استلهام الحضارة العربية في الأندلس سمير فريد

تجارب سينمائية في المغرب العربي
السينما في المغرب العربي - رغم قلة أفلامها - متميزة. تحاول أن تخرج من النطاق التجاري كي تقدم أفلاما مستوحاة من جذور التراث العربي دفاعا عن هويتها وتأكيدا لأصالتها. ولعل أفلام المخرج التونسي ناصر خمير تؤكد هذا الاتجاه.

تعتبر تجارب الموريتاني محمد هوندو (عمال عرب عبيد 1974) والجزائري مرزاق علواش (مغامرات بطل 1978) والتونسي عبدالحفيظ بو عصيدة (سراب 1981) والمغربي الطيب الصديقي (الزفت 1984) ثم التونسي ناصر خمير (الهائمون 1984- طوق الحمامة المفقود 1991) من أهم التجارب السينمائية في المغرب العربي، وفي السينما العربية بصفة عامة، وذلك من حيث محاولة كل منهم التعبير بأساليب في السرد تستمد جذورها من أساليب السرد في الثقافة العربية - الإسلامية وخاصة أسلوب ألف ليلة وليلة.

وقد كان لكاتب هذه السطور شرف الدفاع عن فيلم هوندو مع نور الدين صايل وتوفيق صالح وغيرهما في لجنة التحكيم الدولية في مهرجان قرطاج 1974 حتى فاز بالجائزة الأولى مناصفة مع فيلم "كفر قاسم" إخراج برهان علويه. وكانت المنافسة صعبة مع فيلم يتناول قضية الصراع العربي الصهيوني. وتكرر الموقف نفسه مع فيلم مرزاق علواش عام 1978، ولكن من موقع الجمهور المشارك في مناقشة الفيلم بعد عرضه.

وسواء بالحديث الشفاهي أم بالكتابة كان الدفاع عن الفيلمين مؤسسا على بحث هوندو وعلواش عن أسلوب خاص للسرد، وتأثرهما بأسلوب ألف ليلة وليلة في ذلك. والأسلوب السردي لا يعني مجرد شكل للقص، وإنما يعبر عن طريقة خاصة في التخيل. وكنت دائما أدلل بتوضيح الفرق بين الأسلوب الغربي في التعامل مع تداخل الأزمنة، وأسلوب ألف ليلة وليلة في ذلك.

خصوصية التعبير

ومسألة الخصوصية في التعبير الفني مشكلة معقدة. فالمفترض أن الفنان أي فنان في أي مجتمع، لا يبحث عن هويته الخاصة، وإنما يجدها، ويأتي عمله مستندا على جذورها على نحو تلقائي. والمفترض أيضا أن هذه الجذور لا تعني على الإطلاق العزلة عن الثقافات الأخرى في العالم، وإنما تعني التمايز في إطار تلاقح طبيعي بين الثقافات وبين الأشكال والاتجاهات المختلفة في هذه اللغة الفنية أو تلك.

ولكن خصوصية التعبير في البلاد المستقلة حديثا عن الاحتلال الغربي يبحث عنها بعد أن طمست في عهود الاحتلال، وإزاء ضغط الثقافة الغربية، وسيادة أساليبها في السرد، ومن ثم فهي رد فعل ومواجهة للآخر. ولا يقتصر الأمر على السينما، وإنما يمتد إلى جميع لغات التعبير الأخرى، ولكنه يبدو واضحا في السينما أكثر من غيرها لأنها نشأت أساسا في الغرب، وإن شاهدها الملايين في كل مكان في سنوات متقاربة، وكان رد فعل الجميع الخوف من حركة قطار لوميير.

وحقيقة أن المخرجين المذكورين كلهم من بلاد المغرب العربي لا تعني أن هذه المشكلة لا تشغل السينمائي في المشرق العربي. ولكن الاختلاف بين عرب المغرب وعرب المشرق في هذا الصدد يرجع إلى طبيعة الاحتلال الفرنسي في تونس والمغرب والجزائر وموريتانيا كاحتلال استيطاني اعتبر البلاد التي احتلها أجزاء من وطن أم. وقد احتلت فرنسا أيضا سوريا ولبنان والسنغال وتشاد ودولا إفريقية أخرى. ولكن بقدر ما نجح الاستيطان في بلاد المغرب العربي بسبب الاقتراب الجغرافي، وفي بلاد إفريقيا السوداء بسبب الطبيعة القبلية التي جعلت اللغة الفرنسية عامل توحيد، بقدر ما فشل في سوريا ولبنان بسبب البعد الجغرافي النسبي، والقرب الجغرافي النسبي أيضا من مكة وبغداد والقاهرة.

إن الانقطاع بين مغرب العالم العربي ومشرقه يكاد يكون تاما فيما يتعلق بالسينما بوجه خاص. فمن المؤكد على سبيل المثال أن الطيب الصديقي كمسرحي يعرف محاولة يوسف إدريس في "الفرافير"، ومقدمته للمسرحية التي ينظر فيها لشكل مسرحي مستمد من شكل السامر الشعبي، ولكن السينمائي المغربي يؤمن إيمانا عميقا أنه ينطلق من فراغ كامل، ولا لوم عليه. فالبلد الذي يجب أن يعرف تراثه السينمائي، وهو مصر، لا يوجد به أرشيف لأفلامه، وصناعة السينما في مصر لا تفتح أبوابها للسينمائيين العرب سواء من المشرق أو المغرب، وسواء على صعيد الإنتاج أم على صعيد التوزيع. ولولا المهرجانات السينمائية الدولية والعربية لكان الانقطاع تاما بين المغرب والمشرق العربيين في مجال السينما.

وكاتب هذه السطور شاهد عيان على محاولة اثنين من المخرجين المذكورين، وهما ناصر خمير ومرزاق علواش للعمل في مصر. فقد جاء ناصر إلى القاهرة في أثناء إعداد فيلمه الأول، وبقي فيها شهورا يحاول كتابة الحوار مع كاتب مصري، ويحاول الاتفاق مع ممثلين وممثلات من مصر، ويحاول إنتاج الفيلم بالاشتراك مع شركة مصرية، ولكن دون جدوى. وفي العقد التاسع نفسه (الثمانينيات) جاء مرزاق علواش وحاول المحاولات نفسها بعد أن أصاب السينما في الجزائر ما أصابها من وهن، ولم يجد في النهاية مفرا من الذهاب إلى باريس. وجاء إلى القاهرة أيضا مارون بغدادي من لبنان، وميشيل خليفي من فلسطين ولكن كل الأبواب كانت موصدة.

استلهام ألف ليلة وليلة

وإذا كنا لا نلوم ناصر خمير على أنه لا يعرف تراث السينما العربية في مصر، وبالتالي لا يعرف محاولات المصريين استلهام قصص ألف ليلة وليلة واستلهام أسلوبها في السرد القصصي، لأن هذا التراث كما نقول غير ميسر ولا حتى للمصريين أنفسهم، فإننا نلومه على عدم معرفته بالأبحاث التي صدرت في القاهرة وبيروت ودمشق وبغداد عن ألف ليلة وليلة وعن الخيال الشعبي بصفة عامة في النصف الثاني من القرن العشرين.

ففي حديث إلى "اليوم السابع" في 27/ 3/ 1989 يقول ناصر "أين العرب الذين يبحثون في ألف ليلة وليلة. العرب يجمدون الأشياء في النص والطقوس، وما يخرج عن ذلك لا يجذب انتباههم. إنهم يكنون احتقارا شديدا لكل المتجولين المحملين بذخيرة الخيال، ويعشقون كل ما هو طقوس مثل الشهادات الجامعية أو غيرها".

هنا نلوم الفنان لأن هناك عشرات الأبحاث المهمة التي صدرت في كتب وتقطع بخطأ ما يقوله تماما. وبغض النظر عن لهجة حديثه عن العرب، وكأنهم شيء وهو شيء آخر، فالتناقض التاريخي الذي أشرنا إليه يبدو واضحا في هذا الرأي. إذ يعرف الفنان ثقافته من خلال المستشرقين الفرنسيين ويصبح "مستغربا عربيا"، وهو الباحث عن أصوله. ويؤكد ناصر خمير هنا التناقض عندما يقول في حديث آخر إلى جريدة "الحياة" في 27/ 4/ 1991 إنه لا يعرف من الباحثين في ألف ليلة وليلة غير المستشرق الفرنسي أندريه ميكيل. كما يؤكد التناقض مخرج تونسي آخر وهو الطيب الوحيشي في فيلمه "مجنون ليلى" عام 1989. فبدلا من أن يؤفلم مسرحية أحمد شوقي عن قصة حب الشاعر قيس بن الملوح لابنة عمه ليلى، وهي من كلاسيكيات المسرح الشعري العربي الحديث لواحد من أعظم شعراء العرب في كل العصور، يلجأ إلى المستشرق أندريه ميكيل أيضا في كتاباته عن الشاعر الملقب بمجنون ليلى.

بل إن ناصر خمير في حديث مع سمير نصري نشر في "الحياة" في 15/ 10/ 1990 يقول "ما ألمسه في الأدب العربي الحديث هو غياب القصة الطويلة القوية. توجد قصص قصيرة بديعة، أما القصة الطويلة فنادرة. ربما لأن النفس الطويل ينقص الفنان العربي اليوم، ولا يوجد تفسير واضح لهذا النقص". والتفسير الواضح أن ناصر خمير لا يعرف الرواية العربية الحديثة، ولا حتى في تونس. وليس من الغريب ألا يعرف المرء. ولكن من الغريب أن يحكم وهو لا يعرف، وأن يفلسف ما لا يعرف، وليس ما يعرف.

وفي الحوار نفسه يقول ناصر خمير إنه يكتب أفلامه بالفرنسية، ثم يقوم بترجمة الحوار مع آخرين قبل التصوير. ولا توجد مشكلة في الكتابة بالفرنسية، أو غير الفرنسية، بالنسبة لسينمائي. وقد كان شادي عبدالسلام يكتب أفلامه بالإنجليزية، ولا يزال يوسف شاهين يكتبها بالفرنسية، ولكن المشكلة مرة أخرى أن يفلسف ناصر خمير ذلك بقوله إن الكتابة العربية تقوده لا شعوريا "لطريقة ما في التفكير تحدني وتمنعني عن التفكير بطرق مختلفة"، وقوله "أكتب بالفرنسية في محاولة للهروب من نوع من القوالب، ومن الأشكال التي تفرض نفسها علي. وأنا أكتب بالعربية هناك حدود تمنعني من التفكير والتعبير بحرية تامة".

سبعة كتب وسبعة أفلام

ولد ناصر خمير في أول أبريل عام 1949 في تونس ودرس العمارة والفلسفة والتاريخ والرسم والنحت والمسرح والسينما في تونس وباريس وعندما بلغ الخامسة والعشرين أصدر كتابه الأول "الغوله" وله حتى الآن سبعة كتب هي "شمس بين حيطين"، و "الغيمة العاشقة" (عن ناظم حكمت)، و "قال الراوي"، "مولد جدي"، و "أغنية الحب والموت" (عن ماريا ريلكه)، و "شهر زاد".

وفي الوقت نفسه أخرج ناصر خمير سبعة أفلام هي " لبغل" (تحريك 10 و) 1973، و "حكاية بلاد ملك ربي" (تسجيلي 60 ق) 1976 و "الغوله" (تسجيلي 120 ق)1977، و"الصمعة" (تسجيلي 55 ق) 1977، و "الهائمون" (روائي 95 ق) 1984، "طوق الحمامة المفقود" (روائي 90 ق) 1991، و"بحثا عن ألف ليلة وليلة" (تسجيلي 52 ق ) 1991.

وقد قرأت من كتب الفنان "الغوله"، وشاهدت من أفلامه "حكاية بلاد ملك ربي" و "الهائمون" و "طوق الحمامة المفقود". ولا زلت أذكر اكتشافي لناصر خمير في أثناء حضوري مهرجان قرطاج عام 1976. كان يوما بهيجا يوم شاهدت "حكاية بلاد ملك ربي" في بيت الثقافة ابن خلدون، وتعرفت بعد العرض على ناصر خمير حيث أهداني نسخة من "الغوله"، أما الكتاب فقد سحرني من أول القطع المربع الذي صدر به، وصورة والدة ناصر في الصفحة الثالثة، وإهداء الكتاب إليها في الصفحة الثانية، ثم صور شقيقاته الخمس في الصفحتين الرابعة والخامسة.

وفي قرطاج 1984 شاهدت "الهائمون"، وفي القاهرة 1991 شاهدت "طوق الحمامة المفقود".

عالم ناصر خمير

وإذا كان ناصر خمير في إبداعه من الكتب والأفلام يحاول البحث عن الهوية الثقافية الخاصة، فالمؤكد أنه يعبر في هذه الكتب والأفلام عن عالم فني خاص: عالم ناصر خمير.

وأول ما يلفت النظر من مكونات هذا العالم الأطفال. فكتاب "الغوله" برسوماته البديعة ولغته العامية التونسية يروي حكاية للأطفال، وشخصيات رئيسية متعددة في الفيلمين الروائيين من الأطفال. ولكن لا الكتب ولا الأفلام موجهة للأطفال بالطبع، وكثيرا ما يخلط الناس بين أدب وفن الأطفال والأدب والفن عن الأطفال.

يقول ناصر خمير في حديث مع وليد شميط في "التضامن" في 22/ 12/ 1984" الفيلم نافذة نحو الخارج. الكتابة معركة داخلية والرسم الأكثر ذاتية عندي. إنه أحب الفنون في زمن السلم. ولكننا ولدنا في زمن حرب، وهي حرب صعبة لأن المواجهة فيها غير واضحة: الحرب بين ما يخيل إلينا أننا ورثناه، وأنه يتطور ويتفاعل، وبين عوامل عديدة هي في الواقع رتبت مسح كل هذا التراث. إنها حرب الحضارات. ما هو دورنا في هذه الحرب ونحن الذين نعتبر أنفسنا ننتمي إلى حضارة عريقة؟".

ويقول الفنان في الحديث نفسه "عندما ترى ما وصل إليه العالم يفرض السؤال عليك فرضا: أين نحن، ما هو وجودنا، كمنطق، كحس، كرونق، كجماليات؟ أنا لا أملك جوابا، لأن السلطة القائمة تعتقد أن بإمكانها حل المشكلة بغلق الحدود، بينما الواضح أن المستقبل لا يقبل الانغلاق. المستقبل من صنع معركة الحضارات وتفاعلها، والسلطة عندنا تحاول أن تؤخر وقوع هذه المعركة قدر الإمكان. أكثر ما يخيفني أن نضيع وقتا كثيرا، وألا نتمكن من خوض المعركة، وأن تكون هزيمتنا مسبقة".

فيلم واحد من سبعة أجزاء

"الهائمون"، و "طوق الحمامة المفقود" فيلم واحد من جزءين، بل إن أفلام ناصر السبعة حتى الآن ربما تكون فيلما واحدا من سبعة أجزاء، بل إن أفلامه السبعة وكتبه السبعة ربما تكون عملا واحدا من أربعة عشر جزءا عنوانه ناصر خمير، وتلك من علامات الأصالة ونتيجة لها في الوقت نفسه. إننا إزاء فنان بصري إذا جاز التعبير، الذاتي بالنسبة إليه كما قال عن حق هو الرسم، وأفلامه ما هي إلا امتداد لعمل الرسام، فهي تفتقد القدرة التكنيكية السينمائية، ولكنها لا تفتقد الإحساس البصري القوي الذي لا نجده في الكثير من الأفلام السينمائية البارعة. والمشكلة الكبيرة في أفلام ناصر خمير أنه يعبر عن رؤية بصرية تشكيلية تحتاج إلى إنتاج كبير وعدد هائل من المساعدين الذين يقومون بالعمليات التكنيكية التي تخدم التعبير عن تلك الرؤية.

وموضوع ناصر خير في فيلميه الأولين هو الأندلس. أما الفيلم الأول فيدور في قرية تونسية صحراوية معاصرة، تماما كما أن موضوع "المومياء" إخراج شادي عبدالسلام عام 1969 هو الحضارة الفرعونية، بينما زمانه ومكانه قرية صحراوية مصرية في القرن التاسع عشر. وأما الفيلم الثاني فيدور في قرطبة أيام الأندلس. فلماذا اختار الفنان الحضارة الإسلامية في إسبانيا من بين الحضارات الإسلامية عبر أكثر من ألف وأربعمائة عام. إن ما تتميز به حضارة الأندلس أنها الحضارة التي التقى فيها الفكر الغربي مع الفكر الشرقي، وعاش فيها المسلمون مع النصارى واليهود جنبا إلى جنب. ولذلك اختارها ناصر خمير لمواجهة السلطة التي "تعتقد أن بإمكانها حل المشكلة بغلق الحدود" كما يقول، وليثبت للعالم أن العرب "قادرون على السلم" على حد تعبيره.

وفي الفيلمين حسرة واضحة، ولكنها لا تعني كما تصور البعض إحياء الحلم العربي الإسلامي بالعودة إلى إسبانيا الأندلس، وإنما هي حسرة على التمزق القائم بين العرب والمسلمين من ناحية، والحضارة الغربية المعاصرة من ناحية أخرى، ودعوة لرأب هذا الصدع التاريخي الهائل المتراكم عبر خمسة قرون من السيطرة الغربية على العالم. وربما لا يختلف مثقف وطني مهموم بواقع العرب في العالم المعاصر على هذه الرؤية، ولكن المشكلة ليست في العرب، وإنما هي في الآخر (الحضارة الغربية) التي ترفض الحوار مع الحضارات الأخرى، بل ولا تعتبر أن هناك حضارة أخرى أساسا وإنما هناك متقدمون من الأصل وإلى الأبد، ومتخلفون من الأصل وإلى الأبد. عن أي حوار حضارات يتحدث ناصر خمير وقد اشترت بلدية برلين في العشرينيات عائلة صومالية وعرضتها في حديقة الحيوانات في المدينة، وفكرت في شراء عائلة مصرية لعرضها مع العائلة الصومالية.