جمال العربية فاروق شوشة
جمال العربية
ديوان العاشقين غاية ما تذكره عنه مصادر تراثنا العربي أنه توفي عام ثلاثمائة وسبعة وعشرين من الهجرة، لكنها لا تقول شيئا عن مولده ونشأته وتاريخ حياته، اللهم إلا أنه قد ولد في البصرة، ونشأ بها، ولم تهيئ له ظروف حياته القاسية فرصة لحظ من التعليم والتأدب فعاش عمره أميا لا يقرأ ولا يكتب. لكن هذا المبدع الأمي استطاع أن يكون صوتا شعريا متميزا في ديوان الشعر العربي، وأن يكون له نسيجه الشعري الذي يقول فيه صاحب مقدمة ديوانه: الشيخ محمد حسن آل ياسين: "يمثل السهل الممتنع بأحلى نماذجه، فهو رقيق الديباجة، سلس الألفاظ، بسيط التراكيب، ويبدو علي بعضه بوضوح أنه من وحي الساعة، وفيض الخاطر، ارتجالا أو ما شبه الارتجال". شعر الخبز أرزي إذن يمثل شعر الفطرة، التي لم يمسسها صقل أو رعاية أو تهذيب أو تثقيف، والسليقة التي لم تتح لها فرصة للتلقي أو الرواية كماكما يقول لنا الحديث عنه في الجزء الرابع من سلسلة الروائع من الأدب العربي التي أصدرها المجلس الأعلي للثقافة في مصر. الطريف أن الشاعر اكتسب هذه التسمية من كونه خبازا يصنع خبز الأرز في دكان له بالمريد، وكان هذا الدكان طيلةيلة شبابه مقرمقر عمله ومحله الأثير لإنشاء شعره، وإتاحة الفرصة أمام من يتناقلونه ويرونه عنه حتى إذا اشتهر أمره وذاع صيته، فعل ما يفعله أمثاله، من الانتقال للإقامة في بغداد، ويقال إنه أقام في محلة باب خرسان، في الشمال الشرقي من جانب الرصافة. وفي هذا الطور الجديد من إقامته وذيوع صيته، بين أدباء عصره وشعرائه، يفد إليه شداة الأدب والشعر، ويعرض عليه الشعراء قصائدهم، ويسمعهم هو من جديد شعره، ما يفتنهم ويثير إعجابهم ودهشتهم وهو علي هذه الهيئة من رقة الحال، وضيق ذات اليد وعجز عن القراءة والكتابة . لكن دكانه في البصرة ومقامه ببغداد تحولا - بفضل موهبته الشعرية إلىإلى منتدي يتحلقون من حول هذا الإنسان الكادح المكافح والشاعر الذي يصدر عن فطرته وعن سليقته، ويجدون فيه من فنون الظرف والمفاكهة والمعابثة، والخروج علي المألوف من قيود العادة والتقليد، مجالا للتندر، وفرصا للإثارة وإشباع الفضول، وري الظمأ إلى الانطلاق والجموح، من خلال لغة شعرية تميزت بالسهولة والرقة وصياغة فنية قريبة المأخذ والتناول يقول الخبز أرزي:
وقد جذب شعره الرقيق اللين قلوب الكثير من الباحثين عن الرقة والسهولة المؤثرين للظرف في القول والملح في الكلام، والذين لا يفضلون الغوص طويلا وراء المعني بغية اصطياد الدلالة، والعكوف عل فك رموز الشفرة الشعرية المتأبية، والصورة الفنية المركبة. بوسع هؤلاء أن يتجهوا إلى شعرابن الرومي أو أبي تمام، هناك بغيتهم، وهناك المثل الأعلى لما يتلمسونه ويبحثون عنه. أما جمهور الخبز أرزي فجمهور يؤثر السهولة، ويدق علي أبواب المتعة المباشرة، والشغف الحسي بالحياة، والتولع الشديد بما فيها من بهجة ولحظ فرح ومؤانسة . لكن الخبز أرزي ينبه المعجبين به والمفتونين بشعره إلى عواقب الشهوة ومنقلب الحال بعد أوقات السرور وما يجره الإسراف في الشهوات من خروج علي حدود الدين والمروءة. إنه يحذر من الإفراط والتجاوز، شأن النصيح الحكيم الذي يري ما وراء الأشياء وما بعد الأوقات، والمبدع الذي يصغي لنداء الفطرة والسليقة والطبع. وباب الهوى في رأي الخبز أرزي وفي محيط خبرته وتجربته، باب مفتوح علي مصراعيه لكل من يريد انتهاب الوقت واصطياد متعه ومباهجه، لكن باب الهوى من شأنه أن يعمي ويضل، وأن يغوي طراقه عن النهج السوي والسلوك القويم، لذا فإن هناك من يدخله وهو علي بصر بالحياة والأشياء ودراية بمتطلباته وبما يتقاضاه هذا الباب من فصاده ووارديه ثم يخرج منه وقد عمي كما حدث للشاعر نفسه عن عن القصد والسبيل:
والقصيدة التي نعرض لها اليوم من الخبز أرزي ليست بعيدة عن هذا كله، بل هي في في الحقيقة نموذجذج له ومثال ففيهاها افتنان الشاعر وولعه ونهمه بالحياة ومتعها ولذائذها الحسية. وفيها هذه الرغبة الأبيقورية الجارفة في الانتصار علي الحياة وسأمها باللذة، وأقرب سبل هذه اللذة اقتناص ما يستثير الحواس ويشعبها وفيها هذه المفاكهة والمعابثة وهذا القدر الكبير من المجون والظرف الذي يقدم لنا صورة شاعر خفيف الظل والروح، طلق الأسارير والمحيا، مقبل علي الحياة والأحياء بالرغم من شظف العيش ومقاربة الناس، ومن خلال أبيات القصيدة يقوم لنا البيت الفرد، الذي هو بيت القصيد فيها استقطابا لموقف الشاعر ونزوعه وممارسته:
إن عند الشاعر كل شيء، "وكل شيء" هذه بقدر ما تجبه التصور والتخيل فإنها تفتح باب التأويل والتفسير! هل كان شاعرنا "نواسيا" جديدا تصبته مفاتن العصر، وزخم الحياة في عصر تكدست فيه مباهج الحضارة، ومفاتن الحواس، وتراجعت مباهج الروح ومراقي النظر والتأمل؟ نظلمه كثيرا لو عرضنا شعره في صفحة شعر أبي نواس، فبينهما موقفاقفا وروحا وشعرا بونبون كبير ويظل أبو نواس بكل - ما يثيره الشاعر والإنسان فيه - أفقا لا يدانى. والآن إلى قصيدة "الخبز أرزي":
|
|