الميلاتونين حسان شمسي باشا

الميلاتونين

من وسط الدماغ إلى واجهة الصيدليات

هناك في وسط الدماغ تقبع غدة صغيرة استحوذت على خيال الفلاسفة وطلاب التشريح لقرون عديدة. حجمها لا يزيد على حجم حبة الذرة البيضاء.

وبرغم أنها أول الغدد تشكلا عند الجنين - إذ تبدأ بالتكون بعد ثلاثة أسابيع من الإلقاح - فإنها آخر الغدد التي تبوح بأسرارها في عالم الطب الحديث. هذه الغدة تسمى "الغدة الصنوبرية".Pineal Gland

وعلى مدى قرون كثيرة، ثارت التساؤلات حول ذلك المكان الاستراتيجي الذي تحتله من الدماغ. فانبثقت نظريات عديدة عند الإغريق والهنود اعتقدت أن للغدة الصنوبرية علاقة بالجانب الروحي للحياة.

وكانت أول إشارة للغدة الصنوبرية قد ظهرت في كتب الهندوس الدينية (Vedas )، رسمت فيها الغدة الصنوبرية على أنها أحد مراكز الطاقة الحياتية السبعة، وكان يظن أن هذه الغدة هي قمة تلك المراكز.

وفي القرن الثالث قبل الميلاد وصف الطبيب الإغريقي "هيروفيلس" هذه الغدة بأنها المصرة التي تسيطر على جريان "أرواح الحيوانات" أما رينيه ديكارت - الفيلسوف والرياضي المشهور - فقد اعتقد أن الغدة الصنوبرية هي مركز الروح "The Seat of Soul " حين قال في القرن السابع عشر :"إن هناك غدة في الدماغ تسمى الغدة الصنوبرية، تقوم فيها الروح بأعمال خاصة لا تقوم بها في أي عضو آخر في الجسم".

وظلت أسرار هذه الغدة غامضة على مر الأيام. حتى أن البروفيسور غونزالزGonzalez الأستاذ المحاضر في جامعة كولورادو الأمريكية يقول: (عندما كنت في كلية الطب قبل حوالي ثلاثين عاما كان أساتذتنا يقولون إن الغدة الصنوبرية غدة عديمة الفائدة، لا وظيفة لها ولا نشاط .. وليس لها أدنى دور في جسم الإنسان). ولكننا لم نكن نصدق ذلك الكلام، فهل يعقل أن يخلق الله تعالى غدة في وسط الدماغ عبثا، لا عمل لها ولا دور؟!!

وبرغم اكتشاف العلماء عام 1957 أن هذه الغدة تفرز هرمونا يسمى "الميلاتونين"، فإنه لم يعرف - حتى سنوات قليلة خلت - عن وظيفة هذا الهرمون شيء سوى أنه يخفف من اللون الداكن لجلد الضفادع!!

الميلاتونين عبر ملايين السنين

الحقيقة التي أثارت دهشة العلماء أخيرا أن الميلاتونين موجود عند كل الكائنات الحية من نبات، وحيوان، وإنسان بلا استثناء. وحتى الكائنات الحية البسيطة (وحيدات الخلايا) تنتج أجسامها الميلاتونين!!.

وهذا يعني، برأي العلماء، أن الميلاتونين موجود منذ بداية الخليقة على سطح الأرض منذ أكثر من ثلاثة بلايين عام!!.

والأغرب من ذلك أنه على اختلاف تركيب تلك الكائنات الحية، فإن تركيب الميلاتونين ظل نفسه، لم يتغير عند كل تلك الكائنات دون استثناء هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه.

فالميلاتونين الذي يسير في أوعيتك الدموية هو ذاته الموجود عند النبات وفي الأسماك، أو في الضفادع والحشرات!!.

والحقيقة أن ذلك التماثل أمر غريب، ونادر الحدوث في عالم الأحياء فهناك عدد ضئيل من المواد التي توجد بنفس التركيب عند كل الكائنات الحية.

وحقيقة أخرى. أن ذلك الهرمون يفرز - منذ أن خلق الله الكائنات الحية على سطح المعمورة - وفق نظام دوري محدد يتبع تعاقب الليل والنهار. فلا يفرز هذا الهرمون إلا في أثناء الليل، ويتوقف إنتاجه خلال النهار. إنه صنع الله الذي أتقن كل شيء.

وبعد أن يستعرض البروفيسور "رايتر" - الأستاذ في جامعة تكساس الأمريكية - خبرة الأربعين عاما الماضية في البحوث العلمية التي أجريت على الميلاتونين يخلص إلى نتيجة يقول فيها: (إن وجود الميلاتونين عند كل الكائنات الحية، بسيطها ومعقدها، صغيرها وكبيرها، بتركيب واحد، لم يتغير ولم يتبدل منذ آلاف الملايين من السنين، ووفق نظام واحد في الإفراز، ينتج في الليل، ويختفي في النهار. إن هذا كله يجعل الميلاتونين يلعب دورا أساسيا على مستوى كل خلايا الكائنات الحية دون ريب أو شك" . ويتابع البروفيسور رايتر القول: "واليوم، وبعد آلاف الدراسات العلمية التي أجريت على هذا الهرمون نستطيع القول إن الميلاتونين مادة من أكثر المواد فعالية في جسم الإنسان، وأنها تلعب دورا مهما في الحفاظ على صحة الجسم في حربه ضد الجراثيم والفيروسات، وأخرى تشير إلى أنه يحسن نوعية النوم، ويخفف من متاعب الأرق التي تنتاب الكثيرين، وخصوصا أولئك الذين يسافرون مسافات طويلة بالطائرات. وربما يلعب دورا في الوقاية من السرطان والحفاظ على حياة صحية مديدة".

والغريب أن كل التطورات العلمية الحديثة التي حدثت في القرن العشرين ما كانت لتبدي شيئا من أسرار هذا الهرمون العجيب إلا قبل سنوات معدودات . وخلال السنتين الماضيتين استحوذ الميلاتونين على اهتمام الكثيرين، ففي أواخر عام 1993 نشرت نتائج دراسة أجريت في معهد ماسوتشيتس الأمريكي، وقد أشارت تلك الدراسة إلى أن إعطاء الميلاتونين بجرعات صغيرة لا تزيد على (0.1 ملج) قد ساعد على إحداث نوم طبيعي عند من أجريت عليهم الدراسة.

وفي الوقت ذاته نشرت دراسات حول فوائد الميلاتونين في التخفيف من أعراض السفر لمسافات طويلة بالطائرة، وحيث يصاب الكثيرون بالأرق وعدم انتظام النوم بسبب فارق التوقيت بين منطقة المغادرة والمنطقة التي يصل إليها المسافر، كما هي الحال مثلا عند السفر من جدة إلى نيويورك أو العكس.

وهاتان الخاصتان للميلاتونين جعلت الكثير من الناس في أمريكا يتناولون الميلاتونين. حتى أن 24 شركة أمريكية تصنع الآن حبوب الميلاتونين. ولم تستطع إدارة الأغذية والأدوية الأمريكيةF.D.A الحد من انتشاره في الصيدليات، برغم أنه لم يحصل على ترخيص من هذه الإدارة.

ومن المعروف عادة أن هذه الإدارة تصنع قوانين صارمة لتقييد إنتاج وتصنيع وتوزيع الأدوية والأغذية في أمريكا . فلا يخرج دواء إلى المستهلك هناك قبل أن تتأكد هذه الإدارة من سلامته وفعاليته.

كما أثارت الدراسة التي نشرها البروفيسور "بيرباولي" من إيطاليا عام 1994 اهتمام الناس. وقد أشارت تلك الدراسة إلى أن إعطاء الميلاتونين للفئران المسنة، وزرع الغدد الصنوبرية المأخوذة من فئران شابة فيها، قد جعلت تلك الفئران المسنة أكثر حيوية ونشاطا، وعاد جلدها قويا براقا.

والحقيقة أن هناك المئات من الدراسات التي تجري سنويا على الميلاتونين وقد أظهر الحاسوب - عندما أجريت بحثا عليه - أن أكثر من ثلاثمائة بحث نشر في عام 1995 على الميلاتونين في مجلات علمية معتبرة. حتى أن مجلة طبية رصينة أنشئت قبل سنوات، وأصبحت من المجلات العالمية المعترف بها. خصصت صفحاتها كلها لنشر الأبحاث التي تجرى على الغدة الصنوبرية والميلاتونين، وسميت هذه المجلة بـ (Journal Of Pineal Research )، وترأس تحرير هذه المجلة البروفيسور "رايتر" الذي قضى أكثر من ثلاثين عاما يجري أبحاثه على الميلاتونين.

الميلاتونين والمناعة والعمر

والميلاتونين يفرز بشكل خاص أثناء الليل. ففي الساعة الثانية أو الثالثة صباحا بعد منتصف الليل يصل مستوى الميلاتونين إلى قمة إفرازه. وفي الوقت نفسه - كما تشير بعض الدلائل - يزداد عدد الخلايا المناعية في الدم مما يزيد قوة المناعة في جسمه.

وهناك الآن العديد من الدراسات العلمية التي تجرى حول تأثير الميلاتونين في المناعة.

وتشير الدلائل الأولية إلى أن الميلاتونين قد يلعب دورا مهما كمضاد للأكسدة . ومضادات الأكسدة تقوم بتثبيط الجذور الحرةFree Radicals التي تهدم أنسجة الجسم وتخرب الخلايا . ومن أشهر مضادات الأكسدة المعروفة الآن الفيتامين "سي" والفيتامين "إي" والبيتاكاروتين وهو طليعة الفيتامين (أ). والحقيقة أن مضادات الأكسدة يمكن أن تلعب دورا مهما في وقاية الجسم من تصلب الشرايين بل ربما من الأورام أيضا.

ومن المعروف أن إنتاج الجسم من الميلاتونين يتناقص مع تقدم العمر. ففي سن الكهولة يحرم الكثير من الناس من النوم، وتضعف المناعة، كما يزداد حدوث أمراض شرايين القلب والسرطان. والحقيقة أن ما يفرزه المسن من الميلاتونين لا يكاد يذكر. وبرغم أن الدراسات التي أجريت على الفئران أشارت إلى أن استعمال الميلاتونين يمكن أن يطيل عمر الفئران ويعيد لها شيئا من مظاهر الشباب فإنه لا يعرف في الوقت الحاضر فيما إذا كان ذلك ينطبق على الإنسان أم لا.

وينبغي تأكيد أن معظم الدراسات التي نشرت حتى الآن أجريت على الحيوانات، والبعض القليل منها أجري على عدد صغير من الناس. بل إن معظمها ما زال في مراحله البدائية، أي في مرحلة أنابيب الاختبار والتجارب الأولية على الحيوانات.

وهناك الكثير الذي ينبغي أن نعلمه حول الميلاتونين، نعلم عن فوائده ومحاذيره، وعن أعراضه الجانبية وموانع استعماله. فليس هناك في الوقت الحاضر دراسات طويلة ورصينة على الإنسان تضمن سلامة استعماله على المدى الطويل.

ويقول البروفيسور "Singer " من جامعة أوريفون الأمريكية "إن أبحاث الميلاتونين ما زالت بطيئة، وإن معرفتنا به تزداد تدريجيا، ولا نعرف الآن بالضبط كيف يستخدم، وما هي الجرعة المثلى التي ينبغي تناولها".

والحقيقة أننا بحاجة إلى دراسة كبيرة ومديدة على الإنسان وقد يحتاج الأمر إلى سنوات عديدة قبل أن نستوعب كل التأثيرات الإيجابية والسلبية للميلاتونين.

 

حسان شمسي باشا

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




الميلاتونين في واجهة وسائل الإعلام، فما حقيقته؟





نعم.. عندنا ميلاتونين إعلان على مدخل حانوت بشيكاغو