نزيف الاغتراب

نزيف الاغتراب.. د. سليمان إبراهيم العسكري
        

          في التاريخ العربي الحديث، هناك مهجر تذكرنا به أشعار المهجريين الشهيرة، لكن مهجرًا آخر تجري وقائعه الآن، يكاد يجافيه الشعر، ويرتبط بمآسٍ ظاهرة وأخرى مستترة، وهو يمثل نزيفًا عربيًا متعدد المصادر، لم نتوقف كثيرًا لنستطلع آلامه، ولم نفكر مليًّا في كيفية إيقافه، أو على الأقل في استيعاب هذا النزيف، وجعله رصيدًا يدعم قدراتنا عند الحاجة.

  • العجز بأشكاله المختلفة، اقتصادية واجتماعية ومعرفية، يتحول إلى نوع من الاغتراب الداخلي، يدفع إلى الاغتراب خارج الأوطان، وبأثمان فادحة على الأغلب
  • لم يعد الغرب هو الغرب نفسه الذي استقبل المهاجرين العرب الشوام منذ قرنين، فقد صار شديد التوجس بعد أحداث 11 سبتمبر وتفجيرات لندن ومدريد وحرائق باريس
  • الاغتراب الجيد، إن صحّت التسمية، يتطلب تأهيلاً ثقافيًا، ولو في الحدود الدنيا، لفلسفة التعايش واحترام الاختلاف والاحتكام للقانون في بلاد الاغتراب
  • تمتين الجسور بين المغتربين وأوطانهم العربية يؤهل لتعظيم الإيجابيات ويعود بالنفع على عالمنا العربي وعلى الاستقرار الروحي والنفسي للعرب المغتربين

          ترددت قليلاً حال شروعي في استخدام كلمة الاغتراب بديلاً عن كلمة المهجر، وكان سبب اختياري للكلمة البديلة هو الابتعاد عن إيحاءات المهجر العربي الذي حدث في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، لأنني بصدد الحديث عن مهجر اللحظة العربية الراهنة، لكنني ما إن شرعت في البحث عن مدلولات الكلمة، حتى أحسست أنها لا تفي فقط بالغرض، بل إنها تجمع أسباب ونتائج ظاهرة الهجرة معًا، وتربط بين المهجر السابق منذ قرنين أو أكثر والمهجر اللاحق الذي تدور رحاه الآن. وقد تأكد لي شمول هذه الكلمة، أو هذا المصطلح، بعد مطالعة كتاب الدكتور حليم بركات والمعنون: «الاغتراب في الثقافة العربية» والصادر عن مركز دراسات الوحدة العربية في العام 2006. فأقرب التعريفات الفلسفية التي تصف الوضع الذي نحن بصدده، تكمن في اجتهاد هيجل الذي عرّف الاغتراب بحالة العجز التي يعانيها الإنسان عندما يفقد القدرة على تقرير مصيره والتأثير في مجرى الأحداث التاريخية، ولو على مستوى أصغر مكونات مجتمعه. وهو تعريف يدعمه «هايدجر» الذي رأى أن وجود الإنسان يكون أصيلاً بقدر ما يختار ويصنع قراراته بنفسه، ويضيف إليه «سارتر» عندما يركز على أن المهمة الأولى للإنسان هي تأكيد حريته. وفي ضوء هذه المفاهيم وغيرها، عرَّف حليم بركات الاغتراب بحالة «عجز الإنسان في علاقاته بالمجتمع والمؤسسات والنظام العام بعد أن تحولّت هذه كلها إلى قوة مادية ومعنوية تعمل ضده بدلاً من أن تستعمل لصالحه. بهذا المفهوم فإن واقع المجتمع العربي السائد هو واقع مغرّب يحيل الشعب، وبخاصة طبقاته وفئاته المحرومة، إلى كائنات عاجزة لا تقوى على مواجهة تحديات العصر».

الجاني والمجني عليه معًا

          وعلى الرغم من الاتفاق الضمني مع معظم جوانب الرؤية السابقة في تعريف الاغتراب، فإنه من الواقعي والموضوعي أن نؤكد أن حالة عدم التمكين هذه هي على الأرجح، وفي أحوال متعددة، غير مقصودة، وغير مستهدف بها المواطن العربي من قبل سلطات مجتمعه المختلفة، لأن هذه السلطات نفسها - وفي كثير من جوانبها - لا تمتلك هذا التمكين لذاتها، بفعل التخلف وفقر الخيال المبدع وانقطاع المبادرة، واللجوء - بالتالي - لأهل الثقة بديلاً عن أصحاب الخبرة، فالجاني والمجني عليه معًا يقعان في دائرة المأزق ذاته. أما النتيجة التي هي العجز بأشكاله المختلفة - اقتصادية واجتماعية وتنموية ومعرفية - فإنها تتحول إلى إفراز نوع من الاغتراب الداخلي، يدفع إلى اغتراب خارجي، ويرمي بجحافل من المواطنين العرب على شواطئ الغرب، سواء في هجرات شرعية، أو غير شرعية، لعلهم يجدون ما يهدِّئ اغترابهم الداخلي، بالعثور على فرصة للرزق، أو سانحة لتحقيق الذات، أو حاضنة ترعى امتياز الموهوبين منهم. لكن الوصول إلى ذلك جميعًا بات عسير المنال لدى الغالبية العظمى من المندفعين إلى الشاطئ الآخر، لأسباب عديدة تجعل من هذا الاغتراب الجديد مختلفًا عما سبقه، وتجعل من نتائجه شيئًا أكثر قسوة وتكلفة حتى إن لواعج الحنين والحسرات في شعر المهجر القديم تبدو مترفة جدًا إذا ما قورنت بحرقة وآلام المهجر الجديد، شرعيًا كان أو غير شرعي.

بين مهجرين

          في المهجر الأول، أواخر القرن الثامن عشر وحتى أواسط القرن التاسع عشر، اندفعت أعداد من أهل الشام باتجاه الشواطئ الأمريكية، الشمالية والجنوبية على السواء، وكانت الظروف الاقتصادية السيئة في فترة الحكم العثماني من أهم الأسباب التي أدت بهؤلاء إلى الهجرة، إضافة إلى الظروف السياسية وبعض الأسباب الدينية لدى العرب غير المسلمين من هؤلاء المهاجرين. ومن ثم يمكننا أن نرى أن معنى الاغتراب الداخلي لدى هؤلاء في أوطانهم الأم هو الذي دفعهم إلى الاغتراب الخارجي والدخول في مغامرة الهجرة. فالأسباب بين المهجرين أو الاغترابين متشابهة، لكن الاغتراب الجديد يفترق كثيرًا في نتائجه عن الاغتراب الأسبق، لأسباب أولها أن أعداد المندفعين للهجرة باتجاه الغرب باتت هائلة، سواء بالطرق الشرعية أو بغيرها، كما أن نوعية المهاجرين أنفسهم ليست كلها مما هو مطلوب في بلاد المهجر الحالي، ويبقى أخيرًا أن بلاد المهجر الجديد هذه لم تعد كتلك التي كانت تستقبل المهاجرين العرب منذ قرن أو قرنين. وهذا كله رسم ويرسم الآن صورة ليست سوداوية فقط بل دامية ومريرة أحيانًا لما يحدث في هذا المهجر أو الاغتراب الجديد. ففي موقع واحد - على سبيل المثال لا الحصر - من المواقع المستهدفة بالهجرة وهو الشواطئ الإسبانية القريبة من المغرب العربي، ذكرت لجنة حقوق الإنسان في إقليم الأندلس في تقريرها السنوي أن السلطات الإسبانية ألقت القبض على نحو 15 ألفًا من المهاجرين غير الشرعيين في العام 2000 وحده، وبلغ عدد القوارب التي وصلت السواحل الجنوبية الإسبانية بطرق غير شرعية في العام نفسه 780 قاربًا، بينما انتشلت فرق الإنقاذ جثث 55 مهاجرًا من المياه الإقليمية الإسبانية وتمكنت من إنقاذ ألف مهاجر شارفوا على الغرق. صحيح أن كل هذه الأعداد ليست من العرب، لكن أغلبهم كانوا عربًا، وأقلية منهم أتت من بلدان إفريقية متاخمة أو قريبة من المغرب العربي. ويمكن أن نرى هذه الصورة تتكرر، ليس على الشواطئ الإسبانية وحدها، وليس لمهاجرين من المغرب العربي وحده، بل على شواطئ أوربا الجنوبية كلها وأستراليا، ومن مختلف أقطار العالم العربي. وفي كل الأحوال تبدو الصورة مرعبة، وتصرخ بالمدى الذي وصل إليه تغلغل الاغتراب في صدور هؤلاء المهاجرين ودفعهم للهجرة، بثمن فادح، ليس من الناحية المادية التي تستفيد بها عصابات دولية احترفت تهريب الراغبين في الهجرة لأوربا وغيرها، وبإمكانات قاتلة، أو احتيال مأساوي، ولكن بمقابل يصل إلى حد فَقْد حياة كثير من هؤلاء الحالمين بالهجرة، وكأنهم يدخلون في مقامرة يراهنون فيها بحياتهم ذاتها.

          ولو تركنا الهجرة غير الشرعية جانبًا، لهالنا أحوال المهاجرين الشرعيين، بل المستقرين في بلدان الغرب الأوربي منذ فترة، خاصة العمال البسطاء وأصحاب الحرف اليدوية المتواضعة والمزارعين، فهؤلاء أصبح الاغتراب بالنسبة إليهم طاردًا بقسوة، بل نابذًا لأبنائهم، أي الجيل الثاني الذي ولد وتربى وتعلم في الغرب، وإن ظل يعاني بعضًا من معاناة أهله، خاصة مع تنامي التوجهات المعادية للعرب والمسلمين، التي لها أسبابها التي شارك في صنعها بعض العرب أنفسهم وكثير من مسلمي آسيا، ونفخ فيها المتربصون بالعرب في الغرب بعد كارثة 11 سبتمبر النيويوركية وانفجارات لندن ومدريد.

          لم يعد الغرب هو الغرب نفسه الذي استقبل الموجات الأولى من المهاجرين العرب الشوام في أواخر القرن الثامن عشر حتى أوائل القرن العشرين، فقد صار غربًا أقل تسامحًا وأكثر توجــسًا في العرب المهاجرين، ثم إن المهاجرين العرب والمتسللين للهجرة معظمهم من  العمالة غير المدربة، وفي الوقت ذاته بدأت منابع أخرى لهجرات هائلة تنفتح على الغرب، بشروط يراها الغرب أقل مخاطرة وأكثر فائدة، من أوربا الشرقية ومن بعض بلدان آسيا التي أجادت تدريب وتعليم أبنائها، من الهند والصين وبلدان جنوب شرق آسيا. وهؤلاء جميعًا صاروا عملة رائجة في سوق الهجرة العالمية، وهي عملة أكثر قبولاً في الغرب الحالي، وتساهم في طرد المزيد من المهاجرين العرب. فياله من نزيف لطاقات عربية، شابة في معظمها، تضيع في خضم البحر، أو تتحطم على شواطئ الاغتراب، وحتى من ينجو منهم، وينجح ويبرز في بلد اغترابه، يضيف إلى هذا النزيف نزيفًا من نوع جديد.

هجرة الأدمغة... والعضلات

          يقول الدكتور سعيد اللاوندي، وهو من الدارسين لموضوع المهاجرين العرب والمسلمين في أوربا: «في كل مرة يصادفني اسم من الأسماء العربية ضمن كبار العلماء والباحثين في العالم (والذين يحملون جنسيات الدول الأوربية)، أشعر بالمعنى المحزن لكلمة (نزيف)، التي نصف بها عادة هجرة العقول العربية، وانخراطها في مراكز الأبحاث العلمية في الدول الأجنبية. بل أكاد أقول إن كلمة نزيف هي أصدق كلمة يمكن أن تُطلق على ظاهرة «هجرة الكفاءات العربية إلى الخارج»، لأنها تعني الاستمرارية، كما تعني فداحة الخسارة أيضًا، وهو واقع الحال بالنسبة إلى هذه الهجرة، التي أكّدت الدراسات الإحصائية أنها تشمل اختصاصات ذات تقنيات علمية رفيعة مثل الهندسة والطب والفيزياء».

          إن الاستنتاج الذي وصل إليه الدكتور اللاوندي يبدو متناسبًا مع الأرقام، التي عرض لها، والتي تبدو مشيرة إلى فترة إجمالية ترجع إلى سنوات قليلة ماضية، وتقول: «إن 50% من إجمالي عدد الأطباء العرب قد تركوا بلادهم وهاجروا للعمل في أوربا الغربية والولايات المتحدة، كما تركها أيضًا نحو 52% من إجمالي عدد المهندسين، ونحو 20% من إجمالي عدد المتخصصين في العلوم التطبيقية.

          وقد كشفت إحدى الدراسات أن عدد المهاجرين من أصحاب الكفاءات بلغ 230 ألفًا، هاجر 120 ألف شخص مؤهل منهم إلى الولايات المتحدة وكندا بين عامي 1961 و 1972. أما توزيع الاختصاصات المهاجرة في هذه الفترة، فهي كالتالي: بلغت نسبة المهندسين 46.27 %، والمختصين في العلوم الطبية 34.35 %، وعلماء الطبيعة 5.2 %، والمختصين في العلوم الإنسانية 3.7 %. وقدمت الدراسة بيانًا بالأرباح والخسائر الناجمة عن الهجرة «وفيه أن رأس المال الداخل إلى الولايات المتحدة الأمريكية بفضل الهجرة إليها بلغ حوالي 30 بليون دولار بين عامي 1961 و 1972، ولسبب مماثل ربحت كندا بين عامي 1963 و 1972 نحو 10 بلايين دولار، وربحت بريطانيا 3.5 بليون دولار تقريبًا في الفترة بين عامي 1964 و 1972.

          أما خسائر البلدان العربية من جراء هجرة أصحاب الكفاءات من أبنائها، فتقدر بنحو 400 مليون دولار سنويًا. هذه إحصائيات قبل أكثر من ثلاثين عامًا، فما بالنا اليوم؟!

          هذا النزيف الذي تشكّله هجرة الأدمغة ليس معبرًا عن مجمل الخسائر العربية جراء الهجرة، فاليد العاملة العربية الموجودة بالفعل داخل المجموعة الأوربية فقط تقدر بما لا يقل عن خمسة ملايين عامل بمن فيهم الجيل الثاني الذي دخل سوق العمل بالفعل. وقد يقول قائل إن هذه الملايين الخمسة ليست من النخبة العقلية، التي تشكل خسارتها طرحًا كبيرًا من الرصيد العربي، وهذه زاوية نظر ليست صحيحة على الإطلاق، فهؤلاء معظمهم في عمر الشباب، عمر العطاء، وحتى لو كان عطاؤهم وقفًا على المجهود العضلي، فهم خسارة أكيدة، وخصمًا مما كان يمكن أن يعطوه لو أحسن توظيفهم فيما يجيدون تقديمه داخل بلدانهم.

          وسواء تحدّثنا عن المهاجرين المتميزين الذين يشكلون نزيف الأدمغة، أو هؤلاء البسطاء الذين يشكّلون نزيف العضلات، فإن واجبنا يحتّم علينا الاجتهاد، إما لإيقاف هذا النزيف، أو على الأقل تحويله إلى قيمة مضافة لرصيد عالمنا العربي، وهذا ليس بالمستحيل.

تحاشي السلبيات.. تعظيم الإيجابيات

          من المؤكد أن موضوع الاغتراب ليس شرًا كله، فثمة أوجه للخير فيه لو نظرنا إليه من زوايا مختلفة، فكثير من تدفقات المغتربين المالية تشد أزر بلدانهم وأهلهم في الأوطان الأم، كما أن نجاحاتهم تشكّل دعمًا معنويًا لهذه الأوطان وأبنائها، وبابًا للأمل في القدرة على النجاح والإنجاز والإبداع، وإشارة إلى ما يتعين علينا تقديمه لنحصل على نجاحات مشابهة داخل أوطاننا العربية. فضلاً عن البعد الثقافي في عملية الاغتراب، فمن المؤكد أن المغتربين العرب هم جسر لتكامل الثقافات من خلال ما يحملونه من إرث ثقافي عربي، وما يضيفونه من خلال اطلاعهم عن قرب على مصادر الثقافة في الغرب. لكن هذا ليس كل شيء نستطيع عمله في ساحة الاغتراب والمغتربين العرب، فهناك عنوانان كبيران يمكن أن يندرج تحتهما الجهد المطلوب للتعامل مع هذا النزيف المتشعب والدافق خارج الأرض العربية. العنوان الأول هو تحاشي السلبيات، والعنوان الثاني هو تعظيم الإيجابيات.

          ففي مجال تحاشي السلبيات، يمكننا أن نلتفت إلى تجارب غيرنا، وهناك أمثلة عدة لآخرين أداروا ويديرون قضية الهجرة بموضوعية وبعد نظر عادا على أوطانهم الأم بالفائدة واستبعاد المخاطر والسلبيات، وأمامنا تجربة كل من كوريا والصين والهند، فقد بدأ الكوريون صعودهم بالتعامل مع قواهم العاملة القابلة للتصدير أو الهجرة المؤقتة وفق جداول واتفاقات توفر لهم أفضل الشروط في مهجرهم، وتحتفظ لهم بحاضنة في أوطانهم تعوضهم عن قسوة الاغتراب، وكذلك تفعل الصين الآن، أما الهند فهي تقدم للمهجر - سواء المؤقت أو الدائم - جيشًا من التقنيين بشروط ويقظة لا تغفل عن مشاريع التنمية داخل الهند نفسها. وفي كل هذه التجارب بدأت استراتيجية الاغتراب الجيد من داخل هذه البلدان نفسها، بتعليم جيد لهؤلاء المهاجرين، وتدريب عال يكفل لهم أماكن جيدة في سوق الهجرة. فتقليص سلبيات الهجرة العربية يبدأ من داخل أوطاننا العربية نفسها.

          لكن التعليم الجيد والتدريب التقني الرفيع ليسا كل شيء، فالاغتراب الجيد - إن صحت التسمية - يتطلب تأهيلاً ثقافيًا، ولو في الحدود الدنيا، لفلسفة التعايش واحترام الاختلاف، ومراعاة تقاليد بلاد الاغتراب في الحدود القانونية والأخلاقية المقبولة.

          أما تعظيم إيجابيات الاغتراب، فهي تنصب على هؤلاء العرب المغتربين الذين استقروا في بلاد الاغتراب المختلفة، بإقامة نوع من الجسور بينهم وبين أوطانهم الأم للاستفادة من الخبرات المتقدمة، التي اكتسبوها في مهاجرهم المتقدمة، ولإرواء نوازع الحنين إلى الجذور التي تجعل حيواتهم في بلاد الاغتراب أكثر توازنا. وحسنًا فعلت وتفعل بعض البلدان العربية بإقامة مؤتمرات علمية وثقافية للمغتربين في أوطانهم الأم، كما أن إنشاء وزارات عربية تعنى بشئون المغتربين العرب، لهي من العلامات المطمئنة على أن هناك مَن بدأ يعي قيمة الثروة الإنسانية والعلمية، التي يشكّلها عرب المهجر الجديد خاصة النابهين منهم، وهم كثر وتهفو أفئدتهم لخدمة أوطان جذورهم، وليس هذا وقفًا على مغتربي الجيل الأول الذين هاجروا يافعين، فهناك مؤشرات تؤكد أن الحنين للجذور يمتد أيضًا في أبناء المغتربين من الأجيال التالية على الرغم من مولدهم ونشأتهم في المهجر.

          يبقى أن كل هذه الاقتراحات - سلبيات الاغتراب وتنظيم إيجابياته - هي مجرد خطوط عامة، يمكن أن يضاف إليها الكثير، فقضية الاغتراب العربي الجديد لم تعد ظاهرة محدودة، بل هي متسعة ومتفاقمة الاتساع، ولم يعد ممكنًا أخلاقيًا وعمليًا تركها وشأنها في بحار متلاطمة، وبلا ضفاف.

 

سليمان إبراهيم العسكري