الميلاتونين .. ملاحظات تستوجب التوقف مصطفى محمود حلمي

الميلاتونين .. ملاحظات تستوجب التوقف

وعد الشيطان .. قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى، ويهمنا في هذه الآية لتأكيد المداخل التي انتهجها الشيطان في غواية آدم وزوجه لعصيان أوامر الحق عز وجل ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين، وقد نجح في مسعاه ..فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوءاتهما، وحق عليهما العقاب.وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة.

ويستعرض تشارلز ماكايCharles Mackay في كتابه المعنون: "خداع الأوهام الشعبية" "Extraordinary Popular Delusions " الصادر في أكتوبر 1932 م متاهة الجنون الشعبي في الحكم على ادعاءات إطالة العمر، ويفسر رواج هذه الظاهرة واستمرارها بحب الإنسان للحياة، ودوافع حب البقاء، وغريزة المحافظة على النوع. ويقول ماكاي إن البشر ماداموا لم يتمكنوا من قهر الموت فإنهم اكتفوا بالبحث عن أساليب إطالة العمر، وقنعوا "بإكسير الحياة" ليؤخر أجلهم، ولذا كرس الآلاف جهودهم في البحث عنه، واعتقد فيه الملايين لرغبتهم في الاعتقاد به، وليس لأن هناك بوادر تشير إليه، أو إمكانات توفر احتمال وجوده . ويتقفى الكاتب تاريخيا من ادعى معرفته بإكسير الحياة أو انتحله زورا لبعض العلماء والمشاهير، فبلغ عددهم 36، وباستعراض أسمائهم والفترات التي عاشوا فيها يتضح أن الوهم الذي يروجه الميلاتونين في إطالة العمر قديم قدم البشرية، ورواج عقار الميلاتونين الجديد القديم اعتمد أساسا على الترويج لهذه الأكذوبة التي لمست مردودات حساسة في المستقبلين من الجماهير.

وإن كنا قد استعنا بمصادر مرجعية تاريخية لإثبات قدم الادعاء في الغرب، فإن مصادر الأدب العربي تغنينا عن عناء البحث في إثبات كراهية البشر للموت، وإعراضهم عن مقدماته من تقدم العمر والشيخوخة.

يقول الجاحظ :

أترجو أن تكون وأنت شيخ

كما كنت في زمن الشباب

لقد كذبتك نفسك لبس ثوب

دريس كالحديد من الثياب

يقول ابن نباتة :

تبسم الشيب بوجه الفتى

يوجب مسح الدمع من جفنه

وكيف لا يبكي على نفسه

من ضحك الشيب على ذقنه

ومن الشعر الذي راجت بعض أبياته :

ونحت على الشباب بدمع عيني

فما نفع البكاء ولا النحيب

فيا ليت الشباب يعود يوما

فأخبره بما فعل المشيب

ويقول الفرزدق:

ويقول كيف يميل مثلك للظب

وعليك من عظم المشيب عذار

والشيب ينقص في الشباب كأنه

ليل يصيح بعارضيه نهار

البحث عن الجذور

لنبدأ من البداية. من المعروف أن تنظيم عمل الجسم يتم من خلال جهازين رئيسيين هما: الجهاز العصبي والجهاز الغدي أو الغدد الصماء. والهرمون عبارة عن مادة كيميائية تفرز في سوائل الجسم بواسطة خلية أو مجموعة من الخلايا تمارس تأثيرا وظيفيا في خلايا أخرى من الجسم. وهناك هرمونات موضعية تحدث تأثيرها في المحيط الذي أفرزت فيه مباشرة، كما أن هناك هرمونات عامة تنتقل في كل مكان بواسطة سوائل الجسم لكي تحدث آثارا وظيفية فسيولوجية في مناطق بعيدة داخل الجسم ومنها هرمون "الميلاتونين". وقد اكتسب "الميلاتونين" اسمه من أول تأثيراته التي كشف عنها وهو التحكم في صبغة الميلانينMelanin ويخضع هرمون الميلاتونين في أدائه لوظيفته إلى قاعدتين أساسيتين لهما أهمية في اعتراضاتنا على استخدامه هما: التغذية المرتدة والهرمونات المضادة - أو مضادات الهرمونات. بصفة عامة، فإن كل غدة لديها ميل أساسي لأن تفرز إفرازا زائدا من هرموناتها، ولكن ما إن يبدأ التأثير الفسيولوجي للهرمون في أن يتحقق حتى تنتقل معلومات إلى الغدة نفسها لتقلل من كمية الإفرازات التالية، وهو ما يسمى بالتغذية المرتدةFeed - back Mechanism، أما إذا كانت الإفرازات الغدية دون القدر المطلوب فإن التأثيرات الفسيولوجية تتضاءل وتتناقص بالتالي التغذية المرتدة، الأمر الذي يسمح للغدة بأن تبدأ في إفراز كميات كافية من الهرمون مرة أخرى.

ولو عرفنا أن الغدة لا تفرق بين الهرمون الذي تفرزه خلاياها والهرمون الذي يرد إليها عن طريق الجهاز الدوري (بالحقن) أو الهضمي (بالأقراص) لتوصلنا إلى فهم لماذا يزداد تكاسل الغدة الصماء من جراء تناول هرموناتها من مصادر خارجية.

ومن الظواهر المهمة في جسم الإنسان أنه عندما يعمل أحد الهرمونات في اتجاه مفرد، فإنه يوجد - عادة - هرمون آخر يمارس وظائفه في الاتجاه المضاد وهذا لا يعني إلغاء فاعلية الهرمونات كل منها للآخر، وإنما يستهدف ذلك إحداث نوع من التوازن الدقيق في هذا الاتجاه أو ذاك. وهذا ما لم يتم كشفه بالنسبة للميلاتونين.

فقد شطح الخيال بالبعض ليقول إن هذه الغدة لم تكن دائما مختفية في عمق الجمجمة كما هو الحال في الإنسان وفي معظم الفقريات الآن، وأنها كانت في وقت ما تمتد لتصل إلى قمة الجمجمة، مشكلة عينا ثالثة، كما في إحدى الزواحف بنيوزيلندا التي تحمل نماذجها عينا صنوبرية Pineal Eye وهو قول مستمد من العقيدة الهندوسية في الأساس.

وفي وقت من الأوقات وعندما فشل الإنسان في تعرف وظائف الغدة الصنوبرية ظهر الاتجاه إلى سحب لفظ "غدة صنوبرية" وإحلال لفظ "جسم صنوبري" " Pineal Body " بدلا منه. غير أنه في عام 1950م أمكن عزل مادة من الغدة الصنوبرية في البقر أدت إلى جعل لون الجلد في الضفدعة فاتحا عندما حقنت بها، وسميت المادة ميلاتونين واسترجعت الغدة الصنوبرية اسمها الغدي.

لقد بدأ الاهتمام بتجريب الميلاتونين عمليا يلقى النجاح بفضل تجارب ديلمان Dilmanعام 1979م عندما قام وزملاؤه بعزل مستخلص ثبتت فاعليته الحيوية وتأثيراته الأقرباذينية من الغدة الصنوبرية، وأطلق عليه اسم "إبيثالمين" Epithalminنظرا لوجوده في الخلايا الظهارية المخاطية البشرية (الإبيثليوم) " Epithelium ".

واستمر ديلمان ومجموعته في بحوثهم حتى تبين لهم أن "الإبيثالمين" ينشط إنتاج الميلاتونين عند حقن الفئران به، ولحق بهم "والتربير باولي" وزملاؤه وقاموا بإجراء التجارب على الفئران أيضا وأتبعوها بتجارب على خلايا سبعة أنواع من السرطانات في أنابيب الاختبار، وتوجوا عملهم بأن قام "والتر بير باولي" الإيطالي بمشاركة وليم ريجلسن William Regelsen الطبيب الأمريكي بنشر كتاب عنوانه "معجزة الميلاتونين"، ونسبا إلى أقراص الميلاتونين أنها تطيل العمر، وتجدد الشباب، وتعيد الحيوية للمسنين، وتشفي من الأرق والربو والسرطان والإيدز، وواضح من عنوان الكتاب ميله إلى الدعاية الإعلامية، والبحث عن الشهرة، والترويج التجاري. ومن الطريف أن بير باولي أجاب عند سؤاله: لماذا لم تعترف منظمات الرقابة على الأدوية والأغذية بالولايات المتحدة الأمريكية بهذا الدواء أو تصرح بتسجيله ؟ قال إنه "يصعب الاعتقاد بوجود دواء سحري قادر على تحقيق كل هذه العجائب".

ومن الأطرف أنه اتهم حكومتي بريطانيا وفرنسا بأنهما منعتا تداوله وتسجيله لأنهما تتجنبان إطالة عمر مواطنيهما، لأن هذا يحملهما نفقات تقاعد ورعاية قوى غير منتجة.

غير أن بير وزميله أطلقا الشرارة وغرسا البذرة وأججت مجلة أكسفورد لبيولوجيا التناسل من حميم اللهفة بأن نشرت مقالا عام 1990م عنونته "الميلاتونين: الزمن في زجاجة". وتفشى وباء تعاطي الميلاتونين.

وقد جهدنا بالمسح المرجعي للأبحاث العلمية التي فاقت الحصر وبلغت في أحد المصادر 5100 مرجع في نفي أو إثبات بعض الادعاءات، في محاولة لوضع الأمور في نصابها، ودرء الهوس الإعلامي، والخداع التجاري، وكشف زيف العلوم الكاذبة التي يروج لها أنصاف المتعلمين والتجار الجشعون من أجل نهب جيوب ذوي القدرة الشرائية، وسلب عقول السذج البسطاء.

وحيث لا يمكن لمثل هذا الموضوع أن يخلو من بعض المصطلحات العلمية والرطانة التخصصية، نحاول - قدر الإمكان - تبسيط الأمر على القارئ غير المتخصص بتناوله في عناصره المختلفة باستقلال بدءا من بيولوجية الميلاتونين وانتهاء بتوصيات الاستخدام ومحظوراته.

بيولوجية الميلاتونين

سبق الإشارة إلى أن الميلاتونين هرمون تفرزه الغدة الصنوبرية وتركيبه الكيميائي 5 - ميثوكسي تريبتامين ويبدأ تخليقه بتحول الحمض الأميني بروتيني المنشأ المسمى تربتوفان (مصدره غذائي) إلى الموصل العصبي سيروتونين (مصطلح يدل على موصل مصلي) تحت تأثير إنزيم يسمى إن أسيتيل سيروتونين ترانسفيريز ليتحول إلى ميلاتونين.

وهكذا فليس أمر الميلاتونين جديدا على العلم، وكل تأثير لتلك المركبات الوسيطة يمكن أن يعزى للميلاتونين، ويكفي أن نعرف أن السيروتونين من الأدوية المستقرة في العلاج الطبي منذ زمن بعيد.

ولا يتوقف إنتاج الميلاتونين على الغدة الصنوبرية فقط، غير أن قدرته على اختراق الحواجز البيولوجية بسهولة تيسر تأثيره في الأنسجة الطرفية. ويفرز الميلاتونين من شبكية العين بصورة إيقاعية عن طريق موصل عصبي بها يسمى دوبامين بتأثير عوامل جارإفرازية، ويكون إفرازه أعلى ما يكون في الظلام، لذا أطلق البعض عليه اسم "هرمون الظلام" بالإضافة إلى ذلك فعندما يصدم الضوء شبكية العين يرسل نبضات عصبية إلى الغدة الصنوبرية لتقلل من إفرازها للميلاتونين، وقد مثلت هذه الحقيقة رابطة قوية بين الجسم والبيئة المحيطة، فمنذ أمد بعيد والعلم حائر في تفهم .. كيف يشعر الجسم بمرور يوم؟.. ولعل بعضنا عاصر بعض الحالات التي يصحو فيها من النوم ويتساءل: هل الوقت مساء أم صباحا ؟ هل علي الذهاب إلى العمل أو نحن في نهاية اليوم؟ وطالما يخطئ الجسم أحيانا، إذن لا بد أن تكون هناك "ساعة داخلية" أو "ساعة بيولوجية" تتأثر بالوسط المحيط وتؤثر في البيئة الداخلية .. ووجدوا في الميلاتونين الإجابة، حيث تبين أنه يفرز - في الكبار - خلال الليل فقط، ويبلغ ذروة نشاطه بعد منتصف الليل، وكأنه ساعة وروزنامة تخبر الجسم بحلول فترة النوم ومرور يوم، وتتحكم الساعة البيولوجية الداخلية في الدورات اليومية والإيقاعات الموسمية التي تتحقق بفضل نشاط بعض الإنزيمات في الغدة الصنوبرية. أما على المدى الطويل فإن إفراز الميلاتونين هو الذي ينظم التغيرات الموسمية التي تشاهد ملحوظة في العديد من الفصائل والأنواع الحيوانية من بيات شتوي (كما في البرمائيات). إلى هجرة (كما في الطيور)، إلى موسمية تكاثر (كما في الجمال) وغيرها.

وقد أكدت أبحاث الدكتور راسل ريتر أن هرمون الميلاتونين الصنوبري ( MLT ) لا يفرز في الإنسان قبل ثلاثة أشهر من العمر، ثم يبدأ بعدها إفرازه ويصبح ذا إيقاع يومي Cicordian، ويصل إلى أعلى إفراز في سن سنة إلى ثلاث سنوات، غير أن إنتاجه يستمر غزيرا، ويتناقص بعد هذه السن باطراد وثبات بمعدل 80% (من المعدل القياسي عند الطفولة) حتى يستقر بمعدلات البلوغ. إلا أن هذه الأرقام غير ذات دلالة بيولوجية، إذ ترتبط ارتباطا واضحا بزيادة حجم الجسم مع ثبات معدلات الإفراز. وفي كبار السن تتكلس الغدة الصنوبرية، لذا يقل الميلاتونين مع تقدم العمر، وهذا ما دفع البعض إلى القول بأنه قد تكون له فائدة في وقف مسيرة التقدم العمري. ولو أن هناك عوامل أخرى تتحكم في الضبط المرحلي للساعة البيولوجية بالجسم تسمى "عوامل الترتيب الزمني الحيوية" " Chronoliotic "، منها الضوء والنزوديازيبينات والنواة التي تقع فوق التصالب البصري.

ومن الطريف أن الميلاتونين يفرز أيضا من القناة الهضمية، ويبدو أن وظيفته تنحصر في منع التأكسد كوسيلة للوقاية من "الجذور الحرة" Free Radicals . وبجانب نقص إفراز الميلاتونين مع تقدم العمر وفي النهار، يحدث نقص إفرازه أيضا في حالات الافتقار الغذائي لحمض التربتوفان الأميني، ومتلازمة "الاكتئاب الكبرى" والاضطراب الوجداني الموسمي، وحالات التفكك أو الفصام العقلي، غير أنه في كل هذه الحالات يكون نقص الميلاتونين نتيجة لا سببا.

فسيولوجية الميلاتونين

لم يتأكد للميلاتونين سوى تأثيرين أولهما في النوم والثاني كمضاد للأكسدة (مواد تمنع حدوث التأكسد وبالتالي تستعمل في منع تزنخ الزيوت والدهون أو ترمم المواد الأخرى نتيجة حدوث أكسدة لها) وهو ما ربطه بالشيخوخة.

النوم والميلاتونين

النوم حالة وقتية، من توقف التفاعل الحسي الحركي مع البيئة، ومنذ 1953 أصبح معروفا أن هناك حركات سريعة للعين تحدث لدى النائم في حالة خاصة من النوم أطلق عليها حالة "النوم ذو حركات العين السريعة" وأطلق على بقية النوم الآخر اسم "النوم من غير حركات العين السريعة". وهناك من يقسم النوم إلى أنماط أخرى هي: النوم الحالم، النوم النقيضي، والنوم السريع، والنوم العميق، أو نوم مؤخر الدماغ وكلها مسميات للنمط الأول من النوم. أما النوم من غير حركات العين السريعة فهناك من يسميه النوم البطيء. أو نوم لحاء المخ الحديث، أو النوم الخفيف، أو النوم التقليدي أو الكلاسيكي.

وفي الإنسان نجد أن النوم ذا حركات العين السريعة يتميز بزيادة بسيطة في معدل سرعة ضربات القلب مقارنة بالنوم من غير حركات العين السريعة.

ويرتفع ضغط الدم، ويتغير التنفس بشكل ملحوظ في النوم ذي حركات العين السريعة باتجاه نحو الإسراع الكلي في معدلاته مع تفاوت ملحوظ فيه، كما يزيد استخدام الأكسجين خلال هذا النمط من النوم. وقد كشفت الدراسات عن وجود نشاط عصبي مصاحب في مناطق معينة من المخ مثل التكوين الشبكي للمخ المتوسط واللحاء البصري، والمسار الهرمي ويصاحبه حدوث اختلاجات في الأطراف وعضلات الوجه.

وأستميح القارئ عذرا لهذا الاستطراد التخصصي الذي استهدف توضيح أن النوم ليس بالبساطة التي يمكن أن يعالجها دواء منفرد يتدخل في طرف واحد من أطراف العلاقات المتشابكة في أعز ما يملك الإنسان وهو مخه.

الشيخوخة والميلاتونين

يتكون جسم الإنسان من ملايين الخلايا وتجرى كل واحدة منها آلاف التفاعلات الكيميائية الحيوية بما يشابه مدينة صناعية كاملة. وتصاب الخلايا بالهرم وتموت في أعمار مختلفة، فمنها ما يتجدد يوميا مثل خلايا بشرة الجلد، ومنها ما يتجدد كل أربعة شهور مثل كريات الدم الحمراء، ومنها ما يبقى طوال العمر دون تجديد مثل الخلايا العصبية. وقد قدمت الدراسات مجموعة من النظريات المختلفة لتفسير ظاهرة الشيخوخة وكان النصر حتى وقت قريب للنظرية الوراثية التي تفيد بأن كل خلية تحمل أوامر فنائها في جيناتها.

غير أنه في عام 1988 م قدم تفسير جديد يقوم على المدخل الاستنتاجي التطوري النظري للشيخوخة مفاده أن : "في التعداد الذي يعيش في مجال له قدرة حمل محدودة ثابتة تميل نسبة الأولاد إلى البالغين من نفس الجنس إلى الثبات، ولا يحل سوى فرد واحد محل آخر، ويحدد على أساس ذلك طوال عمره. ويتطلب هذا ساعة بيولوجية في الجسم".

وقد ركزت الأبحاث الخاصة بالشيخوخة على محطات الطاقة التي تزود الخلية بالوقود اللازم للقيام بأعمالها . ويطلق على هذه المحطات اسم "الميتوكوندريا Mitochondria" أو "بيت الطاقة" أو "المسبحيات" (لأنها تشبه تحت المجهر حبات المسباح). وحجم الميتوكوندريا يقل عن خمسة آلاف من المليمتر، غير أنها تلعب دورا حاسما في المحافظة على الخلية، وتتدهور الخلية مع تدهورها. ويرجع سبب هذا التدهور إلى تراكم جزيئات بالغة الصغر داخل الخلايا تسمى "الجذور أو الشوارد الحرة" Free Radicals، وتضم الجذور الحرة في تكوينها الأكسجين ويقارن أثره بصدأ الحديد. ويصاحب أغلب أمراض الشيخوخة تراكم هذه الجذور التي تنطلق سائبة حرة داخل الخلية وتعطل محطات الطاقة الحيوية للجسم، ومن المعتقد أن وتيرة "الجذور الحرة" تتضاعف بمعدل مرتين كل ست سنوات.

ويعتبر الميلاتونين كناس الجذور داخل المنشأ، فهو يتفاعل بشدة مع الهيدروكسيل Hydroxyl، ويمنع بطريقة غير إنزيمية تأكسد الجزيئات الحيوية في كل حجيرة خلوية. كما يسرع تحرير الأحماض الأمينية الحاثة من تكوين جذر الهيدروكسيل داخل المنشأ الذي يثبط تخليق الميلاتونين. ويرتبط بتقليل معدلات نزع سمية الجذر الهيدروكسيلي، وما يتعرض له كبار السن من ضغط التأكسد. وتساعد الدراسات باستخدام مثبطات ومنشطات الأحماض الأمينية الحاثة مثل المغنسيوم على فهم هذه التغيرات.

أقرباذينية الميلاتونين

الميلاتونين من الهرمونات التي توجد طبيعيا في الجسم، لذا تقتصر دراساته الأقرباذينية على استيعاب حالات الزيادة والنقص، وتأثيرات التعاطي، ومحظورات الاستخدام، والتأثيرات الجانبية، والجرعات الموصى باستعمالها، والتأثيرات التبادلية بينه وبين العقاقير الأخرى.

وكما سبق القول، يؤثر هذا العقار في النوم، وفي الجذور الحرة كمضاد للتأكسد ومنها استمدت الدعايات جميع التأثيرات المزعومة والادعاءات المنسوبة.

يقول مولر Mullerإن الميلاتونين يثبط الدهون منخفضة الكثافة، وبالتالي يقلل من تخليق الكولسترول . وهذا أمر متوقع من مضاد للتأكسد في العهد الأول له قدرة انتقائية فائقة على نزع سمية المؤكسدات محبة الإلكترونات Electrophilicبمنحها إكترونا، ولو تأكدت سلامته وأمن استخدامه لأمكن إدراجه مع مجموعات مضادات الأكسدة في علاج العديد من الحالات ومنها: عتامة عدسة العين أو السد Cataract، والضمور العضلي، ومرض الزهايمر Alzheimers، وباركنسون أو الشلل الرعاش Parkinsonsin، والتهاب المفاصل، والسرطان، والصرع ومتلازمة الجنين الكحولية.

غير أن هناك بدائل أكثر أمنا وأمانا وأوفر حظا في البحث والتمحيص كفيتامين ج الموجود في الحمضيات مثل البرتقال والليمون، وفيتامين هـ Vitamin E الموجود في أوراق الخضراوات والبيتاكاروتين (طليعة أو مولد فيتامين أ) وهو موجود في الجزر. وهذه المركبات استقر استخدامها كمضادات للتأكسد في الحماية من الإشعاع، وفي التخفيف من الأعراض المقترنة بالاكتئاب الشتوي، والإسراع بتوازن ضغط الدم وتثبيط هرمونات الإجهاد القلبية.

وبالرغم من أن مجلة الأقرباذية العيادية في هارفارد كتبت عام 1995 م أن الميلاتونين "قد يكون ذا فائدة في علاج الأرق"، كتب نافي Nave مؤكدا أن علاج صغار البالغين بالميلاتونين يسبب لهم نوما "عميقا" - بالرغم من أن جميع التجارب والبحوث والدراسات تنبه على خطورة تناوله قبل سن الأربعين بأي حال من الأحوال لتداخل أثره مع هرمون النمو. وقالت مجلة نيوزويك في عددها الصادر في أغسطس 1995م إن الميلاتونين يساعد على نوم أفضل. ووصف هايموف Haimovأن كبار السن الذين يعانون من الأرق يمكنهم تناول مليجرامي ميلاتونين لمدة أسبوع على أقصى تقدير (سبعة أيام فقط) لكي تتعدل أنماط نومهم.

وتوصي لافيرت Lavertبالعلاج الضوئي كعلاج بديل أكثر أمنا وأقل خطورة فتقول : "إذا أردت البقاء مستيقظا لبعض الوقت اقض وقتك في الشمس، أو ابق في حجرة ذات إضاءة شديدة، وإذا حان وقت النوم ولم تكن متعبا اجلس في غرفة مظلمة، وامنح جسمك فرصة أن يشعر أنه وقت النوم، وتجنب المنبهات كالشاي والقهوة والمشروبات الغازية، ولا تسمح لنفسك بغفوة قبل النوم، فهذه قد تفسد عليك نومك" . أما التكهنات التي أدرجت السرطان والإيدز في قائمة الاستعمال فقد نشأت من الاعتقاد بأن أغلب النشاط المناعي يحدث أثناء الليل، لذا قد يتأثر الجهاز المناعي من النوم الذي يستحثه الميلاتونين، ويرون أن السرطان مرجعه تعرض الجسم للضوء الصناعي لفترات طويلة - ومن جراء هذا التعرض يقل معدل الميلاتونين لبضع ساعات يوميا في وقت كان من المفروض أن يكون فيه مرتفعا. ولا تقوم لهذه الآراء قائمة لو فحصت على مائدة البحث وفحصت بمنظار العلم . فتجاربها تمت على سبعة أنواع من الخلايا السرطانية (من بين مئات الأنواع)، وفي أنابيب الاختبار (وتختلف الاستجابة في الجسم)، أو اعتمدت على مقارنة الأوزان، ولم توضح الأوزان النسبية إلى الجسم، بل تمت المقارنة بالأوزان المقارنة لسرطاني البروستاتا والثدي. وبالطبع يميل وزن هذه الأعضاء إلى التأثر بهرمون النمو، ولا علاقة لوزن السرطان بوزن العضو الذي به ينمو.

أما القول بأن الميلاتونين يسبب استقرار النشاط الكهربائي للجهاز العصبي المركزي، وأنه يعيد اتزان المعدلات الليلية للميلاتونين فيمن يعانون الذعر، أو الاكتئاب، أو تراوح المزاجية، فلم تشر الأبحاث إلى أي تجارب عيادية سليمة في هذا المجال، بل حقنت مجموعة صغيرة من المتطوعين وقدرت معدلات الميلاتونين بهم ووجدت مرتفعة بعد حقنهم .. وهل كان يعقل أن تكون منخفضة؟!

ولن نثقل على القارئ بالرد على السفاهات التي تدعي أن الميلاتونين يزيد من قدرة ممارسة النشاط الجنسي أو يطيل العمر، فمن الإسفاف أن يقدر النشاط الجنسي لدى الفئران ويقارن بالبشر (حتى إن أمكن تقديره)، غير أن الاستعانة بأبحاث من يؤيد استخدام الميلاتونين تصبح أمرا ملزما إذا ما أردنا الاستطراد في توضيح توصيات ودواعي الاستعمال وجرعاته ومحاذير الاستخدام والأعراض الجانبية، وهو ما نقدم عليه دون تحمل أي مسئولية تجاه الغير فقد حذرنا بما فيه الكفاية.

دواعي الاستعمال والجرعة

- وعثاء السفر بالطائرة مع الانتقال عبر خطوط الطول وتغير التوقيت المصحوبة بالأرق والصداع والإسهال - مع اتباع شروط الاستعمال بدقة.

- أمراض القلب والرئتين الناجمة عن خلل مواقع ارتباط الأيودو ميلاتونين (1251) - 2 Iodomelatonin Binding Sites .

- ترقق العظام من جراء انقطاع الطمث.
- نوبات الصرع الصغرى.
- سرطان بطانة الرحم.
- الذهان النفاسي.
- تصلب الشرايين المتعدد.

أما عن الجرعة فنشير إلى التالي:

- لم توضح المراجع جرعته نصف السمية أو نصف المميتة.
- لم توضح التجارب تأثيراته في الجنين.
- لم توضح التجارب آثاره المسرطنة.
- لم توضح التجارب أثره في التبدل الخلقي.
- الحد الأعلى للجرعة ستة جرامات (لم يوضح الباحث لا الوزن ولا العمر ولا فترة الاستخدام).
- أطول مدة للتعاطي أربع سنوات (أجري البحث على 1400 امرأة دون سجلات أو فحوص أو بحث أو تحليل).

توصيات عن المستحضرات التجارية من الميلاتونين:

توفر الشركات التجارية - غير الدوائية - ثلاثة أشكال من مستحضرات الميلاتونين في جرعات مختلفة وبتركيزات متنوعة:

1 - النوع العادي، ولا يعد مثاليا، إذ ينتج عنه ارتفاع مفاجئ في معدلات الميلاتونين بالدم تفوق ما يمكن أن يوجد في الجسم طبيعيا.

2 - النوع المنطلق مع الوقت ويسميه البعض "طويل المفعول" أو "ممتد الأثر"، ومفعوله وأثره واحد والفارق الوحيد أنه يتم امتصاصه ببطء.

3 - النوع الذي يستخدم تحت اللسان وهذا أشد خطورة من النوع الأول، إذ يجمع مع مساوئه أنه يمتص بسرعة، ولا يمر على الكبد.

- ولو أن هناك بعض الشركات تغالي في جرعات الميلاتونين بأقراصها غير أنه لا يلزم أكثر من مليجرام واحد.

- لا تشتر الميلاتونين المخلوط مع أي مستحضر آخر، فلا أحد يدري أمنهما أو فاعليتهما وأثرهما معا - وقد أكدت التجارب أن اقترانه بفيتامين "ب6" يؤدي إلى ظهور آثار جانبية غير محمودة منها الفزع والذعر والقلق والصداع وآلام شديدة بالمعدة مع مضاعفة الشعور بالاكتئاب.

- الميلاتونين الطبيعي (أي من مصدر طبيعي حيواني) يمثل خطورة لأنه ينقل عدوى الفيروسات والفيرينو (مسبب جنون البقر أو داء الدماغ الإسفنجي البقري)، كما ينتج عن تعاطيه تكون أجسام مضادة لبروتيناته تمنع تأثيره وتأثير قرينه الداخلي أيضا.

أما محاذير الاستخدام (بالنص كما وردت في نشرات الدعاية عنه عدا ما بين التنصيص) فهي:

- لا يجوز تعاطي الميلاتونين مع البروزاك (أو أي أدوية نفسية أو عصبية أخرى)، حيث يساعد على إفرازه ويزيد من معدلاته "ويمثل خطورة".

- يمنع تعاطي الميلاتونين مع الإستروجين (أو أي أقراص تمنع الحمل) لأنها تتداخل مع معدلات إفرازه "وتسبب عواقب وخيمة".

- قد يثير استخدام الميلاتونين أمراض المناعة ضد الذات Autoimmuneنظرا لحفزه لحيوية خلايا (التيموس) المساعدة T- helper، في الجهاز المناعي.

- قد يسبب استخدام الميلاتونين أمراض الحساسية أو يضاعف منها، لأنه ينشط كريات الدم الكبيرة البيضاء غير مفصصة النواة Monocytes، ويساعدها على تدمير الخلايا التي لا تنتمي لها.

- يمنع الميلاتونين عن الأطفال نظرا لأنه يسبب تأخر البلوغ، ويؤدي إلى خلل الدورة الشهرية، واضطراب الدورات التناسلية في الجنسين.

- تلعب الاختلافات الفردية دورا كبيرا في الاستجابة للميلاتونين، ففي دراسة شملت خمسة متطوعين تناولوا جرعة قدرها مليجرامان، فقط من الميلاتونين اختلفت بينهم الاستجابة 35 مرة في تقدير ما وصل إلى الدم من العقار. (عليك أن تجعل من نفسك حقل تجارب لتقدير التفاوت الفردي).

إذا ترنحت في الصباح بعد تعاطي القرص مساء وتعرضت للحوادث العارضة - قلل الجرعة.

اتبع إرشادات الاستخدام بدقة عند السفر، حتى لا ينتج عن تعاطي الميلاتونين تأثيرات معاكسة.

لا تتناول الميلاتونين قبل السفر إذ يجعل الحالة أسوأ.

لا تتناول الميلاتونين لعدة أيام أثناء انتقالك بين خطوط طول مختلفة.

لا تتناول الميلاتونين إلا بعد الوصول إلى المحطة النهائية - قبل بضع ساعات من الذهاب إلى السرير ليلا وفي الظلام الدامس.

ولا يوصي بتعاطيه لمن:

يتناول ستيرويدات "مركبات تشبه الكولسترول كيميائيا)، أو لمن تريد الحمل أو تريد الإنجاب أو من كن من الحوامل، المراضع، أو لمن يعاني من مرض ذهانيا، أو لديه حساسية. وأيضا لمن يعاني من مرض مناعة ضد الذات، أو يعاني سرطانات الجهاز المناعي، أو من يقل سنه عن 40 سنة.

الآثار الجانبية

- يمنع الإباضة في الجرعات الكبيرة (75 ملجم) مع البروجستيرون.

- يمنع الإباضة ويوقف سريان دم الحيض في جرعات منخفضة (10 ملجم).

- يتداخل مع السيروتونين ووظائف الغدة الدرقية، والتيموسية، وهرمون محرر منشطات التناسل، والثيروسين، وهرمون إفراز الحليب، والإبنيفرين، وهرمون منشط قشرة جارات الكلوية، وعديدات البيبتيدات المعدية النشطة على الأوعية.

الختام

حتى ولو كان الميلاتونين يدفع إلى النوم، والنوم الذي يدفع إليه من النوع الذي تغيب فيه عن الزمن، فليس معنى عدم شعورك بمضي الزمن أن الزمن لا يمضي. فالدنيا ليلة في إثر ليلة، ويوم في إثر يوم، والناس بين جامع مال مفرق، ومفرق مال مجموع، وبين قوي يظلم، وضعيف يظلم، وصغير يكبر، وكبير يهرم، وحي يموت، وجنين يولد، وكلهم بين مسرور بموجود، ومحزون بمفقود، فاقنع بما كتبه الله لك من الأجل ولا تطمع في المزيد فقد قال الكندي:

العبدحر ما قنع

والحر عبدما طمع

وقال المعري:

إذا كنت تبغي العيش فابغ توسطا

فعند التناهي يقصر المتطاول

هذا، وإلا حق فيك قول سابق البربري:

يخادع ريب الدهر عن نفسه الفتى

سفاها وريب الدهر عنها يخادعه

ويطمع في سوف ويهلك دونها

وكم من حريص أهلكته مطامعه

 

مصطفى محمود حلمي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




أرق الطيران البعيد .. يعالجه الميلاتونين





لماذا الميلاتونين وهناك بدائل طبيعية؟





أعشاب تواجه السرطان .. فهل يماثلها الميلاتونين؟