخارج. لم تكن الكتب تلزمهم، ومع هذا أبادوها فيما بعد.
تذكر زخور بخش
زوجته وابنتيه بعد أن عاد إلى وعيه فندت عنه صرخة تمزق نياط القلب:
- ما الذي
اقترفته بحقكم؟! دفعوه فسقط على وجهه على العشب. شب اللهب واندفع الدخان من النوافذ
ومن الباب المحطم.
- فليشكرنا لأننا
لم نجهز عليه شخصيا، مسلم ابن ..!
انطلق الجمهور
وهو يطلق القهقهات والزغاريد والشتائم تتخللها الابتهالات إلى الإله شيفا مندفعا
إلى بيت الضحية التالية.
كان زخور بخش يقف
دون حراك عند البيت، أمام اللوحة المريعة لهلاك بيته ومكتبته. كانت القشعريرة تهزه
هزا. واستدار ينوي الابتعاد لكنه ما لبث في اللحظة التالية أن اندفع إلى البيت وأخذ
يسحب الكتب والمخطوطات لإنقاذها من النار وكأنها كائنات بشرية حية. كان هو نفسه كف
عن كونه موجودا، ولم يبق إلا حبه للكتب يشده إلى الحياة. لا يذكر كم مر من الوقت
إنما لم يكن بوسعه التسليم بأن تهلك أمام عينيه. كان ما يني ينتشل الكتب ويسحبها
وهو يلهث ويكبو من التعب والإجهاد إلى أن تشيط جلد يديه ووجهه وضاقت رئتاه بالدخان.
إذ ذاك أقعى على الأرض يكاد لا يقوى على سحب نفسه وأمسك رأسه بيديه. ذاك القليل مما
تمكن من انتشاله باد وقد داسته الأقدام. أحدهم ركل بكل قوته ركلة فطارت " شاكونتالا
" لكاليداسا جانبا، وقذف آخر ب "بقرة الفداء" لبريمتشاند في الطين. تناثرت
المخطوطات وتمزقت أوراقها. كان زخور بخش يشاهد ما يجري وحلقه يغص تشنجا .. بدا له
هذا رقصة أبالسة يوم القيامة! هلك كل شيء .. مزق ورق بائسة محترقة. هذا ما صارت
إليه ثمرة ثلاثين عاما من العمل الدءوب المتغاني. كان يحافظ على هذه المخطوطات
وكأنها بؤبؤ العين وكان يقرأ هذه الكتب ويحافظ عليها وكأنها أشياء مقدسة، فهي أيضا
تنطوي على مأثرة ..
وها هو ذا يقف
فوق رماد بيته مستندا إلى الحائط الذي سلم من النار. أمامه فوق المرجة عشرات الأسر
التي فقدت مأواها تتهيأ لقضاء ليلها وسط عفشها وحوائجها المنزلية والزبل وغبار
الطريق. عينا زخور بخش المفتوحتان على اتساعهما تحدقان في الفراغ.
على هذه الحال
رأيناه نحن بدورنا. ونحن هم مجموعة صحفيين وشخصيات سياسية واجتماعية من أنصار
العلمانية. كان من مهمتنا التعاطف مع البؤساء الذين لم يعد يحميهم سقف، وتشجيع
العاملين على إسداء العون للمتضررين.
حين تبينت زخور
بخش أسرعت نحوه وأنا أخرج مفكرتي الصحفية.
- أنت كاتب أليس
كذلك؟ - بدأت مقابلتي - تكتب قصصا بالهندية؟ أنت هو صاحب المختارات المترجمة
للسعدي؟
مست ابتسامة
واهنة شفتيه. رفع إلي عينيه وخفضهما للحال وكأنه رأى أمامه فيشفيشفار.
- كتبت كل ما
استطعت كتابته من قصص .. وهذه هي قصتي الأخيرة.
وغمغم أيضا بشيء
ما لكني لم أتبينه. الأرجح أنه كان يقصد قصة حياته التي آلت إلى هذه النهاية
المفجعة.
كانت الأوراق
المحترقة مازالت تتطاير فوق العشب أمام البيت. انحنى أحد رفقائي ورفع عن الأرض
مجلدا متسخا داسته مئات الأقدام الهاربة . وعرفت فيه "راميانا" (بحر مآثر راما)
لتولسيداس. كانت حواشيه مرقوشة بالملاحظات كأن من أمسك هذا الكتاب بين يديه لم
يقرأه وحسب بل أودعه أفكاره.
كانت المدينة لا
تزال تئن بعد مضي أيام كثيرة على خمود الحرائق وكأنها وحش يلعق جراحه. لكن ها قد
أخذت الأبواب تنفتح والجوع يطرد الناس من مخابئهم مجبرا إياهم على تجاوز انسحاقهم
ورجوعهم شيئا فشيئا. أخذت المخازن تفتح أبوابها والبنايات يعاد إصلاحها والقاذورات
ترفع. كان يجب أن تأخذ الحياة مجراها بشكل أو بآخر. وليس في أي مكان بل هنا على هذه
الأرض بالذات. لن يستمر التذابح مدى العمر .. بدت الآن تلك الأيام الخمسة من
المذابح كابوسا. أخذت تسمع الآن في الطرقات ضحكات الأطفال من جديد. كانت الحياة
تستعيد مجراها وتفتحت براعم الأمل في قلوب الناس من جديد: انحسرت إلى الأبد تلك
الغمامة المخيفة التي لا يدرون من أين دهمتهم. عانى المسلمون والهندوس معا ما عانوه
على أيدي المتطرفين. هذا شيء يجب ألا يتكرر بعد الآن. وسيفهم الناس أخيرا أي أذى
مخيف يلحقونه بأنفسهم وببلدهم العاثر الحظ.
مر عامان تقريبا.
ووصلنا إلى المدينة إياها لعقد ندوة مكرسة لمشاكل التناحر الطائفي والديني. كان علي
أن أقدم تقريرا، فمنذ عدة سنوات وأنا أهتم بهذه المسألة: ذهبت إلى مكان الأحداث،
تحدثت إلى المشردين وطرحت عليهم أسئلة دقيقة وشاملة، وتجمعت لدي من هذا كله مادة
وفيرة. وكان بمقدوري أن أتكلم في هذا الموضوع وأنا على معرفة كاملة به. كان في
مجموعتنا أيضا عاملون اجتماعيون، حين توقفت السيارة عند أحد تقاطع الطرق أحاط بها
الناس على الفور - بعضهم اقترب منها فضولا وبعضهم شاكيا. استمعنا إليهم وأكدنا لهم
أن الحكومة تدرس حاجاتهم، وأوصيناهم ونحن نودعهم بأن يلتزموا بمبادئ
العلمانية.
حين تحركت
السيارة خرج إلى مقدمة الصفوف شخص وسار ببطء إلى جانب السيارة لامسا بيده غطاءها
كان هناك انطباع بأنه يريد أن يلقي بنفسه تحت العجلات. أسرع الذين لاحظوا ذلك
ودفعوا بزخور بخش بعيدا. كان هو بالذات وقد عرفته على الفور. نفس اللحية الصغيرة
لكنها شابت كثيرا، ونفس الشعر المنكوش ونفس النظرة الجامدة . أردت أن أوقف ا لسيارة
وأتحدث إليه: في ذلك اليوم المشئوم لم يحك لي شيئا، لكنه الآن يعاني بالتأكيد، عاد
إلى رشده. كانت قد تناهت إلي أخبار عن أن زخور بخش سيعطى مسكنا
بالتأكيد.
التفت وتجمدت من
الدهشة : كان زخور بخش يقف وسط الشارع يترنح وهو لا يعي، على ما يبدو، أين هو وما
به.
- هذا زخور بخش،
يا صاحبي، - قال لي أحد النشطاء المحليين. إنه ليس بتمام عقله. يبدو أنه
جن.
لعل زخور بخش
أراد أن يتحدث إلي، أن يحكي لي شيئا. فهل تراه عرفني؟ على أي حال كان ينظر ناحيتي
وأطال النظر .. كان شعره المنفوش وثيابه الممزقة تحكي عوضا عنه قصة حزينة - آخر قصة
في حياة كاتب.
لم ألقه بعد ذلك.
وبعد وقت قصير عرف أن زخور بخش لم يعد في عداد الأحياء.