ذكريات عن الطب والبترول غسان حتاحت

عندما نسترجع ذكرياتنا عن أيام خلت، تختلط الذكريات بعضها بالبعض الآخر، وليس ذلك بعجيب.. إذ لو أردنا أن نستعيد في خيالنا صورة ما، فلا يمكن لنا إلا أن نتذكر الصورة كلها، وليس لونا واحدا من ألوانها أو جزءا واحدا من أجزائها.وعندما أعود إلى تذكر دمشق في منتصف هذا القرن أرى أمامي أكثر من صورة، منها شارع بيروت، وكان هذا الشارع أطول وأعرض شوارع دمشق، بل إنه كان أطول وأكثر استقامة من الشارع المسمى بالمستقيم، الذي ورد ذكره في الإنجيل (ويسمى الآن شارع مدحت باشا).

شارع بيروت هذا كان بسبب اتساعه المكان المفضل للعروض العسكرية في المناسبات الوطنية، وكان يبدأ من جسر فكتوريا، وهناك كنت ترى عربات الركوب التي تجرها الخيل، وهي تقف بانتظار الركاب، وكانت السيارات وقتها قليلة، وعلى بعد بضع مئات من الأمتار كانت توجد محطتان لوقود السيارات، تحمل إحداهما اسم "سوكوني فاكوم"، ويرتفع على الثانية شعار "إيسو".

ولم يكن غريبا وقتها أن تكون الأسماء الأجنبية شائعة، فالمدخنون من الناس مثلا كانوا يدخنون سجائر كان اسمها طاتلي سرت، أو بافرا، أما المدخنات فكان لهن نوع خاص اسمه خانم (حتى في السجائر كانت هنالك تفرقة بين الجنسين!).

وكان في دمشق آنذاك عدد غير قليل من الصحف اليومية تمثل اتجاهات سياسية متباينة، على أنه كانت هنالك صحيفة مسائية، ذات حجم صغير، تختص بالأنباء المثيرة والساذجة في أحيان كثيرة، وتتحدث بصورة رئيسية عن الجرائم والسرقات والمشاجرات وما أشبه. وتكاد تشبه ذلك النوع من الصحف الذي يسمى بالإنكليزية (تابلويد) لولا أنها لم تكن تحوي من الصور إلا القليل.

وأذكر حادثة طريفة عنها، فقد نشرت مرة أن المطرب فريد الأطرش انتقل إلى الدار الآخرة، وكان هذا الخبر العنوان الرئيسي. وعندما أخذ أحد باعة الصحف اليافعين ينادي على الصحيفة بعنوانها الرئيسي: " وفاة فريد الأطرش" انهالت عليه إحدى السيدات ضربا ولكما وركلا حتى ملأته كدمات ورضوضا وجروحا، ولعلها معذورة في هذا إذا علمنا أن فريد الأطرش توفي بعد هذه الحادثة بأكثر من ربع قرن من الزمن.

في ذلك الوقت كان الأطباء في سورية فئات ثلاثا: كان هنالك الأطباء الرواد الذين بذلوا جهودا جبارة حتى عربوا الطب، وهو أمر غاية في الصعوبة، ولا يزال الوطن العربي حتى الآن عاجزا عن أن يحقق ما حققه أولئك العمالقة الجبابرة الذين حفروا طريقهم في الصخر، فكانت طريقا ثابتة قوية.

وكان هنالك بعض أطباء الإرساليات التبشيرية، وكانوا قلة إلا أنهم نالوا مكانة جيدة، أذكر منهم الفرنسيين والإيطاليين ولكل منهم مشفى يحمل اسم بلدهم.

وكانت هنالك قلة قليلة من الأطباء، كان همهم جمع المال وتكديسه بأي وسيلة أو واسطة، فكان منهم من يستثمر ماله بأن يدينه للناس بربا فاحش، وكان منهم من يهتم بالمال كل اهتمام، فلو جاءه أبوه أو ابنه أو أخوه كي يتداوى لديه لا بد أن يتقاضى على ذلك أجرا باهظا، فكيف بالآخرين.

وتمر الأيام، أما العربات التي تجرها الخيول فقد اختفت تماما، ثم حل محلها الترام الكهربائي والسيارات العامة والخاصة. ثم اختفى الترام الكهربائي بدوره، لتعود العربات التي تجرها الخيول لتحمل السياح في المناطق السياحية مضمخة بأريج الشرق وشذا الماضي.

أما الصحف، فقد توقف معظمها عن الصدور، خاصة تلك الصحيفة المسائية ذات الأخبار المثيرة والساذجة. والتي كثيرا ما أحن إلى قراءتها.

أما السجائر، فلم تعد هناك تلك الأنواع التي كانت تحمل أسماء تركية، بل أصبح كثير من المدخنين يدخنون أصنافا جديدة من السجائر، لكنها تحمل أيضا أسماء أجنبية غريبة، وإن كانت معرفة هؤلاء المدخنين بأضرار التدخين الأكيدة تخفف من شعورهم بالمتعة الموهومة في أثناء التدخين (أو هذا ما آمله).

أما محطات الوقود، فلم يعد هناك في دمشق محطات تحمل اسم "سوكوني فاكوم" ولا اسم "إيسو"، بل لم يعد في العالم كله محطات تحمل هذين الاسمين، فشركة "سوكوني فاكوم" أصبح اسمها الآن شركة. "موبيل"، وشركة "ايسو" تغيرت أسماؤها أكثر من مرة فكان اسمها في وقت ما "ستاندارد أويل أوف نيوجرسي"، وأصبح اسمها الآن "إكسون"، وهي واحدة من أكبر شركات النفط في العالم. ولقد دارت دورة الأيام وكما كنا نرى شركات أجنبية تدير محطات الوقود في بلادنا، صرنا نرى محطات الوقود العربية تملا معظم المدن الأوربية، ولعل أفضل مثال عليها شركة Q8 الكويتية التي استطاعت أن تحرز مكانة مرموقة عالية.

أما الطب، فلا تزال الطريق التي شقها الرواد الأوائل رائدة لكل الوطن العربي، ولا يزال الطب في سورية يدرس بصورة كاملة باللغة العربية خير تدريس، مثبتا أن اللغة العربية تتسع لكل العلوم مهما صعبت وشقت.

أما أطباء الإرساليات التبشيرية فقد مضوا، وإن كانت مشافيهم لا تزال باقية، على أن الأطباء والعاملين فيها غدوا عربا وسوريين، وغدت هذه المشافي لا تشكل إلا جزءا يسيرا من المشافي العامة والخاصة التي أنشئت في سورية، والتي يمارس الطب فيها أطباء عرب وسوريون كأحسن ما تكون الممارسة. أما الأطباء الذين كانوا يهتمون بجمع المال، فقد مضوا ولم يأخذوا معهم درهما ولا دانقا، بل إن التاريخ نفسه قد نسيهم.

عندما توفي أحد هؤلاء الأطباء الذين كان جمع المال غايتهم الأولى، ذهبت للتعزية في وفاته، فهو زميل على كل حال. وحين كنت أنزل من سلم بيته الفخم بعد العزاء، كان أمامي رجلان عجوزان وكان أحدهما يقول للآخر:

- إن المرحوم كان طبيبا "إنسانيا" بكل معنى الكلمة، لم يكن يهتم بالمال أبدا، وكان كريما سخيا، لا يستقر في يده ذهب ولا فضة، ولا قيمة للمال أبدا لديه.

- رد عليه رفيقه العجوز الآخر: نعم لم يعد بين أطباء هذه الأيام من يماثله في جوده وسخائه، وعدم اكتراثه بالمال. أسفي على طب هذه الأيام، بعد فقد هذا الطبيب.

دهشت كثير وأنا أسمع ذلك الكلام، وتعجبت أشد العجب وأنا أرى التاريخ يزيف أمام سمعي وبصري، ومن يعش رجبا، ير عجبا.