قصص على الهواء

قصص على الهواء
        

تنشر هذه القصص بالتعاون مع إذاعة بي. بي. سي العربية
أصوات شابة في القصة العربية

لماذا اخترت هذه القصص؟

د. بنسالم حميش*

          القصة الأولى: «خيال فنان»، بقلم الحسن بنمونة. فكرة هذه القصة بالغة الأصالة والطرافة: فنان تشكيلي ثمل (روحيا) يرسم لوحة زيتية ذات عناصر متنافرة نوعيًا: معركة حربية هوجاء، حسناء شهية رمز البهاء والسلام، جثث محتضرة، بجوار إحداها سيجار ينفث دخانًا.. وهكذا يستمر الرسام في إنشاء عمله وتشكيله، متورطًا شيئًا فشيئًا في فورته واندفاعه، واضعًا المكونات ونقائضها أو جواذبها، فلا يتوقف هنيهات مستردًا أنفاسه إلا ليدرك أنه يرسم لوحات في واحدة ويعجز عن فك ما يبرز بينها من وشائج وتناسلات محكومة بالعرضية كما بالضرورة.  تشكل القصة لوحة فنية في غمرة القعود واللاشعور وبين دفق المشاهد والألوان. توفيقها يأتي من هذا الباب كما من قدرة القاص على تسخير الرمز والإيحاء وتمكنه السردي واللغوي.

***

          القصة الثانية: طقس ونيران»، بقلم شمس علي. تتميز هذه القصة، مضمونيًا، بوحدة الموضوع المسرود بضمير المتكلم في مأساة متزوجات مهجورات يقضين سنوات صعبة مريرة، ينتظرن مع صبيتهن عودة أزواجهن المتغيبين، والساردة واحدة منهن، ولتزجية الوقت ودفع ثقالته وأحزانه يلجأن، إلى إحياء طقس أحسائي قديم. تقنية السرد في قصة «طقس ونيران» قد تذكر بتقنية الدمى الروسية أو التقاطع الحكائي في «ألف ليلة وليلة»، أي تماهي حالة الساردة، مع شبيهاتها في المحنة والمعاناة، ولو أن بينهن فوارق في الدرجة والحيثيات.  تتسم لغة القصة بالاستقامة والوضوح، على الرغم من تضمنها لبعض الأخطاء والهنات.

***

          القصة الثالثة: «المومياء»، بقلم سامي دكاكي . تيمة هذه القصة (القصيرة جدًا) معروفة في المأثورات والمرويات العربية القديمة: البحث عن الكنز الدفين الأشرف والأغلى في النفس لا خارجها». وصاحب قصة «المومياء» لم يلجأ إلى تقنية المماطلة والتشويق suspens  بل بادر إلى الإعلان عن قصده على عتبة قصته نفسها لذا فقد أتت حفرياته الاستيطانية من قبيل التذكر الاسترجاعي لأطوار حياته المنقضية، وما أحاط بها من أحداث وأشياء، ومن آمال وأوهام، في هذه القصة نكهة فكرية لا بأس بها، تعزرها لغة سلسة رصينة.

***

          القصة الرابعة: «كلاب»، بقلم زكريا علي . قرية غير مسماة يقرر أهلها بعد شد وجذب إسناد مهمة حراسة بيوتهم وأمتعتهم إلى كلاب وفية متمرسة. وبعد فترة من الزمن أصاب الوهن والتعب الكلاب بسبب وفرة الأشغال وقساوتها، فأقدم قيّمو القرية على جلب أعداد من الذئاب للسهر على راحة السكان، ولو من دون موافقتهم. وما هي إلا سنوات حتى ظهر إلى الوجود جيل متولد عن تناسل الكلاب والذئاب. إنها قصة متوسطة القيمة السردية والفنية، تعتورها أخطاء نحوية وتركيبية، إنما قد يشفع لها محاولة القصاص في جانب من نص استلهام رمزية «الأدب الحيواني» (الذي نجد أبلغ تعابيره وأرقاها في «كليلة ودمنة» لابن المقفع و«حكايات» لافونتين).

-------------------------------------

هذه هي القصص التي فازت في مسابقة القصة القصيرة في شهر يونيو 2007 والتي تقوم اذاعة البي. بي. سي العربية ببثها ضمن برنامج «بي. بي. سي اكسترا» كل يوم خميس ضمن مشروع لرعاية شباب القصة العربية بين «العربي» والبي. بي سي العربية.

خيال فنان
الحسن بنمونة - المغرب

          ... والآن بدا له (للفنان) حامل السيف، كئيب الوجه، الرجل صاح وامتشق آلته كأنه عازم على ذبح شاة، مندفعًا إلى أمام، ومن جبينه تسقط حبات العرق، فتتناثر على الأرض الرملية، وخلفه جيش بعدد كثير، وفي المقدمة رءوس كثيرة، واضحة المعالم، ووجوه مصبوغة بلون الموت، مكشرة أو حزينة.

          وشيئًا فشيئًا تصغر الوجوه حتى تمتزج بالأفق المشرب بالحمرة. في السماء كان قرص الشمس يتلظى.

          ثم إنه لمح رءوسًا حليقة، تحيط بأعناقها إشارات الصليب.

          وبدت حسناء، تمزقت سترة صدرها، رافعة يديها إلى السماء متضرعة، لأن رأسها مال إلى الخلف، يكاد ينفصل عن جسدها. ساقاها منفرجتان على ظهر حصان في وضع السقوط إلى الأرض. قائمتاه الأماميتان أقرب إليها من قائمتيه الخلفيتين، يحرك ذيله في ذهول وفخر في الآن نفسه.

          وعندما أدمن النظر، بدا عليه فزع الفنان، لقد نسي شيئًا مهمًا أو هكذا تصوّر، فالسماء الزرقاء كان من الممكن صبغها باللون الأحمر أو الأسود. ثم، لماذا جاء الرسام بالحسناء في عز الظهيرة، والحرب قائمة، وبعد حين سيلتقي الجيشان المدججان بالعتاد العتيق. فتتطاير رءوس وتسقط أبدان ملطخة بالدم والعرق.

          حامل السيف رأى أن هناك خطأ، لاشك سيسخر منه حتى الأطفال، إذ كان من الواجب أن يرسم الفنان صورة المرأة التي ستسقط إلى الأرض في لوحة وصورة المعركة في لوحة أخرى. وربما احتاج إلى لوحات عدة. سلسلة من اللوحات التي تؤرخ لحرب قديمة، سيضرب بآلته، لكن المكان ضيق، سيأتيه الغدر من خلفه لا محالة، أيرسم الحروب وهو ثمل؟!

          ربما أراد الفنان أن يقول إن المرأة صرخت، طالبة النجدة، فجاءها النصر من حيث لا تدري، ولكن كم مضى من الزمن حتى جاءت الجيوش المثقلة بالعتاد.

          ثم تبين له أن رأسها مائل إلى الخلف، والشعر مسترسل على ظهر الحصان، وقد اضطرب لما يتشبث على ذيله، فظن أن شعرها هو الذنب عند منبته، وقد كان عليه أن يحلق في السماء حتى يصل إليها، فيسلها من بطن العدو كما تسل الشعرة من العجين.

          لكن هذا بدا صعبًا جدًا، لأن الرسام جعل خلفها فارسًا شديد البأس، معتمرًا خوذة، وقابضًا على رمح طويل، كان واثــقًا بقـــوته الــتي لا تقهر، إذ كان يضحك في استهتار. وبين رأس الرمح والحسناء مسافة قصيرة. ولهذا لامدعاة للشك في مقدرة الرسام الذي جعل حصانها يتعثر، خوفًا من طعنة غادرة.

          وعندما تأمل المشهد جيدًا، ضحك، لاحظ أن في الأرض جثثًا تحتضر، وأخرى مسترخية في سكون، وجنب جثة سيجارة يتصاعد منها خيط دخان.

          صاح قائلاً: إن هناك خطأ لا يغتفر، كيف يجوز خلط حرب قديمة بأشياء من هذا العهد؟! وفجأة فغر فاه، بقي على هذا الحال مدة طويلة، فتلاحقت مشاهد (وهي أجزاء صغيرة جدًا). تنم عن ذائقة فنية في حاجة إلى تصويب. فعينا الحسناء اللتان ظهر منهما نصفهما، كانتا مصوبتين نحو طائرة مصبوغة بالأحمر، ثم اتضح له شيئًا فشيئًا أن هناك طائرات من ورق تتعقب الطائرة الحمراء، التي يشبه جناحاها ساقي إنسان. ومال نظره إلى الحسناء فتراءت له ريح قوية، عندها تساءل في استسلام. كيف غاب عن ذهني هذا كله؟!

          الريح القوية هي التي عبثت بشعرها، فارتمى إلى الخلف، والفارس صاحب الرمح، يشهر آلته باليد اليسرى، فيما يده اليمنى تغطي عينيه. كأنه خاف. أو كأن منظر الحرب والقتلى والجرحى يبكيه. والفنان بدا غاية في الانشراح. وكأنه توهم أن وجود الريح القوية، والدم، والشمس، والظلام، والفتاة، والعساكر، سيضفي على اللوحة بريقًا لن يخفى على أحد.

          وضرب جبهته براحة يده، ثم أغمض عينيه وفتحهما على سواد متراقص غمر المشاهد كلها. وشيئًا فشيئًا تتضح المعالم والأمارات، يعلو دخان الحرب - التي قامت ساعة أغمض عينيه - اللوحة. الحسناء محمولة على كتفي صاحب السيف العاشق، وحامل الرمح مستلق على الأرض الرملية. آلته كسرت. ولمح رأس السيف مصبوغًا بالدم الذي تجمد، وعساكر العدو منكسة رءوسها، مدبرة في فزع وخنوع شديدين.ولما تطلع إلى الأعلى (إلى السماء) رأى زخات المطر المخلوطة بالدخان. وعلبة للسجائر مبللة، أما الطائرات، التي توهم أنها من ورق، فقد صارت الآن طيورًا متفحمة، ساقطة إلى الأرض حيث ينام الأموات.

طقس ونيران
شمس علي - السعودية

          تتأمل بقايا ربيع في مرآة مهشمة... يطل الشيب من صدغها، تواريه أسفل الخمار، يشتعل جوفها. تطفئه بكأس ماء فخاري تتناوله من بين كئوس عدة صفّفت على جدار طيني لتخطف نسمات برد هاربة من ذلك القيظ اللاهب.

          عيناها الملتهبتان حمرة تنظران إزار ابنها يرفرف فوقه، يهصرها الألم؟!

          هاهو الطفل الذي غادرها أبوه رضيعًا، صار شابًا ستزف إليه عروسه بعد أيام قلائل. تأسرها فكرة طارئة، سترتدي في زفافه ثوب النشل الموشّى بخيوط الذهب الذي بعثه إليها أبوه من عمان حيث يعمل.

          تضحك عيناها للذكرى العتيقة، حينما جاء به الجمال، الرجل البدوي ذو الضفيرتين والثوب المجنح، بمشقة استطاع أن ينيخ جمله الضخم في زقاقهم الضيق، فزرفت قدم البعير وغاصت في تربة دهليز أحد البيوت الطينية المشرعة، ليتجمهر حوله كل أهل الزقاق، والأزقة المجاورة، ويغدو هو وبعيره وثوبها حديث سمرهم ليالي طوالاً.

          تهبط الدرج، تلتقط الصرة التي خبأتها في «الرازنة» الرف... تنفض عنها الغبار.

          تخرجه للنور بفرح، يمطر حضنها نتفًا، تتهاوى معه سعادة نادرة.

          (غدًا سنطرد الشؤم)، تهتف جارتها من خلف الجدار وهي تسقي الرياحين.

          (أهو التاسع والعشرون من صفر؟!) تسأل..

          بنغمة مشفقة تجيبها: نعم، لذا لابد أن تشاركينا في طرد أشباح الحزن، وشياطين النحس.

          في الظهيرة تتنادى الجارات من خلف شقوق الأبواب الخشبية.. يتجمع الصغار في الزقاق حول ألسنة النار الموقدة يهصرهم الترقب يفتنهم الفضول.. لا يطول بهم الانتظار، فسرعان ما يشتعل الطقس.

          ترفع الأذيال للركب يبدأ تقافز النسوة فوق النار منشدات أهزوجة الطرد، ترافقهن شهقات الصغار ذوي الخدود المزهرة.

          واقفة من بعيد كانت ترقب مثيلاتها اللاتي يتدافعن نحو النار كفراش تحدث نفسها.

          أم مسيلم هذه الطويلة التي تخترق الصفوف الآن، مثلي كانت، تركها زوجها عشرين سنة، وتشرد صغارها الخمسة في بيوتات الزقاق، وحدها هاجر الصغيرة رفضت مفارقتها، فاضطرها ذاك أن تعمل ليالي، تسامر الرحى تطحن الحب لتطعمها.

          لكنه عاد بعد كل تلك السنين بزوجة عقيم، وكرتون حليب، وفراش ممزق!!

          تقع عيناها على أم معتوق- وتسر لنفسها - وهذه الشقراء التي تنتظر دورها هناك، مثلي هي أيضًا غادرها زوجها منذ عشر سنين، المسكينة لم يرسل لها ولا مكتوبًا مع الجمّال!

          أخوها المعتوه ذهب خلفه، ليطلقها منه لكنه غاب هو الآخر مخلفًا زوجته وأطفاله!

          تلمح من بين الجموع أم أحمد ذات الوجه المجدر - تتنهد - أنها أوفرهن حظًا، فقد عاد إليها زوجها ليلة زواج ابنه الذي تركه وهو يحبو!!

          تلتفت على ضحكات «حميدة» فتدهشها ارتجاجات جسدها القافز، وتتذكر صراخها عشية تلك الليلة الشتوية عندما رجع إليها زوجها بعد أن فارقها الخصب، مصطحبًا أخرى، وعدة أبناء، وطلقها ليلة ذاك لأنها بصقت في وجهه.تنادي عليها، جارتها، تعالي يا أم نويصر لتطردي عنك النحس.. لعل فرحتك تكتمل بعرس ناصر، وعودة أبيه، تتعالى الأصوات مؤمنة على قولها.

          تشق الصفوف بارتباك، تقترب أكثر من دائرة النار، تلفح وجهها الجميل، تشجعها نظراتهن، تكشف عن ساقيها، تتعلق بها العيون.

          الدماء المتدفقة لرأسها تثقله، ينتابها دوار طفيف، قلبها يكاد يقفز.هي المرة الأولى التي تشاركهن، لسنوات مضت كانت تكتفي بالفرجة؟!

          ألسنة النار تتصارع.. تشيح بوجهها عنها.. تصرخ بها النسوة، لتنطلق بقفزة صغيرة خجولة.

          تعقبها قفزات.. يهدأ روعها قليلا، تتابع القفز وهن ينشدن، تنفرج أساريرها، يضمحل اضطرابها.

          تعرف السكينة.. تنتشي، تزداد نشوة، تتناغم، واهتزازت جسدها الممشوق، وتراتيل الطقس الحامية (أخطر عنّا يا صفر.. مخك طفر.. أخطر عنّا يا صفر.. مخك طفر).

          تحسها تطير، تتورد وجنتاها، يسيل جفناها على عينين ناعستين، يتراءى لها من بين سحب الدخان عائدًا ملهوفًا لرؤيتها، تحلق روحها لملاقاته، جسدها يزداد صخبه، وحمى الطقس، وشهقات الصغار، وملح تذروه النساء على وجه النار فيزداد تشظيها معه.

          تلوذ بفمها ذرة ملح هاربة، توقظها الملوحة، السحب الداكنة حولها تتلبد أكثر، تطوقها سحابة قاتمة.

          تطالعها يده السمراء خلالها، متشبثة ويد بضة لامرأة أخرى، تلسع النار قدميها العاريتين، تنشب الحرارة سريعًا بفؤادها، تزداد قفزاتها علوًا وقلبها صهيلاً، وهي تجاهد لرفع صوتها اللاهث معهن «خطر عنّا يا صفر مخك طفر» وأمنية أخذت تشتعل بضراوة داخلها، أن تأخذه (الطبعة) البحر..!؟.

المومياء
سامي دكاكي - المغرب

          أخذ يحفر، يحفر عميقًا ودون كلل، فقد أخبر أن الحفر رياضة، روحية ممتعة، خصوصًا حين تكون في «الداخل».

          كان كلما توغل في النبش، صادفت أظفاره فكرة مدفونة، أو ذاكرة مغمورة تحت أكوام من الأحجار والتراب.

          هنا، قطع أثريّة للطفولة الضائعة بين سنوات الجوع وسنوات الحرب، هناك، بقايا شباب اخترمته لوثة السياسة والمبادئ، وضعضعته برودة السجون القاتلة، في جانب آخر، آثار لشيخوخة غضنّتها المنافي ووحشة الديار، فصارت مثل شمس متهدّلة في سماء استوائية، لاهي تبعث الدفء وتثبت حرارتها، ولا هي تكسف إيذانا بانتهاء زمنها.

          كان لايزال يقضم جدر «المقبرة الداخلية» بيديه المعزولتين والمعروقتين، حين تناهى إلى قلبه ضوء بعيد. ارتفعت معنوياته، ونشط في الحفر أكثر فأكثر، وكان كلما نفذ أعمق، ازداد بصيص الضوء شدة ولمعانا، لم يستطع التفكير في شيء آخر غير مصدر الضوء العميق ذاك، نسي طفولته، وشبابه، وشيخوخته، وعذابات السنين التي يحملها جسده المنكمش، والمنطفئ مثل نجمة في الماء.

          راح يكدّ في ارتياد المجهول صوب «الضوء»، غير مبال بيديه المدمّتين من أثر الحفر الحثيث، قيمة النجاح ليست فيما حققه الإنسان، بل فيما تجشمه من أجل تحقيق هذا النجاح - قال لنفسه -

          أخيرًا، وقفت يداه الصّبورتان عند منبع الضوء، كانت غرفة ملوكية مهيبة، تتلألأ بأنوار الذهب، والأحجار الكريمة النادرة.

          غريب - قال - كيف تكون هذه التحفة القريبة من الآلهة بداخلي، بينما عشت عمري كله أبحث عن «النور» خارجي، ما أتفهك أيها العالم الخسران!

          راح يتفقد الغرفة مذهولاً، وقف على صندوق يتوسطها، كان موشى بالذهب الخالص، ولا تبدو عليه شواهد القِدم أو البلى، اقترب منه بحذر وخيفة، فتحه على مهل، فوقع بصره مصدومًا على «مومياء» مسجاة بكامل ملامحها على هيئة حكيمة، لم تنل منها عوابث الزمن، حتى كأنها تبدو ضاجّة بالحياة والكلام. تفكر كثيرًا في هذه الهبة التي قدمها له «الموت» من الأعماق بسخاء، ولو أنه كان يأمل في العثور على كنز يفوق خياله المكدود، نقل بصره بين الذهب والأحجار الكريمة الملقاة في الغرفة، وبين المومياء المسجاة في الصندوق، تنازعه جدال روحي/مادي رهيب. فجأة هتف: لن آخذ شيئًا لم أتعب في تحصيله، سأحتفظ بهذه للتأمّل والذاكرة فقط، ثم حمل «المومياء» وخرج من «أعماقه». في الخارج تمامًا، جاء بصره على جسده، فانتفض مذعورًا، لقد أصبح شابًا يافعًا، رطب العود والفؤاد، خفيف الحركة والذهن، لكنه ليس الشاب الذي «كانه» في الماضي.

          إليّ أيتها الحياة، الآن أيقنت أنك ما نفكر فيه ونصنعه، وليس ما نقبل به ونعتقده. أراد أن يحمل «المومياء» من جديد، ويستأنف المسير، فلم يجد بجانبه غير جلد مترهل لرجل عجوز، كان لا يعيش إلا على «فكرة واحدة»، ولا يجرّب سوى أن «يموت في الحياة».

كلاب
زكريا علي - البحرين

          اشتد الخلاف في مجلس القرية، وبلغ ذروته، وتمسك الفريقان برأيهما، قال كبير منهم: «لسنا بحاجة إلى هذه الفكرة، إننا شعب ودود، يعيش أفراده إخوة متحابين، تربطهم علاقات القرابة، والجيرة، والمصاهرة، وديننا يدعونا أن نتمسك بحبل لا نجد أقوى منه بنيانا على وجه البسيطة قاطبة».

          لكن هذا الكلام واجه اعتراضًا حاداً من كبير آخر: «كل المدن تبحث عن خط يدفع عـنها شر الأعداء، ويحمي أراضيها، ويحفظ خيراتها، انظروا يا قوم، لقد منّ الخالق على قريتنا بالخير الكثير، ألا يدعونا ذلك أن نحافظ عليه بأرواحنا، ومادمنا نملك المال، فلن نجد صعوبة في جلب كلاب الصيد والحرس المشهود لها بالذكاء والقوة والشجاعة، ما يمكنها من الذود عن ديارنا وأنعامنا...».

          لم يكن من السهل الفصل في هذا الأمر، مجموعة تصر على حماية أراضيها وخيراتها بكلاب حراسة، وأخرى ترى لا فائدة منها طالما القرية بخير.

          ولكن إصرار المتخوفين، أو المتشائمين دعا القائمين على حرس الوطن، في غضون أيام أن يجلبوا العديد من الكلاب.

          كانت بالفعل قوية، وشديدة، وفي الوقت نفسه، أمينة، ولطيفة، وسرعان ما تعودت على عملها، وسرعان ما ألفها الناس، أحبوها، واطمأنوا لها، وصارت تعيش بينهم، كأنها منهم.

          شعرت الكلاب بأنها ليست غريبة على أهل القرية، تتجول في شوارعها بأمان، تلاعب الأطفال، تساعد الكبار في أعمال كثيرة، في المقابل كانت (الكلاب) تلقى ملاطفة ما كانت تتلقاها في مواطنها الأصلية، لذا فازت في كثير من المناسبات بإحسان كريم، وعطايا الجواد.

          ومع مرور الشهور، تزايد عمل الحراسة على الكلاب، واشتد، وتطلب منها مضاعفة الجهد، الأمر الذي أثر بشكل واضح في أدائها، فبدت غير قادرة على أداء ما يسند لها من أعمال الحراسة.

          فكر القائمون بحيوان أقوى، وأكثر شراسة من الكلاب، فلم يترددوا بطرح فكرة (الذئاب)، لكنها فكرة لم تمر بلا نقاش حاد، وصراع من مؤيد ومعارض، حتى اقترح أحدهم بأن يتم إحضار الذئاب صغيرة، فتقوم الكلاب بتربيتها، وبذلك نضمن بيئة مسالمة تحيا فيها تلك الذئاب أليفة، فتشب على ما كان عليه أمهاتها وآباؤها.

          تجاهلت فئة قلق الأغلبية، وسارعت بإحضار الذئاب الصغيرة، والكبيرة دون مبالاة.

          وأخذت على عاتقها تدريب الذئاب على الحراسة، وبذلت مجهودًا مضاعفًا لإلحاق هذه الحيوانات في الخدمة بسرعة، كي تطمئن الناس، ويظهروا صواب فكرتهم.

          وكانت المفاجأة، لقد أحسنت الذئاب مهمتها، كانت أكثر قوة، وأشد فتكا، وأطول صبرا، حتى أنها لا تلح على الغذاء كما تلح الكلاب، لقد أسعد ذلك الحال رجال الحراسة، فانكشف للناس حسن تدبيرهم، وتبددت كل المخاوف، إلا من فئة قليلة!

          بعد مرور سنوات، حدث مالم يكن في مخيلة أحد أبدًا، لقد تكاثرت الكلاب والذئاب، في غفلة من الأهل المسالمين، فظهر جيل منها يحمل ذكاء الكلاب، وشراسة الذئاب، وفي إحدى الليالي، التي غاب عنها القمر، اجتمعت الذئاب فأبدت استياءها من معاملتها ككلاب حراسة وضيعة، ما تأكل إلا فضلات الطعام، محرومة من كل الخيرات، ما كانت لترضى بما قسم لها، كيف يكون ذلك، وهي ترى الأبقار تسرح في كل مكان، وحظائر الأبقار منتشرة في كل بيت، ومزارع الدواجن تعج بالدجاج؟ إنها كنوز قارون بالنسبة لها.

          انتهى الاجتماع، وضعت الذئاب موعدا للإغارة على القرية، لقد وقفت الكلاب الأوفياء ضد هذه الفكرة الشيطانية، كيف لها أن تعض اليد التي أحسنت إليها؟ ولكنها كانت مجموعة قليلة.

          اجتمعت في تلك الليلة مئات الذئاب، كانت كفيلة بأن تؤدي مهمتها وسط غفلة الأهل، واطمئنانهم لها، وشعورهم بأنهم في مأمن من الخطر.

          لم يمهل الذئاب الكلاب فرصة فضح المؤامرة، انقضت عليها، وقطعتها أشلاء، ثم توجهت صوب القرية.

          كان الليل في منتصفه، السكون يخيم على المكان، السواد يلف بيوت القرية، كانت الأمارات تدل على أن الناس في بيوتهم نائمون، اقتربت الذئاب من القرية، فانقسمت مجموعات بعضها توجه إلى حظائر الأبقار والخراف، وبعضها توجه إلى مزارع الدجاج.

          أحست الحيوانات بالخطر، تحركت حركات مجنونة مذعورة، فرت في سواد الليل على غير هدى، انقضّت الذئاب عليها، غرزت أنيابها المسمومة بالجشع في جسدها البريء، وأخذت تتلذذ بتقطيعها إربًا إربًا، لا تتورع من قتل الصغير، أو الإجهاز على العاجز والمريض.

          سمع الأهالي أصوات الحيوانات الفزعة، اعترتهم موجة من الخوف، فجّرت في دمائهم، وتجمعوا مكانهم من هول ما يشاهدون، أقفل الناس أبواب بيوتهم، أحكموا النوافذ، جلسوا فزعين مرعوبين!

          كانت تلك الليلة طويلة على أهل القرية المساكين، وبالرغم من شروق الشمس، لم يسمعوا صوت صياح الديك!

          ما يذكر يومها أن رائحة الدم كانت تفوح من كل مكان، لقد سبحت البيوت في برك حمراء قانية، كل شيء اصطبغ باللون الأحمر، الجدران، والأشجار، أشلاء الحيوانات متناثرة هنا وهناك، لقد قضت الذئاب بكل وحشية على كل ما كان يتحرك على وجه الأرض، بدا واضحًا أنها تفننت بالبطش والفتك.

          إن أحدًا لم يتخيل أن تصبح القرية على هذه المأساة، ولكن فئة قليلة شوهدت تسترجع كثيرًا، وتنظر إلى السماء كثيرًا!.
--------------------
* روائي وأكاديمي من المغرب