أرقام محمود المراغي

أرقام

العالم يتغير.. والجيوش أيضا

لقد عاش العالم أكثر من أربعين عاما من الحرب الباردة، تكرس خلالها سباق التسلح. اخترع العالم أسلحة جديدة. امتلأت الترسانات. حاولت دول عديدة الدخول للنادي الذري بكل ما يعنيه ذلك من أعباء اقتصادية. ثم، توقف كل شيء. ذاب الاتحاد السوفييتي، وذاب "الكوميكون" وتراجعت - أو تلاشت - الأسباب التي تجعل خطر مواجهة نووية، أو مواجهة واسعة بين الشرق والغرب.. خطرا قائما.

ولكن، وفي نفس الوقت فإن انفجارات أخرى قد ظهرت، وبينما كان الخطر عالميا، فقد أصبح إقليميا. اختفى "السرطان"، وانتشرت "الحمى" التي تهزم جسد الكثير من الشعوب ولو لبعض الوقت، فجاءت الحروب الأهلية، والطائفية، والعرقية لترسم خريطة جديدة للخطر. خريطة تحركت فيها الخطوط والظلال من الشمال في الأساس، إلى الجنوب في معظمه.. ومن التخوم الأولى في حضارة القرن العشرين .. إلى تخوم مختلفة، كانت لها حضارات أولى، وبدت على الخريطة الآن وكأنها تخرج من الزمن وتعود أدراجها إلى حد نكران فكرة الدولة والعودة إلى نظام القبيلة، مع فارق واحد، أنه - وفي مقدمات القرن الواحد والعشرين، يعود النظام القبلي والطائفي والعرقي مدججا بأحدث الأسلحة، فليس بالحصان والرمح يحارب الأمريكيون أو سكان شبه جزيرة البلقان!

الصورة الجديدة

بين السرطان الذي عاشه العالم طويلا، والحمى التي انتابته حديثا، جاءت الصورة الجديدة لتقول : التسعينيات شيء آخر. الإنفاق العسكري يتراجع بشدة، وإن زاد في بعض البلدان. أما الأسباب، وإلى جوار قضايا الأمن، فهي تتصل بتراجع النمو الاقتصادي في السنوات التي نتحدث عنها (85 - 95) .. كما تتصل بعنصرين آخرين: انخفاض المعونات العسكرية على المستوى الدولي، حيث اختفت معونات السوفييت، وتراجعت معونات الآخرين وفي المقدمة: الولايات المتحدة .. و .. كعنصر آخر: مناخ جديد يتحدث عن الديمقراطية، والمجتمع المدني. مناخ تتراجع فيه "العسكرية" كقيمة أساسية تحدد وزن الدول وأقدارها.

حدث كل ذلك فتراجع مستوى الإنفاق العسكري بشكل حاد .. وكانت هناك أكثر من جهة تحاول أن ترصد بالأرقام، وتصادف أن تذيع هذه الجهات تقديرها في وقت واحد: يونيو (1996).

وفي تقدير معهد أبحاث السلام (ستكهولم)، والذي أذاعه في ذلك التاريخ أن الإنفاق العسكري في العالم قد انخفض بنسبة تتراوح بين (50) إلى (55) بالمائة بين عامي (87 - 95) .. وأن دولا مثل: الولايات المتحدة وفرنسا وإيطاليا والسويد قد خفضت إنفاقها بنسبة تزيد على (25%).

تقول أرقام صندوق النقد الدولي، إن العالم قد شهد إنفاقا متزايدا في الجانب العسكري لنحو (25) عاما متصلة، ولكن المعدلات قد شهدت اتجاها عكسيا منذ منتصف الثمانينيات، فنقص الإنفاق بما يعادل 1.3% من الناتج المحلي بين عامي (85 - 90) .. ثم، تزايد النقصان في السنوات الخمس التالية (90 - 95).

أخذ صندوق النقد عينة - هي الأهم في العالم - من (130) دولة.. فلاحظ أن نسبة الإنفاق العسكري قد تراجعت من (3.6%) من الناتج المحلي لهده البلدان عام (90 ) .. إلى (2.4%) عام 95.

الانخفاض هائل، حيث أصبح الإنفاق كنسبة مئوية من الناتج: ثلثي ما كان عليه. أكبر انخفاض تم كان في دول الاتحاد السوفييتي السابق، فبعد أن كان الإنفاق العسكري لهذه الدول يمثل (8.4%) من الناتج المحلي عام (90).. فإن النسبة قد أصبحت (3.1%) بعد خمس سنوات.

وفي بند التراجع، جاءت الدول النامية بشكل عام ومن بينها طبقا لتعريف الصندوق دول الاتحاد السوفييتي السابق ودول شرق أوربا - وكان التراجع من (4.9%) من الناتج المحلي إلى (2.6%). أيضا، كان التراجع في الدول الصناعية (21 دولة) من (2،3%) إلى (2.4%).. و.. ظلت الدول ذات المديونية الثقيلة عند حدود عجزها السابق وبنسبة ثابتة للإنفاق في السنوات الخمس هي 1.3% من الناتج المحلي.

وفي تقدير صندوق النقد الدولي لو أن العالم استمر في إنفاقه العسكري بالمعدلات التي كانت سائدة عام (85) فإن تزايد إنفاقه كان مقدرا أن يكون (720) مليار دولار عام (95) .. وإذا كان التزايد بمعدل سنة (90) فإن مقدار التزايد الذي كان متوقعا هو (345) مليار دولار.. أما الموقف الفعلي الناتج عن خفض الإنفاق فهو أن النفقات العسكرية قد قلت عام 95 بمقدار (121) مليار دولار.. وكان معظم الانخفاض فيما أسمته تقارير صندوق النقد "الاقتصادات التي في طور التحول" يعني دول شرق أوربا بالدرجة الأولى.

واختلفت الصورة من قارة إلى أخرى، ومن بلد إلى آخر. تراجع إنفاق إفريقيا من (3% من الناتج) إلى (2.1%) خلال التسعينيات، واستمرت آسيا في التخفيض لتصل إلى (2.3% من الناتج)، وسجلت أمريكا اللاتينية أنها الأكثر اعتمادا على التسلح فلم يزد عام (95) على (1.2) من الناتج المحلي.

و.. على العكس من ذلك زادت بعض البلدان من نفقاتها، مثل: الهند وباكستان واليابان وكوريا الجنوبية. الشرق الأوسط هو الأعلى دائما في التسليح، وترسانته العسكرية تنمو باطراد ومنذ فترة طويلة.

فقد انسحبت الدول الكبرى من حرب عالمية ثانية دارت بعض فصولها على أرض الشرق الأوسط. لتحل مكانها توترات إقليمية بدأت بقيام إسرائيل .. وانتهت بحروب عربية - عربية أو حروب أهلية وطائفية. لم ترحم الظروف العالمية أو الإقليمية بلدان هذه المنطقة والتي أفاء الله عليها بنعمة النفط، فإذا بجزء كبير من عائدات نفطها وطوال عشرين عاما أو يزيد (74-95) يتجه للتسليح وبناء الجيوش وصد الأخطار المحتملة .. حتى الدول غير النفطية، أو التي تعتمد على النفط بجزء يسير من ناتجها مثل: سوريا ومصر واليمن .. قد دخلت الحلبة بنسبة عالية من الإنفاق.

ويمكن القول إن المنطقة العربية قد شهدت خلال نصف قرن: ثماني حروب عامة، وست حروب أهلية.

بدأت حروب الشرق الأوسط بحرب 48 ثم 56، ثم حرب اليمن (62 وما بعدها)، ثم عدوان 67، فحرب 73، وغزو بيروت ولبنان (82) .. وحرب الخليج الأولى (80 - 88) ثم حرب الخليج الثانية (1995) .. ومن الحروب الإقليمية الواسعة، إلى الحروب الأهلية (وما شابه) كان الصراع المسلح في اليمن والصومال والسودان والجزائر ولبنان والعراق.

بدا المناخ السياسي في صيف 1996 - وبعد تشكيل حكومة إسرائيلية جديدة - أكثر تشددا، والتوقعات لمزيد من الإنفاق عسكريا، هي التوقعات القائمة يغذي ذلك استمرار مشكلة الأمن القومي في كل ربوع الوطن من الخليج، إلى منطقة الشام، إلى الشمال الإفريقي، وجنوب السودان وأنحاء الصومال.

ويغذي ذلك أيضا إغراءات شركات السلاح التي تجد في الشرق الأوسط أكثر من غيره بديلا لما حدث لها في أسواق أخرى أصبحت تنعم بالسلام.

 

محمود المراغي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات