«جدار بين ظلمتين» استعادة وتأصيل «الليبرالية العراقية»

جدار بين ظلمتين» استعادة وتأصيل «الليبرالية العراقية»
        

يعرف كثير من العراقيين رفعة الجادرجي، باعتباره معماريا متمّيزا اشتهر بتصاميمه منذ أكثر من أربعة عقود من الزمان. وذاع صيته على الصعيدين العربي والعالمي، لكن القليل منهم من يعرف رفعة الجادرجي كأحد الدعاة المخلصين والجادين للتراث الليبرالي العراقي.

          قد يكون ثمة غرابة في الأمر وربما مجازفة، أن يتصدى داعية أعزل لعالم مدجج بالآيديولوجيا، خصوصا بعد «انقطاع» نسل المدرسة الليبرالية العراقية، وربما العربية منذ أوائل الستينيات، أو هكذا بدا الأمر حتى أواسط الثمانينيات، فقد صرعتها الانقلابات العسكرية ودحرجتها بين الأرجل، في العديد من البلدان العربية، حيث انقطع خط التطور التدريجي وازدرت السياسة الأفكار وتطاولت عليها، خصوصا بصعود نخب سياسية شحيحة المعارف ومحدودة الثقافة وقليلة الاطلاع. وكان للتيارات الشمولية - بجميع ألوانها ومدارسها وكجزء من سياق تاريخي نشأت فيه - الدور الأساسي في محاصرة الإرهاصات الليبرالية العربية والعراقية الناشئة.

          وبقدر تأثير التيار الليبرالي في الشارع العراقي، فإنه ظل يعتمد على النخب الفكرية والثقافية، ويخاطبها ويتوّجه إليها في إطار عريض، خصوصا وقد نأى بنفسه عن العنف يوم ساد عام 1959 لتصفية الخصوم فكريا وسياسيا ومن خلال آلة الدولة وبمساعدتها في أجهزة رسمية أو غير رسمية أو شبه رسمية، خصوصا بعد حركة الشواف في الموصل 7-8 مارس 1959 أو ما تبعها من انتهاكات خلال أحداث كركوك في العام نفسه وفي بغداد وغيرها من مدن العراق، ويوم أصبح العنف الوسيلة الأساسية والمفضّلة للقضاء على الشيوعية وحواشيها وأتباعها في هستيريا منفلتة من عقالها بعد 8 فبراير عام 1963.

          إن الجادرجي رفعة الذي حاول استعادة الليبرالية العراقية في رغبة لتأصيلها، ظل هو وهذا التوّجه الجديد خارج الوطن، إذ لم يكن في تلك الأيام العصيبة، التي شهدت عبادة الفرد وتمجيد القوة وازدراء الفكر إلاّ أن يكون غائبا أو مغيبا.

          وعلى الرغم من أن ذلك يعدّ «انقطاعا» عن ساحة التأثير، فإنه انقطاع إيجابي وتخصيب جديد في ظل ضرورات لم يكن من الممكن الزوغان منها. وهكذا كانت هناك محاولة لإنضاج الثمرة في ظل «رعاية خاصة» وفي ظروف قاسية وغير طبيعية خصوصا أن تلك الثمرة تحتاج إلى تربة مناسبة وبيئة صحية، لكي تنمو وتترعرع.

          هكذا رأت أفكار رفعة الجادرجي النور في الخارج، حيث كان العراق منقسما بين «جدارين» أو «ظلمتين»، ظُلمةُ وظَلَمة السجن وظُلمةُ وظَلمة خارجه، وهذه التورية وجدت طريقها إلى عنوان كتاب رفعة الجادرجي وبلقيس شراره «جدار بين ظلمتين».

          وإذا كان الجادرجي رفعة قد نفى نفسه بعد خروجه من السجن، فإنه كان منفيا بل مستلبا بالكامل وهو خارجه، يوم كان في العراق، وذلك ما تكشفه تلك السردية الدرامية الهائلة التي يدوّنها على نحو شائق ومؤلم في الآن في كتابه مع بلقيس شرارة.

          إن انقطاع الداخل العراقي عن الخارج لم يتح له قراءة نتاج الخارج العراقي، الذي زخر بأعمال إبداعية متميزة ومهمة لمثقفين عراقيين عاشوا في الخارج، قدّر عددهم بنحو 3 آلاف مبدع، مما يتطلب «جهدا» مضاعفا لتجسير الفجوة وإعادة طبع وتأصيل نتاجات الخارج العراقي، ليصبح «داخلا»، خصوصا وأن فترة نحو ربع قرن كانت تفصلها عن بعضها حواجز وجدران سميكة، مثلما هو الجدار الذي فصل رفعة عن بلقيس زوجته.

بداية الغياب

          هل للسجن من فوائد، على الرغم من المرارة والعذاب والحرمان؟ وهل للمنفى على الرغم من الانقطاع والحنين والغربة من منافع؟

          ربما لو لم تتح لرفعة الجادرجي فسحة التأمل تلك على المستويين العام والخاص التي وفرتها تجربة السجن المريرة، خصوصا الصور التي كانت تمّر أمامه كشريط سينمائي ويحاول استعادتها، لم يكن لنا أن نطّلع على هذا المخزون الثري. لقد بحث رفعة وهو في قاع السجن وفي دهاليزه عن أجوبة لأسئلة كبيرة، ربما لم يفكّر فيها من قبل. بحث عن بديل أو بدائل لاستعادة إنسانية الإنسان المهدورة. ولكن هل يكفي هذا لمقايضة ما كابده الجادرجي من ألم وانسحاق وقلق ورعب خلال تلك الفترة المضنية؟

          لقد انقطعت حياة رفعة الجادرجي الاعتيادية يوم جاءه شخصان بملابس أنيقة وسيارة بيضاء صبيحة يوم 16 ديسمبر عام 1978، حيث كان عائدا من أوربا زائرا ومحاضرا حول «العمارة وجدلياتها». وإذا بهما يقتادانه إلى مكان مجهول بعد أن أخبراه بأن غيابه «لن يطول أكثر من 20 دقيقة.. يريدون الاستفسار.. بعض الأسئلة فقط وترجع إلى بيتك» وهو الأمر الذي كان يتكرر في العراق كل يوم تقريبا.

          ودام المكوث في مقر المخابرات، في الزنزانة رقم 26 ثم رقم 5 مدّة ستة أشهر، لم يستطع خلالها رفعة أن يغيّر ملابسه. وكان قد تردد أن سعدون شاكر مدير المخابرات حينها ووزير الداخلية بعد حين، كان قد صّرح بأن رفعة لن يتمكن من تبديل ملابسه فيما إذا كان الحكم بيدنا، عندها سنضعه في السجن وسيرى «نجوم الظهر».

          هل ثمة خصومة بين رفعة الجادرجي وسعدون شاكر؟ من المنطقي طرح مثل هذا السؤال، فكلاهما من قماشة مختلفة وثقافة مختلفة، كما لم يكن هناك حتى تعارف بينهما، اللهم إلاّ إذا كان «سعدون الجندي» كما كان يسميه أقرانه، حانقا على رفعة الجادرجي، يوم كان الأخير يزور مطار المثنى بعد ثورة 14 يوليو 1958 باعتباره المهندس المسئول وكان الأول يقضي فترة «التجنيد الإلزامي» في المطار، بعد أن تخلّف عن إكمال دراسته الثانوية، فهذا جانب من «الرواية»!

          أيكون ثمة حقد طبقي؟ حين كان الشاب الوسيم، المتأنق، الدارس في أرقى الجامعات، وسليل الأسرة الجادرجية المرموقة، خصوصا أنه ابن كامل الجادرجي الزعيم الديموقراطي وأحد رواد المدرسة الليبرالية العراقية، بينما كان سعدون شاكر يجر أذيال الخيبة والفشل؟ أم هو حقد على الفكر الليبرالي من خلال المدرسة الشمولية القومية المتعصبة، وبخاصة بعد السيطرة على السلطة والمجتمع بل والدولة بكاملها وإخضاعها لمصلحة فئة ضيقة ومعزولة وأقلوية؟

          لقد بقي رفعة الجادرجي حيث هو، أما الثاني أي سعدون شاكر، فقد حملته السلطة إلى أعلى المستويات من جندي متسكع، وحزبي صدامي في جهاز سرّي للعنف «جهاز حنين»، إلى قائد ومسئول، وأخذ ينظر إلى البشر من موقعه، فحاول الانتقام مستغلا صلة الجادرجي بإحدى الشركات الأجنبية، لكي تكون التهمة جاهزة سواء بدليل أو من دونه، مادام حصل ثمة «اتصال» بحكم العمل ووفقا لمواصفاته أو لم يحصل !!!

          لا أدري كم ستكون خسارتنا فادحة لو أن القدر فاجأنا وتمكّن من اختطاف رفعة الجادرجي وهو في سجنه، وهو أمر معتاد ومعروف، خصوصا أنه كان محكوما بالمؤبد؟

          لا شك أن الخسارة ستكون كبيرة، ليس لكون رفعة الجادرجي أحد رواد المدرسة المعمارية الحديثة فحسب، بل أيضا وهذا جانب غاية في الأهمية، لكونه حمل لواء إضاءة جديدة وإرهاصًا فكريًا بمحاولة استعادة وتأصيل الليبرالية العراقية وربما مواصلتها ! كما ستكون الخسارة شديدة لو ضاعت شهادة رفعة الجادرجي ذات السردية العالية، مثلما ضاعت شهادات عشرات ومئات من الشهادات، التي كان يمكنها أن تؤرخ لمرحلة تاريخية عصيبة وتعكس معاناة إنسانية رهيبة.

في خضم المعاناة

          ولعل كتاب «جدار بين ظلمتين» - الذي وضعه رفعة بالتعاون مع بلقيس شرارة - يشكل ملامح مهمة من سردية درامية لحياة يومية تتأسس في خضم المعاناة على الفكرة الليبرالية، التي نجد فيها الكثير من التفاصيل والمختلف والمتناقض من الأشياء، الممزوج بحبكة شديدة التعقيد، لكنها حبكة تعكس الواقع بكل تضاداته. فقد عرض لنا الجادرجي شخصيات وصورًا متكاملة تابعها بدقة ورسم ملامحها وحركتها. وربما أضاف إليها شيئا جماليا يكاد يكون مكملا أساسيا للسردية الجمالية وأعني به: الصورة ذاتها التي تتابعها بلقيس في النصف الآخر، من الكتاب، الذي لا يمكن قراءته إلاّ من خلال هذه الجدلية بين الظُلمتين أو الظَلمتين.

          لقد عبّر رفعة الجادرجي منذ خروجه من السجن في كتب عّدة عن أفكاره وتصوراته للعمارة والفن والجمال والفكر والسياسة، بطريقة غير اعتيادية، باحثا في التفاصيل وعن أدق الأشياء أحيانا، ومصّورا حركة الوجوه والألوان والأفعال وردودها، في محاولة لرفع شأن الفكر الليبرالي في العراق، الذي جرى تشويهه. وقد لا يخلو الأمر من شعور داخلي دفاعي ولكن بقراءات جديدة، وربما مستحدثة خصوصا، وقد شهد فترة سبات أو جدب بسبب العزلة والحصار والاستخفاف، وليس أدل على ذلك من إعادة طبع كتاب والده «مذكرات الجادرجي وتاريخ الحزب الوطني الديموقراطي» العام 2002 وهو الكتاب الذي صدر في أوائل السبعينيات بعد وفاة الجادرجي في العام 1968.

          من الأشياء المتّميزة في كتاب «جدار بين ظلمتين» أنه قدّم لنا بلقيس شرارة باعتبارها مشروع روائية، حيث تابعنا شخصياتها، التي رسمتها بدقة متناهية، مستغرقة في التفاصيل، متابعة بخيال كبير أجواء تلك المرحلة التاريخية... فهذه أم رفعة، وهي تمسك سيجارتها وتكظم غضبها وغيظها، وهذا هو نصير الجادرجي، وهو يتابع بصبر وأناة وحذر قضية رفعة بلقاءات وأسفار واتصالات تشمل شخصيات عديدة في العراق وخارجه، فضلاً عن بعض الزوار، في المكتب، الذين يتهامسون أحيانا ويحاولون التقاط أي خيط جديد عن قضية رفعة. وهذه وجدان ماهر المهندسة المعمارية، التي همست بيوم الأربعاء «المحاكمة»، وهي التي وصلها خبر إطلاق سراح رفعة بعد محادثة مع مهندسين التقاهم «الرئيس» تحضيرا لمؤتمر قمة عدم الانحياز (الذي لم ينعقد 1982).

          ويوم وصل بلقيس خبر احتمال إطلاق سراح رفعة عندما قال «الرئيس» ردّا على سؤال عن المهندسين المعمارين المطلوب منهما «تجميل بغداد»، التي تنتظر قمة عدم الانحياز، فأخبره أحد المهندسين بوجل شديد «لدينا خيرة المهندسين المعمارين...» فسأله الرئيس: أين هم؟ فأجاب: «واحد برّه والثاني جوّه» وقصد بذلك الدكتور محمد مكية المعماري الشهير ورفعة الجادرجي المعماري المعروف، أي أن الأول خارج العراق والثاني في السجن، فما كان من «الرئيس» إلاّ أن يقول «البرّه نجيبوا والجوّه نطلعوا» هكذا بدا المشهد من عالم اللامعقول، فبعد أسابيع يجتمع على مائدة «الرئيس» صدام حسين، محمد مكية ورفعة الجادرجي، ليبحثا ومع أمين العاصمة أيضا (سمير الشيخلي) - وهي مفارقة أخرى -موضوع تجميل بغداد واستقبال وفود دول عدم الانحياز.

          العالم السريالي السجني، الذي تحدث عنه رفعة بدا «واقعيا» أو أكثر سريالية من الخيال نفسه بحكم اختلاط الخيال، بالواقع والواقع بالخيال لدرجة لم يكن بإمكانك التمييز أحيانا بين الأول والثاني، فما هو واقعي يصبح خياليا، وما هو خيالي يصبح واقعيا، لدرجة استبدال المواقع والأماكن والتواريخ والأسماء والمواصفات والوقائع، يوم تحوّل «المجرم» المحكوم بـ «المؤبد» والمكروه من الرئيس السابق أحمد حسن البكر، والمنكّل به من جانب سعدون شاكر، الحاقد والمنتقم، لأسباب بقيت غامضة، إلى جليس مع الرئيس ومعه مكيّة، الذي كان الرئيس هو الآخر يقدّم له التسهيلات لكي يعود. كل ذلك يحدث دون مساءلة أو مناقشة أو مراجعة أو رد للاعتبار، بل بحكم إرادة الفرد المهيمن على كل شيء، فهو الحاكم بأمره وتلك إحدى مكرماته، حين يعفو ويمنح ويلغي ويصادر و«يعلي» و«ينزل»، ولكن كل ذلك كان بعيدا عن دائرة القانون والقضاء، اللذين كان يتم استذكارهما فقط عند تبرير أي «فعل»!!

دون مؤسسات

          يومها هجس رفعة وهجست بلقيس، أن الفرق كبير بين تجربة سجن كامل الجادرجي (الأب) وتجربة سجن رفعة، ذلك أن الحاكم الذي أصدر الحكم بحق الجادرجي الكبير كان يحكم بنوع من المؤسسات وبشيء من «الشرعية»، حتى وإن شابها الكثير من الملاحظات والطعون، ولكن الحاكم الحالي كان يحكم بأمره ودون مؤسسات وكان بإمكانه تغييب رفعة، ولكن حكام أيام زمان لم يكن بإمكانهم تغييب كامل الجادرجي، وهو ما استذكره ماجد مكي الجميل في كلمته عن عمّه حسين جميل نقيب المحامين العراقيين الأسبق، وأمين عام اتحاد المحامين العرب وأحد رواد الفكر الليبرالي الديموقراطي العراقي، حين قارن بين سجنه وسجن ابن أخيه، حيث قال «حسين جميل»  لماجد: سجني أقسى من سجنك لأن من سجنني كان يملك مؤسسات، في حين أن من سجنك كان يفتقد إليها، وبهذا المعنى فإن حجب حريتي كان أكثر قسوة من حجب حريتك.

          بجرّة قلم ألغي حكم المؤبد بعد أن أشار «الرئيس» إلى طارق حمد العبد الله، أحد مرافقيه - الذي انتحر فيما بعد لأسباب أخرى تتعلق بالهواجس أيضا - مخاطبا إياه: ضروري إنهاء قضية رفعة. هكذا أسدل الستار وكأن شيئا لم يكن.

مشروع رواية

          إن كتاب «جدار بين ظلمتين» هو مشروع رواية بكل معنى الكلمة ففيه سردية عالية الحساسية لسيرة سجنية، كما فيه سردية أخرى لحياة لا تقل عتمة عن السجن، حيث الشائعات والرعب والمخبرين والأدعياء والقلق والمصير المجهول.أما القانون وحقوق الأفراد والمجتمع، فتلك أمور ليس لها عناوين في قاموس الحكم الشمولي المطلق والحاكم بأمره.

          لولا صدور هذا الكتاب الشائق، ما كنّا قد حصلنا على مصدر جديد للتجربة العراقية، حيث عالم كافكا العراقي تجده ماثلا للعيان.

          ربما كانت مقدمة بلقيس شرارة عن كتاب أختها (حياة شرارة) الأستاذة الجامعية التي انتحرت (في أواسط التسعينيات) هي وابنتها بطريقة عاصفة وفاجعة ومثيرة، مقدمة لهذا العالم الكافكوي، الذي يتحوّل فيه المرء الى صرصار.

          يتحدث رفعة عن الزنزانة رقم 26 فيقول «... لا تدخلها الشمس الاّ لبضع دقائق وقت الغروب». كان رقمه 200 وطلب منه أن ينسى اسمه.. «أجساد ملقاة في الزنزانة بلا حركة، وبلا صوت، سوى معاناة داخلية، لا تُسمع خارج الأبواب الحديدية» ص 144 هكذا يكون كل شيء ثقيلا هواء ثقيل ممتزج برطوبة أنفاس الآخرين، وروائحهم النتنة... «ص 146. ثم يرسم رفعة صور الشخصيات السجنية عبر سوسيولوجيا ثقافية نافذة «فهذا أبو علي: الراعي من غرب العراق، انتهازي، أناني، متملق، يخضع للحرس ويناديهم بـ «سيدي» يتباطأ باستعمال المرحاض من غير مراعاة حصة الآخرين».

رفاق السجن

          يتحدث رفعة الجادرجي عن سعد الإطفائي، اللطيف، النظيف، المصاب بأرق إرهابي دائم وهو الخوف من التحقيق. أخوه متهم بالشيوعية ولذلك فهو دائم الرعب. ويذكر قدراته الخارقة: قدرته في معرفة الوقت، دون ساعة، فيقول لك: الساعة الآن الخامسة والربع أو العاشرة إلاّ عشرة دقائق. يتعرف على الوقت عن طريق الصوت، صفير القطار، حركة سيارة المخابرات، موعد وجبات الطعام، زقزقة العصافير في المساء أحيانا.

          أما حامد فهو من جنوب غربي العراق، قصير القامة، بدين، سريع الحركة، يتصف بقفزات متقطعة، صاحب دكّان للمواد الغذائية، لا يراعي حصة كل فرد للمدة التي يقضيها في الحمام، يضربه الحرس على رقبته، وهناك إيراني الجنسية، لا يكّلم أحدا، يشك بالجميع ويصلي ويتوسل إلى ربه (ص 158).

المحامي الموظف

          لقد خصصت الدولة محاميا للدفاع عن مجموعة رفعة كما كانت تسمى «أصحاب القضية الواحدة» وهو لا يعتبر محاميا بالمعنى المعروف في القانون والعرف الدولي، وبخاصة إزاء المحاكمات العادلة والمعايير الدولية، بل هو موظف عينته السلطة ليقوم بتأدية هذه المهمة مقابل أجر مقطوع. ومهمة المحامي ليست الدفاع عن المتهم، وإنما طلب الرأفة والرحمة من السلطة، بحق المتهم وتخفيض الحكم، ولا تستغرق محاكمة المتهم عادة أكثر من بضع دقائق قبل أن يقرأ الحكم المقرر بحقه مسبقا. ص (187)

          تقول بلقيس عندما حاولت استنطاق نصير الجادرجي (شقيق رفعة) وهو من المحامين المعروفين: لقد جثت الكلمات ضاغطة على شفتيه وأزاح ما ينوء به عندما نطق كلمة «مؤبد». ثم تقول بعد صمت طويل ومرير: انفلت الصمت السجني بين شفتي وعصرت كلمة مؤبد بين فكّي وأسناني وسال عصيرها القاتم المّر بين شفتي، مؤبد، مؤبد، مؤبد.

          وهنا نلاحظ صورة التناقض وجمع الأضداد، فبعد هذه الصورة القاتمة تعود بلقيس لتصف الربيع بعنفوانه الزاهي، الضاحك، وعشب الحديقة الغامض المقصوص بالتساوي كسجادة خضراء، والياسمين المتسلق على جدران دارنا بألوانه الوردية، البيضاء، تفوح رائحتها العطرة في أجواء الحديقة.

          وتصف كيف انفجر السائق حسين بالبكاء عندما سمع خبر حكم رفعة بالمؤبد، وهو السائق الذي عاش مع العائلة ردحا من الزمن وصار جزءا منها، هكذا يشعر وهكذا يشعرون.

          لم تكتفِ بلقيس بذلك بل تصف لنا «لسعة الشامتين بنظراتهم كلسعة النحلة، ولكن كانت خيبتي عميقة ولسعتي مؤلمة كلدغة العقرب المفاجئة من الأصدقاء الذين ظننتهم سندا في تلك المحنة»ص (216). لقد انقطع البير عن زيارة بلقيس، وكان التبرير: متألم على صديقه وخائف على نفسه، وهو أمر طالما تكرر في عالم الرعب العراقي، ولا يشمل الأصدقاء أحيانا، بل الأهل والأخوة والأخوات والأعمام والأخوال، مادام الحاكم يتهم الجميع.

          وتصف بلقيس ألمها من بعض المظاهر الاجتماعية المنافقة بالقول: لم أكن أدعى إلى حفل خطبة أو زفاف، حتى من أقرب الناس إليّ، فقد أخفوا وكتموا عني أفراحهم... المجتمع التقليدي قاس على المرأة، الأرملة لاحّق لها بالتبّرج أو ارتداء الألوان البهيجة. انحصر حقي في حضور المآتم فقط كان في تلك المآتم نسوة لا يستطعن التوقف عن الكلام، كنت أعود إلى الدار كئيبة، أستمع إلى مغنية الأوبرا ماريا كلاس وأتخلّص من أشباح الموتى.

          لنستمع إلى حوارها الداخلي وهي تردد «صرت أتجنب زيارة المعارض الفنية، لكي أتفادى جفاء بعض الناس، كأنهم يخافون وباء أنقله إليهم إن ردوّا علّي السلام»... وتضيف «كان يعزّ علّي أن أجد أُناسا مثقفين ومتعلمين، يؤمنون بقيم التحرر ولكنهم يتصرفون بأسلوب المجتمع الأبوي، ولا يختلفون في تفكيرهم وتطبيقهم للتقاليد عن الإنسان الجاهل البسيط...» وتفصح بلقيس عن رأيها بالقول «... نحتاج، إلى أجيال لتحديث العقلية وإلغاء القيم السلفية - التي هي أقوى بكثير من الإرادة التحررية...» ص (223 - 225).

          ومن سياقات فكرها الليبرالي، النصف الآخر لفكر رفعة تصف حال المجتمع، «اتجه البعض إلى الدعاء والصلاة، فلليأس رائحة نتنه عندما يخبو الأمل ولا يستطيع الانسان الاستمرار في الحياة اليومية، بل يتمسك عندها بالغيبيات ويلجأ إلى السحر والشعوذة والتعاويذ...» ص 226.

          تنقل هنا صورة عن تردي المجتمع وحال بعض صديقاتها اللواتي اتجهن إلى السحر وقراءة قهوة الفنجان وزيارة العرافات وقراءة الكف والودع.

          كيف لها أن تقبل كل ذلك وهي التي نشأت في طفولة لا تؤمن بذلك، وكانت تتعامل مع مقترحات البعض، إلى أم رفعة «بقراءة سورة معينة من القرآن الكريم ألف مرّة» بالصمت، والازدراء الداخلي.

عشرون شهرًا من الظلمة

          «جدار بين ظلمتين «هو سيرة ذاتية واقعية لمرحلة زمنية تتجاوز العشرين شهرًا، ولم يكن لهذه السيرة أن تدوّن إلاّ خارج العراق وعشية رحيل الاستبداد.

          وإذا كان كثيرون دخلوا السجن، لكن رفعة كان مختلفًا عاش في السجن على طريقته الخاصة، ودوّن أدق التفاصيل واليوميات على نحو روائي. أما الجدار الذي كان يفصل رفعة عن بلقيس فقد كان غير قابل للاختراق، بحيث جعل كلا منهما يعيش في ظلمة على حد تعبير رفعة في مقدمة الكتاب. وبعد 15 سنة قرّرا أن يكتب كل منهما من موقعه عن ذلك الجدار الذي فصلهما عن بعضهما، فكتبت بلقيس عن الظلمة الخارجية بما فيها من أحداث ومشاعر ومحن وإحباطات، وكتب رفعة عن الظلمة الداخلية.

          كان الجو الذي خيّم عليهما يفرض على كل منهما أن يواجه الأحداث بمفرده ولا يستعين بالآخر.

          طريقة الكتابة والغلاف هي الأخرى متميزة. اتفقا أن يكتب كل منهما ما يتذكره بمفرده من غير أن يطلع عليه الطرف الآخر، وذلك بهدف استكمال النصوص واستهدفا «تكوين خزين مرجعي صادق ومحلل للأحداث»، أي تحويل الذاكرة الشفهية إلى ذاكرة مكتوبة، وتحويل الأحداث اليومية البسيطة وربطها ببعضها إلى نوع من السردية عن مرحلة من مراحل التطور السياسي في العراق، وإن كان الهدف غير سياسي، كما سيأتي ذكره على لسان الكاتب رفعة نفسه. أما الغلاف فقد انقسم إلى قسمين بشكل هندسي وكانت الظلال هي الحد الفاصل بين طرفي الجدار المعتمين.

          لكن تلك السردية اشتملت على الانتصار لحقوق الإنسان والقيم التي تؤمن بالحرية سواء كان مصدرها علمانيًا أو دينيًا. ويلقي رفعة من خلال فصول الكتاب الأربعة وكذلك بلقيس، بلغة غنية ومثيرة وبأسلوب أنيق ورشيق، نظرة نقدية للمجتمع العراقي ومرجعياته، كما يبيّن مواقفه من الوجود والحداثة والجمال وغيرها. ويشير إلى أن أوساطا واسعة غارقة في عالم الغيبيات والأساطير وتشكل معوّقا فكريا إزاء متطلبات الحداثة والتغيير.

          ويتوصل رفعة الجادرجي إلى استنتاج مهم هو: إن المجتمع العراقي لم يمتلك فرصة لممارسة السياسة، قبل تأسيس الدولة العراقية، وما حصل بعد تأسيسها جاء ناشئا وأخمد في مهده، وبقيت الدولة الناشئة تابعة لسلطة رجال الحكم ومُبتلعة من قبلها، وذلك لأسباب متعددة منها:

          أولا - أن المجتمع العراقي لم يمارس السياسة في السابق ولم يمتلك دولة مبنية على المؤسسات بالمفهوم العصري، ولذا فهو لم يدرك أهمية السياسة في تنظيم إدارة معيشته، والحرية التي يمكن أن يتمتع بها ويمارسها.

          ثانيا - أن المجتمع العراقي لم يحظَ بقيادة سياسية فكرية أي مرجعية، تسعى لتوعيته، فظل مُستلبا تحت إدارة سلطوية سواء كانت دينية أو دنيوية، وهنا تكمن - حسب الجادرجي - أهمية تكوين مرجعية فكرية سياسية معاصرة.

          إن هواجس وتحديات الفكر الليبرالي التي جسدتها بشكل خاص تنظيرات الجادرجي الأب وحسين جميل وفيما بعد إرهاصات الجادرجي الابن والحنين النستالوجي للمدرسة الليبرالية العراقية، ومن ثم هيمنة الفكر الشمولي وتطبيقاته المختلفة، هي التي تجعل الجميع اليوم أمام سؤال كبير: ما السبيل إلى استعادة العراق نموه الطبيعي بعد سنوات عجاف من العسف والاستبداد، وأخيرًا وقوعه تحت الاحتلال وصعود تيارات دينية طائفية ومذهبية، وفي ظل انقسام وتشظ وعنف منفلت من عقاله ولهاث وراء المصالح الأنانية الضيقة؟!

          ربما يساهم الجواب الصحيح عن هذا السؤال البسيط والمعقّد في آن، في فتح الطريق مجددا أمام تطور ديموقراطي وتراكم طويل الأمد لاستعادة الحياة المدنية السلمية الطبيعية.

هـاتي الـتآويهَ يـا قِيثَارتِي هاتي وردِّدي مـن وراءِ الـليلِ آهـاتي
وتـرجمي صوْتَ حُبِّي للجمالِ ففي نجواكِ- يا حلوة النّجوى - صباباتِي
قيثارتي صوت أعماقي عصرت بها روحـي وأفْرَغْتُ في أوتارها ذَاتِي
قـِيثَارتي أنـْتِ أمُّ الـشّعرُ لم تلدي إلا غـنا الـخُلدِ أو لحن البطولاتِ
أودَعـتُ نـجواكِ آياتِ النّبوغِ فيا قِـيثارَتِي لـقّنِي الـتاريخ آيَـاتي
وغـرِّدِي بـخَيَالاتِي الـعذاب فـما حـقيقةُ الـسِّحْرِ إلا مـن خـيالاتي


البردوني

 

عبدالحسين شعبان