ما الفائدة من غزو الفضاء؟ نضال قسوم

ما الفائدة من غزو الفضاء؟

عندما يوضع مشروع فضائي معين، سواء إطلاق أقمار صناعية أو استكشاف كوكب أو هبوط على سطح القمر أو غير ذلك، غالبا ما تظهر حاجيات تقنية معينة غير متوافرة في التكنولوجيا المتداولة حينئذ. فمثلا قد يحتاج الأمر إلى جهاز لتصفية هواء المركبة بسرعة وكفاءة عالية وإلى مقياس دقيق لدرجة الحرارة أو كاشف للبكتيريا والجراثيم أو حاسوب صغير الحجم أو غير ذلك. فيتم تطويرها خصيصا لذلك المشروع. ولكن فور أن ينجح التقنيون في إنجاز ذلك يتفطن الكل إلى تطبيقات ممكنة لهذه الابتكارات في الحياة العادية، فيتم بذلك الاستفادة من المشاريع الفضائية بشكل غير مباشر. وعدد هذه الاستفادات غير المباشرة كبير جدا، وقد أحصيت خلال البحث والتحضير لهذا المقال ما لا يقل عن 100 جهاز أو تقنية، بعضها في منتهى الأهمية.

وقد بدا لي أنه يمكن تقسيم مجالات الاستفادة هذه إلى ثلاثة: الطب، والحياة اليومية، والتقانة. وسأقدم في كل مجال عددا من تلك الاستفادات مع شرح مختصر لها وللمشروع الذي صدرت عنه.

صحة البشر

1 - تحديث التصوير بالأشعة السينية Fluoroscan X تم ابتكار أول جهاز متنقل للكشف السيني صغير الحجم (لا يزيد على 60 سم طولا وعرضا وارتفاعا ولا يزيد عن 5 كجم وزنا) ودقيق التصوير، بأحد مراكز "ناسا"، وقد اعتمد الآن في أكثر من 500 مستشفى أمريكي، حيث يمكن نقله بسهولة وبسرعة من غرفة لأخرى، بل يمكن حمله داخل سيارات الإسعاف وتشغيله بالبطاريات.

بل أكثر من ذلك أن نظام التصوير الجديد هذا فريد من نوعه، إذ لا يحتاج إلى الأغطية الرصاصية والجدران المدعمة بالرصاص ولا حتى إلى الأفلام المعتادة، إذ يرسل صوره على الشاشة مباشرة وفورا.

2 - التصوير الرقمي للجسد: طورت تقنية معالجة الإشارة الرقمية في أول الأمر في أواسط الستينيات بمركز JPL الشهير التابع لوكالة "ناسا" بغرض استعمالها ضمن مشروع أبوللو، من أجل تصفية صور القمر بالحاسوب. وسرعان ما انتشرت هذه التقنية ليتعمم استعمالها في مجالات متنوعة مثل الأقمار الصناعية والطب والفلك والأفلام الترفيهية وغير ذلك.

وفي المجال الطبي تستعمل هذه المعالجة اليوم خاصة في تقنيات التصوير الشعاعي الطبقي ( CAT scan, CT ) والتصوير المغناطيسي الرنيني، وكلها تحول إشاراتها (Xفي الأولى وراديوية - مغناطيسية في الثانية) الملتقطة إلى الحاسوب لمعالجتها.

3 - الفيديو الحراري: قامت "ناسا"، بالتعاون مع بعض المؤسسات الأخرى - بعضها عسكري - بتطوير أجهزة التقاط للأشعة ما تحت الحمراء، مما يسمح بالكشف عن وجود أي جسم حراري وتعرف التغيرات الحرارية فيه وحواليه. وسرعان ما تم تطبيق هذه التقنية في المجال الطبي لابتكار جهاز يستطيع الكشف عن أدنى التغيرات الحرارية في الجسم.

4 - نظام التطوير الرقمي للقلب: عندما احتاجت الأقمار الصناعية المخصصة للاستشعار عن بعد، وبالتدقيق مجموعة "لاندسات" Landsat، منذ حوالي 15 سنة طورت "ناسا" نظام تصوير رقمي دقيق يعطي صورا في غاية من الصفاء، وسرعان ما نقل الإنجاز إلى المجال الطبي، حيث صار يستعمل في تصوير الشرايين القلبية للحصول على "أفلام" توضح بدقة أي انسداد أو اختناق في تدفق الدم، مما يسمح بمعالجة المشكلة قبل حدوث سكتة أو جلطة قلبية.

5 - مقياس الحرارة بالأشعة ما تحت الحمراء: يستخدم حاليا مقياس لدرجة الحرارة مصمم بمبدأ التقاط الحرارة (وهي أشعة ما تحت الحمراء) التي تنبعث من غشاء الأذن، وهي تقنية تعود إلى تكنولوجيا طورت أصلا للاستعمال في الرحلات الفضائية. وتكمن الفائدة الأساسية في هذا الجهاز في سرعته الفائقة في القياس، إذ يعطي درجة حرارة الجسم في أقل من ثانيتين وبدقة عالية.

6 - حبوب درجة الحرارة: في هذه التقنية، المشتقة أيضا من تطويرات ذات غرض فضائي، يبتلع المريض "حبة"، هي في الحقيقة جهاز مصغر، مشكل من كبسولة سيليكون ونظام إرسال وبطارية ومقياس لدرجة الحرارة ببلور الكوارتز. وتقوم الحبة بقياس الحرارة في باطن الجسد وإرسالها إلى الجهاز المركزي الخارجي، وتستطيع تكرار العملية كل 30 ثانية، مما يسمح بالحصول على معلومات جوهرية حول فاعلية دواء معين مقدم للمريض. ويتم حاليا تطوير "حبة" مماثلة تستطيع قياس الحرارة ونبض القلب والضغط الداخلي وحمضية الجسم في آن واحد.

7 - فتح انسداد الشريان بالليزر: في يناير 1992 أعطت الإدارة الأمريكية للأغذية والأدوية موافقتها على استعمال جهاز ليزر خاص لأغراض طبية، كان في الأصل طور للاستعمال في الأقمار الصناعية المخصصة لدراسة الغلاف الجوي للأرض، بحيث تجرى به عمليات فتح الشرايين التي تترسب فيها وتتراكم الدهون إلى حد الانسداد، مما يستلزم عادة عملية جراحية تفتح الصدر وتوسع الشريان المتلف. وباستعمال جهاز الليزر هذا، الذي يقوم بـ "حفر" السد وتبخير مكوناته، يستطيع الأطباء حل المشكلة دون المس بالجسم بتاتا.

8 - جهاز متقدم لضبط النبض القلبي: استفاد الأطباء من نظام اتصال دقيق بين الأقمار الصناعية والمحطات الأرضية فطبقوه على أجهزة متقدمة لضبط النبض القلبي، بحيث يتم تعديل الجهاز المزروع داخل الجسد ليقوم بتسيير القلب بشكل أكثر فعالية بالنسبة لكل مريض. وقد اعتمد هذا النظام الجديد في المستشفيات الأمريكية منذ أغسطس 89.

9 - مضخات داخلية وخارجية: انطلاقا من تصميم للمخبر البيولوجي الذي وضع على متن المركبة "فايكنج" التي أرسلت إلى المريخ في أواسط السبعينيات، تم تطوير مضخات آلية مبرمجة لمراقبة مستويات السكر عند الذين يعانون من مرض السكر، فيكون الجهاز عبارة عن بنكرياس إلكتروني يرسل جرعات محددة من الأنسولين كلما احتاج الجسد إلى ذلك. وبالتالي يتحرر المريض من أعباء المتابعة والمراجعة بالمستشفى، إذ لا يحتاج إلا إلى تعبئة الجهاز، ويكون ذلك 4 مرات فقط في السنة، ولا يحتاج ذلك إلى جراحة.

10 - مدرب الرؤية: أجرت "ناسا" منذ أكثر من 20 سنة دراسات مكثفة للعين والرؤية من أجل معالجة رواد الفضاء الذي يصابون تدريجيا بقصر النظر أو طول النظر، فأنجزت جهازا جديدا لقياس خطأ الانكسار في العين. وطور أحد الباحثين هذه النتيجة الأولية المهمة فابتكر نظام "تدريب الرؤية" الذي يدعى Accomotrac Vision Trainer، يقول الأخصائيون إنه باستطاعته معالجة 150 مليون أمريكي ذوي خلل في النظر.

11 - كاشف الجراثيم: انطلاقا من بحوث مخصصة للرحلة فوياجر (التي أرسلت إلى أطراف المجموعة الشمسية)، حيث كان يراد الكشف عن احتمال ظهور جراثيم وبكتيريا داخل المركبة، صمم الأخصائيون نظام تحليل آلي يدعى Automicrobic System هو أسرع بكثير من الطرق العادية، التي تستلزم عدة أيام في معظم الأحيان. كما يسمح النظام الآلي بتقليل نسبة الأخطاء البشرية ورفع مردودية مخبر التحليل. ويمكن استخدام هذا النظام أيضا في مخابر تحليل الأغذية، خاصة تلك التي تحتاج إلى تعقيم وتطهير.

12 - جهاز مراقبة النبض القلبي: وهو جهاز مصنوع من شريط عازل رقيق بغرض مراقبة دقات القلب، وقد ولد هو الآخر من مشاريع فضائية.

13 - نظام تقويم الضرر بالجلدة: تطبيقا لتكنولوجيا فوق - سمعية طورتها "ناسا" لغرض دراسة غلاف المركبات، تم تطوير هذا النظام في المجال الطبي وصار يستعمل - لسرعته العالية - منذ ديسمبر 1990 في حالات الحرق للجلدة البشرية.

من الطقس إلى مكافحة الحرائق

في المجالات المتنوعة للحياة اليومية يمكننا أن نرصد:

1 - معالجة المعلومات الطقسية: صارت أنظمة متابعة التقلبات الطقسية تمثل جزءا مهما من حياتنا، خاصة في الحالات الحادة والخطيرة مثل مجيء الأعاصير وما شابهها. وكانت "ناسا" قد طورت منذ حوالي 30 سنة نظام معالجة المعلومات المسجلة من طرف الأقمار الصناعية الموضوعة لهذا الغرض، وسمي Metpak ثم عمم النظام هذا ووسع انتشاره واستخدامه في أمريكا ويعرف الآن تحت اسم Metro، وهو أبوالأنظمة المستخدمة في جميع المحطات الجوية عبر العالم.

2 - الطاقة الشمسية: كلنا صار يعرف الطاقة الشمسية وفوائدها، ولكن القليل منا ربما يدرك أن أول التطويرات والاستخدامات لتقنية التحويل الفوتوفولطي (من الطاقة الشمسية إلى الطاقة الكهربائية) تم ضمن المشاريع الفضائية التي أشرفت عليها "ناسا"، إذ تفطن الأخصائيون إلى أن المركبات الفضائية إذا ما زودت بلوحات (خلايا) شمسية باستطاعتها الحصول على جل الطاقة التي تحتاج إليها في شتى وظائفها.

3 - تكنولوجيا الليزر: لم تخترع "ناسا" جهاز الليزر بالطبع - كما يعلم الجميع - وإنما وضع مهندسوها تصميم وتركيب الليزر المدمج، أي ذي الحجم الصغير جدا، كما تفرضه شروط الرحلات الفضائية. وبالفعل تم تطوير الميكروليزر ما تحت الأحمر المضخ بالدايود والميكروليزر الأخضر سنة 1988، وكلاهما نتيجة مشروع تطوير ميكروليزرات بمركز JPLمن أجل الاتصالات الضوئية عبر مسافات كوكبية (بعيدة).

ويشمل تطبيق واستعمال الليزرات المدمجة شتى مجالات الحياة اليومية، من قراءة وطباعة الأفلام وتفريق الألوان في الأجهزة التخطيطية، إلى أجهزة الإسقاط التلفزي، والاتصالات، والتخزين في الذاكرات الضوئية، التحاليل والقياسات الضوئية.

4 - الذراع الآلية (الروبوت): شرعت "ناسا" في تطوير أذرعة آلية ذات قدرات واستخدامات واسعة سنة 1982، وتمكن أحد المهندسين من ابتكار ذراع ذات مواصفات جد عالية فألقى عليها اسمه "سالسبري" Salisbury. وتستطيع الذراع تحريك الأجسام في كل الاتجاهات، بل تستطيع استعمال الأصابع بشكل جد متناسق. ولهذا التطوير الباهر أهمية بالغة في المصانع الآلية حيث يحتاج الأمر إلى أذرعة ذات مهارات عالية للقيام بمهام تصعب على الإنسان أو تهدده بأخطار أو تتطلب منه وقتا طويلا.

5 - الأدوات غير الموصلة كهربائيا: كانت "ناسا" أولى مؤسسات البحث التي سعت في فترة الستينيات إلى تطوير أدوات وأجهزة تشغيل دون الحاجة إلى إيصال كهربائي، وذلك لظروف الرحلات الفضائية مثل أبوللو، حيث يحتاج الرواد إلى حفر السطح في مواقع بعيدة عن المركبة واستخراج قطع صخرية معينة. وكذلك كان الرواد يحتاجون إلى عدد من مثل هذه الأدوات للاستعمال خلال الرحلة وفي التجارب التي يقومون بها.

6 - الكيبل المسطح: في السعي المستمر إلى تقليص حجم كل ما يحمل على متن المركبات الفضائية، قام مهندسو الفضاء بتصميم كيبل توصيل كهربائي جد رقيق، لا يزيد سمكه على نصف مليمتر. ومن فوائده التقليل من الحجم والوزن للأسلاك، خاصة وأن العدد الكبير من الأجهزة في المركبة يجعل كمية الأسلاك عظيمة، ومن مزاياه أيضا أنه يركب على الجدران مباشرة ولا يحتاج إلى إدماج داخل الجدار أو السقف.

7 - كرسي دولاب (أو عربة) متطور: قام المهندسون بمركز لانغلي Langleyللأبحاث الفضائية بتصميم كرسي دولاب للمعاقين ذي مواصفات عالية من حيث خفة وزنه وسهولة تحريكه وتوجيهه. وتم ذلك فعلا باستعمال مواد خاصة تعتمد عادة في تصميم المركبات الفضائية، وكانت النتيجة كرسيا لا يزيد وزنه على حوالي 10 كجم (عوض حوالي 25 كجم في العادة) دون التفريط في قوة تحمل العربة أو في قابليتها على الانطباق أو التحريك بسهولة. ويقدر عدد المحتاجين المستفيدين من هذا الابتكار بحوالي مليون معاق في أمريكا وحدها.

8 - نظام تحكم في السيارة للمعاقين: في 1972 شاهد توم فرتز، وهو معاق مقطوع الساقين ومشلول الجسد، رواد فضاء أبوللو وهم يقودون العربة القمرية بيد واحدة، باستعمال قضيب التحكم (عوض مقود). فكتب إلى الوكالة الفضائية شاكيا أمره وراجيا منها مساهمة في تحسين حياته، وكان ذلك بالفعل مع تطوير جهاز التحكم Unistikالذي يسمح بقيادة السيارة كلية، من الانطلاق إلى التوقف مرورا بالاستدارة وتغير الاتجاه، بفضل زر واحد. بل يمكن إلغاء الجهاز تماما والعودة إلى نظام الاشتغال العادي للسيارة فور الضغط على زر، وبذلك يمكن استعمال نفس السيارة من طرق المعاقين والمعافين.

9 - حاسوب قارئ للمكفوفين: قامت شركة "تيليسنسري" Telesensoryمنذ حوالي 20 سنة بتطبيق تقنيات مشتقة من تكنولوجيا الفضاء للسماح للمكفوفين بقراءة ليس فقط خط البراي بل كل ما هو مطبوع. وفي سنة 1989 أخرجت نفس الشركة جهازا، هو الآخر يقوم على تقنيات فضائية، يجعل المكفوفين قادرين على الحصول على النص المكتوب وأيضا على المعلومات الواصلة عن طريق الحواسب.

10 - مكافحة الحرائق بتكنولوجيا الفضاء: استخدمت الأنابيب والأسطوانات الخفيفة المصممة أصلا للفضاء لصنع أجهزة ووحدات كاملة لمكافحة الحرائق وقابلة للنقل بسهولة. كما طورت ألبسة خاصة ومواد كيميائية وأنسجة مقاومة للحريق، وأيضا جهاز التنفس الذي يرتديه اليوم معظم رجال المطافئ في أمريكا وهو مشتق مباشرة من جهاز التنفس الذي كان يرتديه رواد فضاء أبوللو على القمر.

11 - أنظمة التصفية للهواء والماء المستعمل: يجري منذ حوالي 20 سنة في أحد مراكز "ناسا" تطوير أنظمة تصفية للهواء والماء المستعمل من أجل إعادة استعمال متكررة خلال رحلات فضائية طويلة (والرحلة إلى المريخ المجاور تستغرق حوالي 3 سنوات ذهابا وإيابا!). وقد نجح الباحثون في هذا الصدد إلى حد بعيد، حتى أن شركتين أمريكيتين شرعتا في تسويق مثل هذه الأنظمة سنة 1988.

12 - عدسات ونظارات موقفة للأشعة: استفادت تكنولوجيا العدسات من الأبحاث التي تمت لأهداف فضائية، إذ يمكن الآن صنع عدسات تعكس 99% من الأشعة الضارة. ولكونها أكثر تحملا للخدش فإنها تدوم فترة 10 مرات أطول من معظم العدسات البلاستيكية المتوافرة اليوم.

في مجال التقانة

1 - التحليل الرقمي للصور: قبل رحلة أبوللو 11 التاريخية، ومن أجل إيجاد أفضل موقع لهبوط المركبة على القمر، أرسلت "ناسا" عددا من المركبات دارت حول القمر وقدمت ما يزيد على 17000 صورة. وبرغم أن الصور كانت عالية الدقة فإن معظمها كان يعاني من عيب ما (قلة أو كثرة إضاءة، تمدد، تشتت، تأثر بالأجهزة الإلكترونية للمركبة، إلخ ..)، الشيء الذي استدعى ابتكار وتطوير طرق متقدمة من معالجة الصور باستعمال الحواسب. وصارت اليوم هذه التقنية منتشرة، من التحكم في نوعية الإنتاج الصناعي إلى تحسين صور الأفلام الترفيهية، مرورا بصور المجهر الإلكتروني والأشعة السينية وتصوير الدماغ والقلب وغير ذلك.

2 - الحاسوب المتنقل: إن أول حاسوب متنقل في العالم، ويدعى Gridصمم وأنجز من طرف الوكالة الفضائية الأمريكية، ثم طور ليصير SPOC، الحاسوب المتطور والسريع إلى حمله المكوك الفضائي في رحلة نوفمبر 1983. واستلزم ذلك تطوير قطع Hardwareخاصة وبرامج وأنظمة معالجة المعلومات Softwareمن نوع جديد. واليوم نرى حواسب سريعة ومتطورة لا تفوق في الحجم كتابا متوسطا، ولكن قليلا من يدري أن ذلك من فوائد البحوث الفضائية.

3 - الواقع شبه الحقيقي: كتب الكثير أخيرا عن "الواقع شبه الحقيقي" ( Virtual Reality )، أو ما يترجم عادة - خطأ في نظري - بـ "الواقع الافتراضي"، إذ هو إحدى الثمار الواعدة لثورة المعلومات التي نعيشها حاليا. ولكن قليلا ما يذكر أن من أوائل أنظمة الواقع شبه الحقيقي التي تم تطويرها هو نظام Viewالذي أنجز بمركز "إيمز" Amesالتابع للوكالة الفضائية الأمريكية، وذلك في أواسط الثمانينيات. ويسمح هذا النظام، عن طريق القفاز الحساس بأي حركة لليد أو الأصابع، باستكشاف "واقع" أو "عالم" يوفره الحاسوب على الشاشة فيتمكن المستعمل من التفاعل معه وكأنه جزء منه. وقد تطورت التقنية الآن إذ توضع خوذة رأسية، وأحيانا بذلة مطاطية على الجسم كله، ويصبح المستقبل جزءا شبه كامل من ذلك "الواقع". وتعد هذه التقنية فور استكمال تطويرها، بثورة ذهنية شاملة، من التطبيقات التي لا حصر لها إلى مجال التعليم والترفيه الواسعة.

كما نرى، فإن الإنسانية قد استفادت الكثير من المشاريع الفضائية، بطريقة غير مباشرة في أول الأمر، إذ قلما يبقى أي تطوير أو ابتكار في مشروع فضائي ما محصورا في ذلك المجال ولا يتم توسيعه والاستفادة منه في مجالات الحياة الأخرى.

لكن هل ثمة استفادة مباشرة من تكنولوجيا الفضاء في حياة البشر؟ بتعبير آخر، هل هناك بحوث تجرى الآن في الفضاء لا يمكن القيام بها على الأرض وتعود على الإنسان بخير كبير؟ نعم، هناك ميدان واسع من مثل هذه الأبحاث وهو ما يسمى مجال "الجاذبية الضعيفة" Microgravityوتطبيقاته.

الأبحاث الحالية

يعد ميدان "الجاذبية الضعيفة" من أبرز مجالات الأبحاث العلمية الحالية على الإطلاق وهو يعد بنتائج مهمة خلال العقود الآتية.

من المعروف أن الجاذبية تتضاءل كلما ارتفعنا عن الأرض، فتصير ضعيفة جدا في الفضاء القريب وشبه معدومة في الفضاء البعيد. وانعدام الجاذبية يسمح بدراسة المادة (الجامدة أو الحية) وتفاعلاتها في ظروف خاصة، أي في حالات التحرر من تأثيرات الجاذبية. وتنقسم مجالات الدراسة للمادة في "الجاذبية الضعيفة" إلى ثلاثة ميادين عموما: الموائع، البيولوجيا، الفسيولوجيا. ونود تقديم لمحة وجيزة عن مواضيع الأبحاث في كل من هذه المجالات، برغم أن هذا الأمر يستلزم مقالا مفصلا بذاته.

أ - دراسة الموائع: يهتم العلماء بالموائع لأسباب عدة، فهي مهمة في عمليات الحياة، من تدفق الدم في عروقنا إلى انتقال تيارات الأكسجين في الغلاف الجوي. وعلى صعيد آخر، نجد الموائع أساسية في جوانب تقنية من حياتنا اليومية، من السيارات إلى السباكة والإضاءة الغازية. وهناك أبحاث فضائية عديدة تعد بتطوير فهمنا لظواهر الموائع، من انتقال الحرارة إلى الجاذبية الشعرية ( Capitlarity ) والنقل الناشر وتدفق الأطوار المتعددة وديناميكية مستوى السطح البيني للمائع مع الجزء الصلب، وغير ذلك من المواضيع المهمة.

ب - التقنيات البيولوجية: تشمل هذه التقنيات ثلاثة مجالات رئيسية هي: نمو البروتينات البلورية واستنبات الخلايا الحيوانية وأساسيات الهندسية البيولوجية.

أما نمو البروتينات البلورية فيهدف إلى تحسين معرفتنا للتركيبات البيولوجية الجزئية والآليات التي من خلالها يتم تكوين بلورات من طرف الجزئيات البيولوجية الكبيرة.

وأما استنبات الخلايا الحيوانية فمفاده تحسين نماذج تكاثر الخلايا ونمو الأنسجة بعيدا عن تأثير الإجهادات الميكانيكية، مما يسمح بدراسة أدق للأنسجة المريضة والورم والخلايا المريضة وتكاثرها، ومثل هذه المسائل الجوهرية التي لا تزال عالقة ومستعصية على العلماء.

جـ - مجال الفيزيولوجيا: تولي الأبحاث الفضائية عناية خاصة بالعمليات المختلفة التي يقوم بها القلب والرئتان، وبنمو وحفظ العضلات والعظام، وأيضا بكل ما يتعلق بوظائف المخ (الإدراك، التعلم، التوازن)، ثم عمليات التنظيم للجسد وأعضائه المختلفة.

مناقشة

بعد هذا العرض الطويل للتطبيقات المختلفة التي استفادتها الحياة المعاصرة من المشاريع الفضائية وللأبحاث والتجارب المبرمجة حاليا ومستقبليا في مجال تكنولوجيا الفضاء، نود العودة إلى بعض الأخصائيين العاملين في الميدان للتعرف على آرائهم حول مسألة "الفائدة" من غزو الفضاء.

ترى مولي مكولي Molly Macauley، وهي باحثة في معهد "الموارد المستقبلية بواشنطن"، أن الفائدة الحقيقية للمشروع الفضائي البشري يجب البحث عنها في التطبيقات والاستفادات المختلفة (التي عرضناها سابقا)، لأن هذه التطبيقات التكنولوجية يمكن في الحقيقة الحصول عليها من مشاريع "بحث وتطوير ( R&D )" مخصصة مباشرة لتلك الأهداف، ويكون ذلك بتكاليف أقل في معظم الأحيان. وفي نظرها فإن الفائدة من غزو الفضاء تكمن في جوانب صعبة التقييم، منها الرقي الفكري للمجتمع وارتفاع سمعة البلد بين الدول واتساع نفوذ الدولة الجيوسياسي، وأيضا المتعة التي نحصلها من جراء هذه المغامرة البشرية الكبرى. ويوافق كارل سيجن Carl Sagan، الخبير الفضائي الشهير، مولي مكولي في رؤيتها لغزو الفضاء، ويضيف أن الفائدة والهدف الرئيسيين لهذا المشروع المهم إنما يتمثل في استعمار الفضاء من طرف الإنسان، وأن هذا هدف مصيري يفرضه تطور البشرية والبيئة الأرضية، إذ لن يبقى كوكبنا قادرا على حملنا وتوفير الحاجيات لنا آلاف السنين بعد الآن. ويقول ريتشارد دي لومبارد Richard de Lombard، وهو مدير أحد مراكز تطوير تكنولوجيا الفضاء في "ناسا"، إن كثيرا من الناس يعتبرون المشاريع الفضائية رفاهية وتبذيرا ويرون أنه من الأجدى للإنسانية أن تنفق هذه الأموال والميزانيات من أجل تغذية وعلاج المحتاجين، بل هناك من كتب أن هذه المغامرات "الرحلات" الفضائية، إذا ما وضعت في صورة واحدة مع تلك الأجساد النحيفة والبطون الفارغة، فإن تلك المشاريع الفضائية ستبدو ليست فقط تبذيرا كريها، بل هي فعلا وصمة عار في جبين الإنسانية. ويعلق دي لومبارد على مثل هذه الآراء فيقول: إن طبيعة شغلي تجعلني أتعامل مع خبراء في علوم الفضاء يعرفون أمثلة حقيقية مهمة لتطبيقات غزو الفضاء. ومن هذه الأمثلة - التي أعتز بها شخصيا - أن الأقمار الصناعية قد سمحت وتسمح يوميا بتتبع زحف ال صحاري على الأراضي الخصبة ومدى نمو المزروع في منطقة معينة واحتمال حدوث أعاصير أو زوابع أو فيضانات في بقعة ما، وكل ذلك يساهم في تغذية الملايين وحمايتهم والتقليل من المجاعات والكوارث الإنسانية. وفي نفس السياق يلاحظ دانيال جولدن Daneil Goldin، المدير العام الحالي للوكالة الفضائية الأمريكية، أن الأمريكيين يصرفون بلايين الدولارات سنويا على البيرة والدعارة وأمور أخرى "جد مفيدة!"، ثم يأتي بعضهم ويحتجون على "تبذير" 0.25 من مجموع الدخل العام، تلك الميزانية الضئيلة التي تمثل - على حد تعبيره - استثمار أمته في مستقبل الإنسانية.

ويستشهد في آخر الأمر بقول ثيودور روزفلت ملخصا المسألة فيما يلي: إنه من الأحسن ببعيد أن نتحدى الصعاب ونصبو إلى الأهداف العلا، فنحقق انتصارات عظيمة وإن كانت منقطة بانتكاسات مرحلية، من أن نرضى بالقعود مع الخوالف، مع تلك النفوس والأذهان الفقيرة التي لا تعاني ولا تتمتع كثيرا لأنها تفضل العيش في منطقة الغسق التي لا تجد فيها انتصارا ولا هزيمة.

توصيات

أولا نود تأكيد أهمية مجال الفضاء في تربية النشء وتوجيهه نحو العلوم والاكتشافات. إن ابني الذي لا يزيد عمره على أربع سنوات، يحب أكثر ما يحب مشاهدة أشرطة الصواريخ والرحلات والكواكب، بل يعرف أسماء وأشكال عدد منها ويملك - بعدما كثر إلحاحه علينا - عدة مجسمات طبق الأصل للمكوك الفضائي. وتكفي الزيارة إلى أي قبة سماوية والنظر إلى الأطفال حين مشاهدة العرض أو بعده للاقتناع بأنه من أكثر المجالات تأثيرا على مخيلات الأطفال والشباب. ولا أظن أن أحدا منا شهد هبوط نيل آرمسترونج على سطح القمر أو خروج ري مك كاندلس من المكوك وتحريكه بكرسيه المستقل، لا أظن أن أحدا شاهد تلك الصور قد ينساها ما لم يحقق الإنسان إنجازات أعظم وأكثر عجبا!

واليوم وقد صار الطلبة يشككون في جدوى التخصص في العلوم، بحجة أن المجالات المالية (التجارة، الاستثمار، ومثل ذلك) أكثر تحقيقا للكسب وللعيش السعيد في عالمنا (العربي خاصة)، فإنه من الضروري غرس حب الاكتشاف والمعرفة في نفوس الأطفال، إذا أردنا أن يبقى هناك لدينا شيء من العلم ومن الثقافة.

وعلى الصعيد الرسمي، نقول إنه من الضرورة البديهية أن توحد الأمة (العربية والإسلامية) جهودها في مجال الفضاء، خاصة في إطار النظام العالمي الجديد وتطور الأوضاع في الشرق الأوسط. إذ ليس من الطبيعي أن تواصل إسرائيل إطلاق الصواريخ والأقمار الفضائية (المخصصة لأغراض استراتيجية شتى) الواحد تلو الآخر، وألا يكون للعرب أكثر من قمر مخصص للاتصالات الهاتفية وبعض القنوات التلفزية. بل من العجب ألا يكون للعرب وكالة فضائية مشتركة توحد المشاريع وتطورها ثم تنفذها.

لم يعد الفضاء مجرد "مغامرة" بشرية من أجل مكانة للدول "الكبرى" أو أهداف بعيدة، وإنما تحول إلى ميدان مصيري تثبت الأمم فيه وجودها ومستواها العلمي والفكري. والغياب عن الخريطة الفضائية إنما يعني الاختفاء من الخريطة الحضارية للعالم.

 

نضال قسوم

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




أسئلة كبرى عن الإنسان تجيب عنها الأبحاث عند انعدام الوزن





السباحة في الفضاء.. تجربة كبيرة المغامرة والمردود





التحام أمريكي - روسي في الفضاء.. هل تجني البشرية ثماره؟





محطة دولية كبرى في الفضاء لتعزيز الأبحاث المشتركة