ثقافة التداخل

ثقافة التداخل
        

«هل تكون ثقافة التداخل إيذانًا بزوال النزعة الإنسانية والنظم الثابتة في الفكر كما في الحياة؟!»

          تنزع الثقافة المعاصرة في بعض جوانبها نحو التقليل من شأن الدراسة، التي ارتبطت كثيرًا بالنزعة الإنسانية، وفكرة القوة الفردية الخلاقة، والخيال الذي يصهر المتباينات - تنزع الثقافة المعاصرة نحو التقليل من شأن الأنظمة المستقلة المكتفية بذاتها بوصفها قوة مركزية - لقد حلت القوة التداخلية أو التفاوضية محل القوة المركزية.

          ليس ثم نظام ثابت. هناك علاقات متحركة مختلفة أبدًا. إرادة القوة الناتجة عن التداخل هي الأهم. والرغبات على إطلاقها أوسع من فكرة النظام الثابت أيضًا. القوة العاتية هم الدراسة لا الحق والخير والجمال، الدراسة الثقافية معنية بعدم التركز حول النظام الثابت، بل معنية برغبات لا تنتهي وعلامات لا تتوقف، وتداخل الأبنية أو الأنظمة، واللهث نحو القوة الذي يسمى بطريقة غير مباشرة لهث الدّوَال.

          لقد اجتمعت ظروف عقلية واجتماعية للنيل من كرامة النظم المستقلة. كانت هذه النظم مهيبة وقورًا. انتزعت هذه الهيبة، وأصبحت الأعمال المستقلة مجرد نصوص متداخلة لا يعرف لها نقطة بدء ولا نقطة انتهاء.

          اليوم يتراجع الدفاع عن النظم المتمايزة ويشتد الاهتمام بما يشبه تزاحم النصوص والواقعات. هذا التزاحم الذي تصعب فيه السيطرة. زحام النصوص هو نفسه تداخلها، وهو نفسه زحام المنافع، والغلبة التي لا تحتاج إلى كلام كثير عن الشعر والحكمة والجمال والإفصاح. زحام النصوص أو تداخلها يهتك القوة الذاتية. هذا مفهوم ثان للسيطرة. الثقافة الآن تعني السيطرة. السيطرة شيء غير متاحف الشعر والفنون الرفيعة. الثقافة الآن ليست إلا حواشي على كل ما يزكي الصراع السياسي والاقتصادي والإعلامي والحضاري. من أين لنا هذه الهناءة الافتراضية، التي كانت ترتبط في عقولنا من قبل بفكرة الثقافة - من أين لنا هذا الصقل والتهذيب الذي كانت تتعلق به الثقافة من قبل.

          أولى من الصقل والهناءة بحث شئون السيطرة. والسيطرة مفتاحها فيما أظن مسألة انفصال الدال عن المدلول - لقد كانت هذه الملاحظة المبكرة بمنزلة نبوءة مسيرة ثقافية جديدة لا تعبأ بالتوحد، والتماسك القاسي والمنفعة المتجانسة، والأهداف الشديدة الوضوح - لقد آذن انفصال الدال عن المدلول بما يشبه الدفاع عن العالم المعاصر المتمثل في السوق الحرة، والتنافس الشديد، والعصف. اختفى من مفهوم الثقافة أحيانًا الاتكاء على السماحة والقبول، واختفى الإلحاح على تجنب الجشع والإعياء. ظهرت إرادة القوة على السطح. اختفى من مفهوم الثقافة الإلحاح على المعنى السابق للكمال والبصيرة وصوت الإنسان، ومعالجة الأعماق، ومسألة الوعاء الأمثل لحكمة الإنسان وتجربته. اختفى من مفهوم الثقافة النمط السابق من إعلاء التجربة لوجه التجربة. كانت مفاهيم الثقافة السابقة تركز أحيانًا على العقلي أو المنطقي حبًا في العقلي والمنطقي، وكانت تركز على إجلال الدراسات الفلسفية والأدبية، وما يسمى الحكمة الإنسانية العظيمة.

من الحقيقة إلى المنفعة

          لدينا الآن مفهومات ثانية للثقافة لا تتصل بفكرة العظمة والإجلال اتصالها بفكرة النافع، وخلق الرغبات، وتداخل الرغبات والمنافع أيضًا، لابد للتداخل أن يغزو، ولابد للمركزية الواضحة أن تنقّب، ولابد أن ننظر في بعض الأحيان إلى فكرة المبادئ والقواعد باعتبارها أمورًا مؤقتة.

          هنا تظهر الإثارة التي كانت تتعفف عنها بعض المفهومات الثقافية باعتبارها بلاغة صارخة، المهم أن مفهوم الثقافة في هذه الأيام، شديد الاختلاف عن مفهومات سابقة. يقال إن هذا المفهوم معني بمحاربة الطغيان، هذه العبارة لا تخلو من التواء، لقد أصبح ما يسمى محاربة الطغيان رديف الإخفاء لا الإظهار، يقال أحيانًا إن الإخفاء رديف القهر.

          الثقافة في أحد معانيها المعاصرة لا تتباهى بانتمائها إلى حقيقة، وإنما تتباهى بجيش من الاستعارات المتداخلة في استعارات. اليوم تعتبر الأحداث الجسيمة استعارات، وتتداخل فكرة الاستعارات والمناظر على الشاشة والمعلومات المتدفقة في الإنترنت. هذه الاستعارية أو المجازية أو التداخلية الجديدة يراد بها محاربة التسليم والثبات، يراد بها خلق جوّ ثان من التغيير الذي لا يكشف عنه بوضوح.

          لقد أشاعت مفهومات الثقافة الحديثة مفهوم المجازية أو الخيالية، وأصبح ينظر إلى كل عبء جسيم نظرتنا للقهر. لكن خصومة القهر الآن لا تتم من خلال صهر الآفاق الذي تحدث عنه كولردج ثم جادامر. صهر الآفاق حديث الماضي، أو حديث نمط من الثقافة، الآن يشيع نمط ثان باهر تختلط فيه الحرية والقهر، ويختلط فيه الأدنى والأعلى، والأقل والأكثر، الأكثر رواجًا والأقل رواجًا. ها تطور دقيق، لكن أصحابه يصرّون على أنه مقبول وغير مروّع. لقد اتهم المنظور السابق للخيال أو الثقافة بأنه نوع من الرّوع والمهابة. اليوم تختفي المهابة والرّوع بفضل النزعات التداخلية، التي هي بمعزل عن التوكيد، ووضوح المواقف.

          في النزعة التداخلية لا نشجع دائمًا الحدود - الواضحة المعالم التي كانت تعبيرًا عن النظام المستقل - اليوم يعتمد النجاح الفكري والعملي على التقليل، بين وقت وآخر، من شأن هذه الحدود. لنقل بوضوح إن مفهوم الثقافة بالأمس كان قرين الإقرار، بما كانت الفلسفة الإغريقية تسميه باسم الكمال الحقيقي. لكن مفهوم الثقافة اليوم يغلب عليه الريب في هذا الكمال. يغلب عليه ما كانت تسميه الثقافة الإغريقية باسم الكمال الظاهري. لكن هذا الظاهري يعتبر الآن الشيء الوحيد الذي نملكه أو الشيء الوحيد الذي يمكن الدفاع عنه، والشيء الوحيد الذي لا تعابثه أعماق، والشيء الوحيد الذي يمكن أن نصفه بالتداخل وسرعة الحركة، وجمع المتباينات دون احتفال مستمر بالصهر أو الاندماج - لنقبل إذن، فيما يقال، معنى آخر للثقافة تجتمع فيه توجهات متعددة من الاختصار والفضول، والحذف والإثبات، والقمع والحرية. هنا نخدم التعقيد الذي تطوّر إليه مفهوم التركيب الذي  شاع في النقد الذي سمي يومًا باسم النقد الجديد.

النقد وتجاهل الواقع

          النقد الجديد أغرى المفهوم الثقافي المعاصر بتجاهل فكرة المرجع الخارجي الذي كان يسمى باسم الإشارة. ومغزى هذا أن النقد الجديد أغرانا بأن نتجاهل فكرة الواقع والظروف الخارجية، وأغرانا بالعكوف على ما يسمى عالم الخطاب ومفارقاته وتناقضاته - هنا يمكن أن تنسحب من المفاهيم المعاصرة للثقافة العناية السافرة بالأمور الاجتماعية. ربما أعان النقد الجديد، من حيث لا يشعر، على أن تستعمل كلمة الثقافة فيما يسميه الخصوم باسم إرادة الانفصال والتوسع في تكوين المجازات التي تسمى باسم الخطاب. المهم أن الثقافة بمعناها المعاصر تجنح، بين وقت وآخر، نحو التقليل من شأن نيابة المواقف عن مواقف، أو التقليل من شأن الذاكرة، وتكامل الذاكرة والمواقف الحاضرة. لقد كان العبث بكرة الذاكرة قرين فكرة الحداثة نفسها. وقد استُغل هذا المبدأ فيما سمي بعد البنائية وحليفتها بعد الحداثة تحت شعار انفصال الدال عن المدلول، لنهمل إذن، فيما يقال، ما سبق غير آسفين عليه.

          هذا الانفصال ربما يحتاج إلى تعليقات كثيرة نكتفي منها في هذا المقام بتلوين الاعتماد المتبادل. يكاد يكون الاعتماد المتبادل مختلفًا عن مسألة التداخل. بعبارة ثانية يختلف التداخل في المنظور المعاصر إلى حد ما عن مفهوم التفاعل الذي لا يخلو من تجاوب. إرادة القوة هي إرادة التداخل، وإرادة بقاء المتعارضات أحيانًا، والانتفاع بهذا البقاء. هذه دنيا ثنائية خاصة تعتمد على تداخل الإخفاء والإظهار بحيث لا ينوب شيء عن شيء بطريقة ساذجة، ولا يذكر حاضر بماض بطريقة ساذجة أيضًا.

          إرادة القوة الآن هي إرادة التداخل، والتداخل قرين النقاب، لا قرين الكشف الدقيق. التداخل عبارة شديدة الأهمية تعنى أن الصداقات تختلط بالعداوات، وأن الأقنعة الأساسية تغني عن تمثيل الواقع، وأن القوة المختلطة خيرٌ من القوة الشديدة التركيز في بعض الظروف. هذا ما يقال عنه إنه المفهوم المعاصر لكلمة السلطة وكلمة الخطاب وكلمة المجاز أيضًا.

كيف ننجح في التعامل مع ثقافة التداخل؟

          من السهل أن تنقم على هذا كله أو بعضه، لكن ليس من السهل، ولا المفيد أن تغض عنه النظر. كل ما كان موضوع اعتزاز من مثل الصدق والإنسانية، والنزعة التنويرية، صار يستخزي أمام حملات بعض الثقافة المعاصرة أو حملات التداخل الباحث عن المصالح النافذ في حياتك وحياتي دون وعي منا. إذا قلت إن هذا الجو محيط بنا وجب عليك أن ترتاب في بعض ما يصنع باسم الإصرار على النظام المستقل. كيف نعيش في عالم التداخل؟ وكيف نخرج منه عند الحاجة؟ كيف نأخذ في عالم التفسيرات؟ وكيف نحتمي منها؟ كيف نجعل المجازات فعلاً إيجابيًا؟ وكيف نكتفي، دون مبرر واضح، بما يشبه المتعة الجمالية بهذه المجازات؟ كيف ننجح في التعامل مع الثقافة المعاصرة؟ كيف ننجح في الأخذ بها من ناحية، ومقاومتها دون خشونة ولا ضجيج من الناحية الثانية؟ كيف ندخل في الملعب؟ وكيف نتحول إلى مقاعد المتفرجين مرات عقب مرات دون مشقة؟ كيف نعامل الأحداث الجسيمة في بعض الظروف معاملة الاستعارات والمناظر على الشاشة؟ وكيف نقاوم الإحساس بقوة هذه المناظر؟! هذه مهام جديدة لا أعرف أن الدراسة العالية في الجامعات العربية تقوم بها بشكل منتظم قوي. إن لدينا احتياجات ثقافية ضخمة لا أعرف أننا ننهض بها. هذه الاحتياجات من حقها أن تشارك في تكوين المناهج. لكن المناهج الآن غارقة في التاريخ، أو غارقة في إنسانية سابقة أو استقلالية معزولة، أو غارقة في الخروج من الدنيا التي نعيش فيها. إن الصفوة اليوم صفوات كثيرة ينكر بعضها بعضًا. وهذا يعني أن الجامعات لا تأخذ كثيرًا بتوافق حقيقي أو تداخل مثمر للأهداف. تداخل الأهداف أمر ينبغي أن يوضع موضع الاعتبار. إن الاتفاق حول أهداف متداخلة حقيق بالنظر، لكننا في مناقشتنا، ربما نجري في سياقات متدابرة، وحملات فكرية شخصية لا اجتماعية تداخلية. إن التدخل بين العلم والدراسات الإنسانية، بين النظر والتطبيق، بين ما يعني العالم وما يعنينا على الخصوص، ليس موضوعًا واضحًا بدرجة كافية. أحيانًا نستهلك نشاطنا في توزع لا يربطه تداخل، وفي أبحاث أكاديمية لا تصب في نهاية المطاف في تعميق وعي ثقافي شامل.

          لقد اختفت أغراض هذا الوعي وتداخلاته فيما نسميه التخصص الدقيق، وصار بعضنا ينكر بعضنا الآخر، وصرنا إلى ما نسميه التفتت، واختلطت التعددية في ممارستنا لها بالتشرذم والثروات الفردية. إننا لا نبعث بأبنائنا إلى الجامعات من أجل التوفر على المعاني السابقة وحدها، وترسيخ أهداف الأساتذة الفردية، إننا نبعث بهم لكي يقتربوا من حياة جديدة صعبة متداخلة متكاثفة غامضة قوية سريعة لا أعرف أننا نكترث بها اكتراثًا متصلاً دقيقًا. إننا الذين لا يخرجون من تخصصاتهم يسيئون تصوّر هذه التخصصات. ينبغي أن نتأمل في جو الثقافة العام من حيث هو مجموع متداخل الأجزاء يفصح ويضمر. الأقسام التي تتألف منها كلية الآداب لا تتآلف. نحن بحاجة إلى أن نتحدث عن المجموع الثقافي أكثر مما نتحدث عن تخصصات معزولة. إننا نميل إلى العزلة أكثر مما نحب الاعتراف به، إننا مازلنا نتقدم طورًا نحو هذا المجموع، ونتأخر طورًا. وفي أثناء هذا الصنيع تضيع منا دفعة الحياة.

          هذه العبارة، التي علقت بذهني من معجم الأستاذ العقاد الذي كان قوى التمثل لهذا الأمر، الذي يوشك أن يغيب الآن أكثر مما تعرض له في أيام العقاد. لكن العقاد - مع الأسف - يقال بين جمهور الدارسين، إنه أديب وشاعر وكاتب مقال، يكاد لا يُعرف على أنه علم في خدمة ما نسميه الآن باسم النقد الثقافي المعني بأمر القوة والتداخل الذي عنينا به في هذه الكلمات. لكن هذا أمر ثان يحتاج إلى جهد مفرد لتأصيل الوعي الثقافي المتكامل في البيئة العربية، واستخلاصه من أحابيل النظرات الضيقة، والتقسيم المستمر الذي يحول بيننا وبين إقامة صرح معرفة تراكمية تداخلية معًا تدور حول علاقة القوة بالثقافة. هذه العلاقة تطوي في داخلها تأثير العلم الدقيق الذي نتجاهله كثيرًا. إن تطورات البحث العلمي، وتطورات بحث الذرة، تداخلت مع مفهوم الثقافة المتطورة تداخلاً يجب تذكره.

مـتـألمٌ، مـمّـا أنــا مـتـألمُ؟ حـار الـسؤالُ، وأَطرَق المستفهمُ
مـاذا أحـسُّ؟ وآه حـزني بعضه يـشـكو فـأعْرِفْه وبـعضٌ مـبهمُ
بي ما علمتَ من الأسى الدّامي وبي مـن حـرْقةِ الأعـماقِ مـا لا أعلمُ
بي من جراح الروح ما أدري، وبي أضـعاف مـا أدْري ومـا أتـوهمُ
وكــأن روحـي شـعلةٌ مـجنونةٌ تـطغى فـتضْرِمني بـما تـتضرّمُ


البردوني

 

مصطفى ناصف