المادة تحت الضغط العالي علي حسين عبدالله

المادة تحت الضغط العالي

المادة التي نجدها من حولنا في الحياة اليومية تكون غالبا تحت تأثير الضغط الجوي، وهذا الضغط ناتج من وزن الغلاف الجوي المحيط بالكرة الأرضية. عندما نقول ضغطا جويا واحدا فهذا يعني أن هناك وزنا من الهواء يعادل وزن عمود من الزئبق ارتفاعه 67 سم ضاغطا على سطح مساحته 1 سم2. ولإعطاء صورة عن الضغط الجوي يمكننا أن نقول إن كل الموجودات على ظهر الأرض تسكن قاع محيط ماؤه هو الهواء! فأنت عندما تكون في قاع البحر ترى الماء محيطا بك ضاغطا عليك، كذلك على اليابسة فأنت محاط بالهواء من جميع الاتجاهات، ونحن لا نشعر بهذا الضغط والسبب هو أن السوائل داخل أجسامنا تولد ضغطا ويتساوى الضغطان الخارجي والداخلي.

ونأتي الآن للضغط العالي وما المقصود به في هذا المقال: الضغط العالي هو كل ضغط ساوى أو تجاوز ألف ضغط جوي! وقد يقول قائل: وأين يمكننا أن نجد مثل هذه الضغوط العالية؟

ولإعطاء فكرة عن أماكن وجود الضغط العالي من حولنا نأخذ فكرة عن بعض الأجسام الفضائية. إن الجاذبية هي السبب المؤدي إلى زيادة الضغط في الأجرام السماوية فكما أن للأرض جاذبية كذلك للشمس وللنجوم. فمثلا النجم المصاحب للشعرى اليمانية (المسافة بيننا وبينها 9 سنوات ضوئية) كان نجما عاديا ثم بدأ حجمه في التناقص إلى أن وصل قطر هذا النجم إلى 11100 كم (أي أصغر من قطر الأرض)، ولكن كتلتها أكبر بقليل من كتلة الشمس. هذا معناه أن الجسم انضغط وبالتالي تزداد كثافة المادة المكونة للنجم، لذلك سميت بالقزم الأبيض، وهذا يفسر الضغط العالي الذي ذكر، وكذلك الأمر بالنسبة للنجم النيتروني فهو نجم ذو حجم معين تقلص بفعل الجاذبية إلى حجم أصغر من حجم القزم الأبيض، فالنجم النيتروني تقريبا بحجم الشمس تقلص إلى أن صار قطره في حدود 14 كم! وهكذا فكلما كان التقلص أكثر تولد عنه جسم ذو ضغط أعلى، لذلك عندما تزداد الجاذبية أكثر من حالة النجم النيتروني نصل إلى ما يسمى بالثقوب السوداء. إذن نتوقع أن يكون الضغط في الثقوب السوداء عاليا جدا حتى بمقياس النجوم!!. والأمثلة التالية تعطينا فكرة عن أين نجد الضغط العالي من حولنا:

- الضغط في إطار السيارة = أقل أو تقريبا 2 ضغط جوي

- باطن الأرض (أي عند عمق 6400 كم) = 3640 مليون ضغط جوي

- باطن الشمس = أكثر من 100 بليون ضغط جوي

- نجم (القزم الأبيض) = أكثر من مليون بليون ضغط جوي

- النجم النيتروني = أكثر من مليون مليون بليون ضغط جوي!!

وقد بدأت محاولة دراسة زيادة الضغط على المادة في القرن الماضي، إذ استطاع عالم فرنسي أن يؤثر على حجم صغير من المادة ويصل إلى ضغط 3000 ضغط جوي وجاء بعده الفيزيائي الأمريكي في بدايات هذا القرن واستطاع أن يصل إلى 400 ألف ضغط جوي وحاليا يمكن الوصول إلى عدة ملايين من الضغط الجوي أو أكثر وذلك بضغط حجم صغير من المادة بين طرفي قطعتين من الألماس.

يقاس الضغط العالي باستعمال عدادات خاصة، ولكن إلى حدود بضعة آلاف ضغط جوي وأكبر من ذلك يستعان بطريقة طيفية للقياس لأنه من المعروف أن الضغط يؤثر على خطوط الطيف فيزيحها عن أماكنها، وشدة الإزاحة تزداد مع زيادة الضغط ومن هذا يمكن حساب مقدار الضغط. وتستعمل خطوط الطيف لمادة العقيق الأحمر لهذا الغرض وذلك بأخذ عينة صغيرة جدا ووضعها داخل الخلية وبهذه الطريقة يمكن قياس ضغط يصل إلى حدود مليوني ضغط جوي.

تأثير الضغط في المادة

إذا ضغطت بإصبعك على كرة صغيرة لينة فإن شكل الكرة يتغير مع ضغط الإصبع وإذا ضغطنا مكعبا من الرصاص فإنه يصبح مسطحا، من هذا يتضح أن الضغط أثر على شكل المكعب ولكن هذا ليس هو التأثير الوحيد للضغط على المادة. إن عملية الضغط هي التقريب بين ذرات المادة وتقريب الذرات معناه تغيير الطاقة المتوازنة الداخلية لهذه الذرات. ومن عجائب خلق الله سبحانه وتعالى أن هذه الذرات تعيد ترتيب نفسها بطريقة تحافظ على أن تكون في اتزان طاقة ثانية بعد أن فقدت الترتيب الأول بحيث تكون الذرات دائما في مستوى طاقة أقل ما يمكن!.

تطبيقات الضغط العالي

من العاملين في هذا التخصص الفيزيائيون والكيميائيون وكذلك الجيولوجيون والمهندسون في الصناعات التي لها علاقة بالضغط العالي ولإعطاء فكرة إليك بعض هذه التطبيقات:

1 - صناعة مواد جديدة: أوضح مثال لتأثير الضغط العالي على المادة هو تغيير الفحم (الجرافيت) إلى الألماس أي تحويل مادة قاتمة سوداء هشة إلى مادة شفافة شديدة الصلابة (الألماس من المواد الصلبة جدا وثبت حديثا أنه يحتمل ضغطا في حدود أربعة ملايين ضغط جوي أي أكثر من الضغط في مركز الأرض)، ويتم في الطبيعة على أساس الضغط الذي يتعرض له الفحم تحت سطح الأرض. أما صناعيا فقد تم ذلك لأول مرة في سنة 1955 عندما قامت إحدى الشركات الأمريكية بإنتاج الألماس من الجرافيت، وذلك بوضع الجرافيت تحت ضغط يقرب من 5000 ضغط جوي ودرجة حرارة في حدود 2000 درجة سيليزية. وكتطبيق آخر في هذا الميدان ثم إنتاج مواد صلبة جدا لاستعمالها في الصناعات المختلفة.

2 - في الصيدلة: لاحظ بعض الباحثين في صناعة الأدوية أن بعض الأدوية تكون فعالة في حالة تعاطيها على شكل سائل، ولكن عند صنع نفس الدواء على شكل أقراص فإنها تفقد خاصيتها وفعاليتها، وبعد إجراء الأبحاث العديدة تبين أن السبب يرجع إلى طريقة صناعة الأقراص، فالأقراص عادة تصنع بضغط مسحوق الدواء وتحويل هذا المسحوق إلى قرص. إذن الضغط هو الذي أدى إلى تغيير ترتيب الجزيئات ترتيبا مختلفا عن ترتيب الجزيئات في الحالة السائلة، وبالتالي فقدت الأقراص قدرتها على إعطاء العلاج اللازم (هذا لا ينطبق على جميع الأدوية وإنما على بعضها). إن الأبحاث الجارية في هذا الميدان هي في معرفة ما هي حدود الضغط التي يجب اتباعها، حتى لا تتأثر الجزيئات وتغير من ترتيبها وما الشروط الأخرى مثل درجة الحرارة التي يتم عندها ضغط المسحوق وبذلك يتم تفادي مثل هذه المشاكل.

3 - الأبحاث الطبية: إن الكشف عن السرطان في مراحله الأولى يساعد كثيرا في العلاج، ومن بين الطرق المقترحة استعمال تكنولوجيا الضغط العالي. لو وضعنا خلية من جلد إنسان سليم وآخر مصاب بالسرطان، وتم إجراء بحث طيفي لهاتين العينتين لوجدنا اختلافا بينهما. ولقد لوحظ أن التركيب الداخلي (ترتيب الجزيئات) للخلايا السرطانية هو الذي يتغير تحت تأثير الضغط العالي تغيرا مميزا، لذلك يمكننا أن نميز الخلايا السرطانية من الخلايا السليمة. بهذه الطريقة يمكن للمتخصص أن يحكم على عينة من الجلد أو الكبد، أو أي جزء من أجزاء الجسم بأنها سليمة أو مصابة. إن من مميزات استعمال هذه التكنولوجيا كما حدثني بها أحد العاملين في هذا الحقل (المرحلة الحالية في طور البحث) أنها أولا طريقة سريعة، وثانيا تحتاج إلى عينة صغيرة جدا، وثالثا وهذا الأهم أنها غير مكلفة ماليا، وهذه تساعد في تعميم هذه الطريقة على أكبر عدد من المرضى.

 

علي حسين عبدالله

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




الثقوب السوداء الكونية.. أحد نماذج المادة تحت الضغط العالي