كلمات لا تُنسى.

 كلمات لا تُنسى.. د. جابر عصفور
        

يواصل الكاتب رحلته مع المؤتمر الأول للموسيقى العربية الذي شهدته القاهرة في منتصف الثلاثينيات وجمع للمرة الأولى أطراف الفنون العربية تحت سقف واحد.

          كانت الوثيقة الأولى التي حملها الكتاب التذكاري لمؤتمر الموسيقى العربية الأول هي الخطاب الذي كتبه مصطفى رضا بك رئيس معهد الموسيقى الشرقي الذي تعطف جلالة الملك فؤاد برعاية بنائه، وتشريف حفل افتتاحه الرسمي في السادس والعشرين من ديسمبر سنة 1932. ويمضي رئيس المعهد، مؤكدًا أن المعهد زاد رفعة بفضل شمول جلالته له بالرعاية الملكية السامية: «ولما لحظت جلالته الملكية أن هذا الغرس الذي غرسته يداه الكريمتان قد أثمر، تفضلت - كما تعلم معاليكم - فأشارت بعقد مؤتمر للموسيقى العربية، يؤمّه كبار العلماء والمشتغلين بالموسيقى، وكان لنفوذ جلالته في سائر الأقطار العربية وغيرها من البلاد الأجنبية فضل كبير في تيسير عقد هذا المؤتمر الذي تعلق عليه الآمال في الوصول إلى أكبر مرامي الموسيقى العربية بتنظيمها على أساس متين من وجهتي العلم والفن، تتفق عليه جميع البلاد العربية، فتتآزر في إحياء هذه الموسيقى، وهي من أهم مظاهر الحضارة في الأمم.

          ويكون من جملة أغراض هذا المؤتمر بحث وسائل تطور الموسيقى العربية، وإقرار السلم الموسيقي، وتقرير الرموز التي تكتب بها الأنغام، وتنظيم التأليف الصامت والناطق (الآلي والغنائي) ودراسة الآلات الموسيقية الصالحة، وتنظيم تعليم الموسيقى، وتسجيل الأنغام والأغاني القومية في كل هذه الأقطار، ثم بحث المؤلفات الموسيقية من مطبوع ومخطوط».

          وأول ما لفت انتباهي فيما اقتبسته من كلمات هذا الخطاب إلى وزير المعارف العمومية هو الوعي الاستراتيجي المؤسسي الذي يدرك وحدة الثقافة العربية، ممثلة في فنونها من ناحية، وضرورة العمل على تطويرها بعد تسجيلها تسجيلاً عمليًا من ناحية ثانية، والتخطيط للمستقبل والسبل الناجعة لعونها على التقدم من ناحية أخرى. ولا ينفصل عن ذلك شمول النظرة واتساعها وعمق المعرفة بموضوعها، وأهم من ذلك الإيمان بالمنهج العلمي في التخطيط والدرس، سواء من منظور الحفاظ على الموروث، أو منظور تطويره، بعد تسجيله. وأضف إلى ذلك الشعور بدلالة التنوع الخلاّق الذي يجمع بين فنون الموسيقى العربية، وتعدد طرائق أدائها واختلاف آلاتها بتعدد الأقطار المؤدية لها، وذلك بكل ما ينطوي عليه هذا التنوع من غنى في الموروثات القطرية داخل الوحدة القومية، وتباينات أدائية تؤكد معنى وحدة التنوع. ولا أنسى أخيرًا أن الروح العلمي الذي يسري في كلمات الخطاب يؤكد ضرورة الاستعانة بمن سبقنا إلى الخبرة، والتعاون والتفاعل معهم، بعيدًا عن أي شكل من أشكال العصبية الدينية والسياسية، فالعلم لاوطن له، وتطويره فرض عين على كل أبناء المعمورة الإنسانية التي تتبادل الخبرة، وتتآزر في مسعى التطوير الذي لا نهاية له أو حد.

          ويمضي مصطفى رضا بك (العاشق للموسيقى) مخاطبًا وزير المعارف العمومية، بوصفها الوزارة التي تتولى أمر الفنون الجميلة وإحيائها، وتشرف على معهد الموسيقى، وتمدّه كل سنة بإعانة ليستطيع المضي في أعماله وإدارة قسم المدرسة فيه، أقول يتقدم مصطفى رضا، بوصفه رئيس إدارة المعهد، بطلب مخاطبة الملك المعظم في الإيذان ببدء العمل في المؤتمر الذي أوصى هو به، وشموله برعايته السامية. وكان الخطاب محررًا في الثامن عشر من يناير سنة 1932. ولا يستغرق وزير المعارف وقتًا طويلاً، فيرفع على الفور مذكرة إلى مجلس الوزراء في اليوم الثاني مباشرة، مؤكدًا أن تنظيم مثل هذا المؤتمر من أقوى مظاهر الحضارة في الأمم، وأهم من ذلك أن البدء في الدعوة إلى المؤتمر يأتي تحقيقًا لرغبة ملكية سامية. ويوافق مجلس الوزراء في اليوم الثاني مباشرة على ما جاء في مذكرة الوزير، ويبلغ وزارة الخارجية بقراره في العشرين من يناير سنة 1932، وذلك في سرعة إيقاع لم نعد نرى لها مثيلاً في هذا الزمان الذي تستغرق فيه المكاتبات الشهور والأعوام، فتأمل الفارق بين الزمانين. وسرعان ما يأتي الأمر الملكي رقم 10 لسنة 32 بتعيين البارون دي أرلنجر نائب رئيس فني للجنة تنظيم مؤتمر الموسيقى العربية (في الثامن والعشرين من يناير 1932).

المؤتمر يبدأ أعماله

          ويصدر القرار بأسماء لجنة التنظيم التي تبدأ عملها على الفور، وتتصل بكل المدعوين الموزعين على الأقطار الأوربية والعربية العربية على الفور، وذلك بمعاونة وزارة الخارجية، وتطلب اللجنة المعاونة بالآراء والمقترحات، فينهال عليها ما يجعلها تنجح في التخطيط العلمي والتنفيذ السليم، وتتشكل اللجان التي تسرع في إيقاع العمل، وتستمر على سرعة إيقاعها إلى أن يكتمل الإعداد للمؤتمر، بعد الاتصالات وإيصال الدعوات، ويصبح كل شيء جاهزًا للبداية في مساء الاثنين الثامن والعشرين من مارس برياسة حضرة صاحب المعالي محمد حلمي عيسى باشا وزير المعارف العمومية في المؤتمر، ويعلن سعادته في كلمة الافتتاح عن حفل الختام في مساء الأحد الثالث من أبريل 1932. ويحمل كتاب محمود الحفني نص الدعوة إلى المؤتمر، وصورة شارة العضوية، والتذكرة الشخصية للأعضاء على السواء.

          وبدأ العمل في المؤتمر الذي كانت تنعقد جلساته في الصباح من العاشرة إلى الثانية عشرة، وتعقد الجلسات بعد الظهر من الساعة الرابعة إلى السادسة مساء. وتبدأ أعمال كل جلسة، في كل لجنة، بتلاوة تقرير اللجنة المقدّم عن أعمالها للمؤتمر. وتكتمل التقارير مع اليوم الأخير، وتصبح ثروة علمية وتخطيطية وبحثية، تغدو منطلقة لأهداف واستراتيجيات وأحلام لم يتحقق معظمها إلى اليوم. وكان الملك قد أناب عنه رئيس مجلس الوزراء إسماعيل صدقي باشا في حفل افتتاح المؤتمر. ويبدأ الحفل بكلمة وزير المعارف الذي يرحّب بالحضور ويشكرهم على الإسهام في أعمال المؤتمر، ولا ينسى أن يشير إلى أن جلالة الملك عندما تفضل بافتتاح معهد الموسيقى الشرقي أبدى رغبته السامية في عقد مؤتمر يضم كبار المشتغلين بالموسيقى العربية لبحث جميع المسائل التي تتعلق برقيها وتعليمها ووضعها على قواعد علمية ثابتة، وأن العمل في الإعداد للمؤتمر يبدأ في اليوم الذي أبدى فيه صاحب الجلالة رغبته السامية.

          ويؤكد الوزير في كلمته أهمية انعقاد المؤتمر، ويبدي سعادته أن لبَّى الدعوة علماء مشهود لهم بالتخصص والدراية بفن الموسيقى العربية من مختلف البلاد الأوربية، وأن أمله عظيم في تعاونهم مع الفنيين الشرقيين بما يسفر عن أحسن النتائج، ويعيد تحديد مهمة المؤتمر بأنها تنظيم الموسيقى العربية على أساس متين من العلم والفن تتفق عليه جميع البلاد العربية، وبحث وسائل تطوير الموسيقى العربية، وإقرار السلم الموسيقي، والرموز التي تكتب بها الأنغام... إلخ، ولايخفي الوزير إدراكه بأن مهمة المؤتمر دقيقة، لأن الباحثين فيه لا يجدون أمامهم كل الوسائل التي يسترشدون بها في أبحاثهم ،وأنهم مضطرون إلى أن يبتكروا، وأن يستنبطوا ما تستطيع أن تصل إليه قرائحهم وأذهانهم المستنيرة من الأسس والقواعد التي يصح أن يبنى عليها مستقبل هذا الفن. ويرى الوزير أن هذا الوضع لا يجعل الحكومة تطمع في نتائج نهائية حاسمة، ويكفيها من نتائج عقد المؤتمر - وهو الأول من نوعه - تنبيه أذهان المشتغلين بالموسيقى العربية في سائر بلادها إلى المسائل المهمة التي يجب أن يعنوا بدراستها من الآن في المستقبل، وأن يسترشدوا بما يصل إليه المؤتمر من قرارات أساسية وقواعد مهمة.

          ويختم الوزير كلمته بفائدة جمع كل هذا العدد الغفير من العلماء والمبدعين، وإتاحة الفرصة لهم للتعارف الإنساني وتبادل الخبرة العلمية والفنية. ولا يفوت الوزير في الختام الدعوة لمليكه الذي يرجو بقاءه حاميًا ومشجعًا للفنون والأداء.

تاريخ التراث الموسيقي

          وتأتي كلمة البارون كارا دي فو في حفل الافتتاح بالغة الدلالة، غنية بمعانيها وإيحاءاتها ومقاصدها، وبعد تقديم الشكر المعتاد تؤكد الكلمة أن العلماء الذين حضروا المؤتمر قد أجابوا عن جميع الأسئلة التي وضعها منظّمو المؤتمر بطريقة وافية جلية، وأنهم أوضحوا كثيرًا من المسائل، وجمعوا مستندات وبيانات عدة، كما وضعوا أسس ومسائل ثابتة يرجع إليها في المستقبل. أما فيما يختص بتاريخ الموسيقى العربية، فقد وضعوا فهرسًا لكتب سبق أن ترجم كثير منها، وعندما تطبع في المستقبل، فيما يقول، سوف يقف منها الموسيقيون الذين يتكلمون العربية على معلومات مفصلة وافية في فن الموسيقى العربية. ولا ينسى المستشرق الجليل الإشارة إلى أن لجنة التسجيل جمعت مجموعة جديدة من الأقراص التي دوّن فيها ملخص ما وصلت إليه الموسيقى في مختلف أنحاء البلاد العربية على لسان أشهر الموسيقيين.

          وقامت لجنة السلم الموسيقي بتجارب دقيقة جدًا، غير أنه مما يؤسف له، فيما يقول، أن نتائجها لم تكن كافية، لأنها يجب أن تبحث من الوجهة العلمية العامة، ويؤكد كارا دي فو أن تدخل علماء أوربا في معلومات الفن القديم، وتحليل المعلومات الحاضرة تحليلاً دقيقًا وافيًا لا يكون مجديًا ولايزال عديم الفائدة. وينتقل المستشرق الجليل إلى أهم جزء في كلمته عندما يقول: «وأما فيما يختص برقي الموسيقى الشرقية في المستقبل وانتشارها وإمكان غنائها وتنويعها وتقويتها سواء أكان بعلم الهارموني أم بإدخال آلات حديثة أم بأي طريقة أخرى، بدون تغيير طابعها الأصلي، فإننا لا نظن أن الفن الأوربي يستطيع أن يعمل شيئًا كثيرًا أو يرشد إلى أمر ذي بال في هذه الناحية. وهذا يرجع لعمل الشرقيين وحدهم وعليهم أن يبتكروا الأشكال الحديثة التي تلائم فنّهم، وأن يتعلموا التجديد مع دوام ارتباطهم بالماضي.

          ولا يكفي التبحر في الفن وقوة التحليل للوصول إلى هذه الغاية، إذ لا مسلك لها إلا من طريق حدة الفكر وعظمة الخيال وقوة النبوغ».

          والكلمات السابقة كلمات حكيمة من عالم أصيل، يدرك أنه لا معنى للمعاصرة دون أصالة، وأن التجديد يبدأ من قتل القديم فهمًا، وأنه نتاج لوعي جديد يتفاعل فيه الوافد والأصيل، ويصل فيه المبدع - من خلال عمق وعيه بتراثه وخوضه الأعمق في علاقات واقعه بكل خصوصيتها - إلى الجذر الإنساني الذي يكون فيه الخلاص سبيلاً إلى العام، والمحلي طريقًا إلى العالمي. ولا يقتصر هذا المبدأ على الموسيقى وحدها، بل يشمل غيرها من كل أنواع الإبداع التي تغدو بلا قيمة لو كانت مجرد تقليد للآخرين الأكثر تقدمًا، على طريقة ابن خلدون الذي ترك القانون الشهير عن المغلوب المولع بتقليد الغالب. وقد أثبتت التجارب أن كل تقليد لا معنى له ولا قيمة لأنه إضاعة للهوية، وتجاهل للخصوصية وابتعاد عن الملامح الفردية الأصيلة غير القابلة للتكرار في أي فعل من أفعال الإبداع مهما كان موطنه أو زمنه أو صانعه. وكانت دعوة كارا دي فو تحذيرًا من التغريب في مجال الموسيقى وغيرها من كل ألوان الإبداع، ودعوة إلى الأصالة والتفرد والخصوصية التي هي جذر الإبداع الإنساني في كل مكان، وعلامة العبقرية الإبداعية التي تخترق جدران اللغات والقوميات، مؤكدة وحدة التنوع الخلاق لإبداع الإنسانية الذي يغتني بتعدد خصوصيات مكوناته واختلاف هويات أنواعه، وبعده الكامل عن التقليد، تأكيدًا لما أسماه كارا دي فو «حدة الفكر، وعظمة الخيال، وقوة النبوغ».

          ولم يفت هذا المعنى على الأستاذ الدكتور كورث زاخس الذي أكد ضرورة أن نضع أسلوبًا جديدًا دون أن نهمل شيئًا من التراث النفيس الذي خلّفته لمصر الأجيال الكثيرة التي تتابعت في تاريخها الإبداعي الذي يبدأ من قبل عصورها الإسلامية.

الموسيقى العربية والغرب

          ولم يكن من قبيل المصادفة - والأمر كذلك - أن يؤكد كارا دي فو في الكلمة التي ألقاها بمناسبة اختتام المؤتمر تبادل الإبداع بين الشعوب وتفاعلها في فاعلية الأثر والتأثير، فنبّه على أنهم لم يجدوا مبحثاً أكثر أهمية وأعظم شأنًا من «مسألة تأثير الموسيقى الشرقية في الموسيقى الغربية في القرون الوسطى». وهو تنبيه يكمل به إلحاحه على قيمة الخصوصية بوصفها السبيل الأمثل للابتكار والتأثير في الآخرين على السواء. ومن الواضح أن الإلحاح على الخصوصية لم يكن ينفي إمكانات التبادل الحضاري والحوار بين الثقافات في مجال الموسيقى بخاصة، والمعرفة الإنسانية بعامة. ولذلك، قال الأستاذ جوستر رامبيري: «إن التبادل المستمر في الشعور والأفكار بين الأمم القريبة والنائية قد حصل، في أغلب الأحيان، بواسطة الفنون، لأن الفن له مزية قائمة بنفسها وجدت بوجود الإنسان، وجعل لها الأقدمون صبغة روحية، فقد قال القديس أوجستان: «إن الفن موطنه الروح فلا ينفصل عنها». وأغلب الظن أن القديس «أوجستان» هو القديس «أوغسطين» (354 - 430) الذي كان لاهوتيًا وفيلسوفًا كبيرًا صاحب «الاعترافات» الشهيرة و«مدينة الله» و«النعمة».

احياء الماضي الموسيقي

          وتأتي بعد كلمة كارا دي فو التي ألقاها بالفرنسية وترجمت إلى العربية، كلمة الدكتور هنري فارمر التي ألقاها بالإنجليزية في حفل الختام،، وبعد البدايات التقليدية، يقول مايستحق أن نستعيده بوصفه ختامًا دالاً لكلمته، خصوصًا حين يبدأ بالإشارة إلى أنه قد وقف حياته على خدمة الموسيقى العربية القديمة، وأن المؤتمر أسعده سعادة خاصة، إذ جعل الأمجاد الذين اهتم بهم من عصور الماضي يحيون مرة أخرى. ويواصل قائلاً:

          «إن سماع الموسيقى الرائعة التي وضعها أسلافنا الموسيقيون الذين قضيت سنين عدّة في الكتابة عنهم أدخل على قلبي سرورًا عظيمًا. وإني على الرغم من صعوبات كثيرة أشعر عن يقين أن هذا المؤتمر سينتج ثمارًا دانية القطوف. نعم لقد كان هناك تضارب في الآراء، ولكن سنستطيع مع شيء من الصبر والتسامح أن نجد طريقًا أمينًا للمستقبل».

          ويؤكد فارمر ما سبق أن أكده كارا دي فو من منظور موازٍ فيقول: «إن الموسيقى العربية لاتستطيع أن تقف جامدة، فالمدينة العصرية مع تياراتها الجارفة التي لا تعوقها العقبات ستدفع الموسيقى العربية إلى التقدم إلى الأمام، وعلينا متى ظهرت بوادر هذا التقدم أن نحرص على أن تسلك طريقًا يحفظ روحها الوطنية وطابعها، لأن فقدانها ذلك الميراث المجيد يعد كارثة عظيمة». ومن الجميل أن يأتي هذا التحذير ممن تنتمي الموسيقى الغربية الحديثة إلى حضارتهم، ولكن فارمر كان يدرك ألا قيمة لمستقبل لا ينبع من الحاضر الذي يحيا فيه الماضي العظيم، وأنه لا مستقبل واعدًا إلا بالاعتماد على العناصر الحية التي تبعث على التقدم، وتكون دافعًا خلاقًا إليه. ولذلك، يطالب فارمر بضرورة منع التقليد الأعمى وأهمية الحفاظ على الميراث الثقافي الذي يصلح للبناء عليه، والانطلاق منه، فواجب مصر المحافظة على مجدها التراثي، فيما يقول، فهي التي أنبتت ابن علي المغربي والمسبحي في القرن الخامس بعد الهجرة. وقد وضع كل من هذين المؤلفين كتبًا على طراز كتاب «الأغاني» العظيم لمؤلفه أبي الفرج الأصفهاني. ومصر - فيما يقول فارمر - هي التي أهدت إلى العالم الإسلامي الفلكي الشهير ابن يونس الذي وضع أيضًا كتابًا خاصًا في تمجيد العود بعنوان «العقود والسعود». ومن أرض النيل، خرج ابن الهيثم الذي وضع الشروح الوافية والنقد الصحيح لنظريات إقليدس الموسيقية. وعاش في مصر أبو الصلت أمية، وقد كانت رسالته في الموسيقى على جانب من الخطورة، إذ ورد ذكرها واستشهد بها في الكتب العبرية. وكان البياسي المعدود من أصفياء صلاح الدين الأيوبي موسيقيًا بلغ مستوى عاليًا من الإجادة، وعلم الدين قيصر الذي كان من أبناء مصر كان أشهر أهل عصره في نظرياته الموسيقية.

          لقد كان خيالي يسرح بي، وأنا أقرأ هذه الكلمات وأنقلها، وأستدعي بعيني، في تخيلها، صور الجالسين الذين كانوا يجلسون، ويستمعون إلى هذه الكلمات، ومنهم أمثال محمد عبدالوهاب وصفر علي وداود حسني وكامل الخلعي ودرويش الحريري وغيرهم من أعلام الغناء والموسيقى. لاشك أنهم كانوا يشعرون بالفخر بتراثهم الموسيقي، ويزدادون إيمانًا بأن عليهم متابعة المدنية العصرية التي تدفع الموسيقى العربية إلى الأمام، كما يزدادون إيمانًا بالقدر نفسه بأن متابعة المدنية العصرية لاتتناقض والاهتمام بالتراث الموسيقي والإفادة منه، فمعرفة التراث ينبغي أن تكون الوجه الآخر من متابعة الجديد، وأن الأصالة الضاربة بجذورها في الماضي كالمعاصرة التي هي معايشة لآفاق الحاضر وأشكال تقدمه في كل مكان، كلتاهما أشبه بجناحي الطائر في انطلاقه صوب المستقبل الواعد في طريق هذا الفن الشريف المجيد: الموسيقى العربية وغناؤها الراقي. ولا غرابة أن يكون هؤلاء - مع محمد القصبجي وعبدالوهاب وأم كلثوم ورياض السنباطي وغيرهم - نوارة المستقبل الذي شهدنا ذرى صعوده، قبل أن نشهد موجات انحداره التي بدأت مع هزيمة العام السابع والستين.

          وأخيرًا، تأتي كلمة جناب الدكتور كور زاخس التي ألقاها في حضرة جلالة الملك نائبًا عن أعضاء المؤتمر، وأهم ما فيها - في تقديري - الإلحاح على ضرورة السعي في هدوء إلى الرقي الذي ننشده، لأن الطفرة بعد انقضاء ألف عام من الركود كثيرة الضرر، ولذلك، لابد من وضع أسلوب جديد لايهمل شيئًا من التراث النفيس الذي لابد لها أن نفخر به ونضيف.

          يمضي زاخس معددا إنجازات المؤتمر، مؤكدًا أن أعمال المؤتمر خلّدت للأجيال العديدة بالحاكي (الفونوغراف) أجمل قطع الموسيقى الشرقية من مراكش إلى العراق، وأنها وضعت قواعد لطبع جميع المؤلفات التي تشرح ماضي الموسيقى الجليل منذ العصور القدية، وهذه المؤلفات أساس مهم لترقية الموسيقى. يضاف إلى ذلك أن المؤتمر وضع منهاجًا مفصلاً لتعليم الموسيقى في المدارس، ويعد هذا المنهاج مبدأً وضمانًا لإصلاح الموسيقى المصرية، وسيكون فخرًا للمؤتمر في العصور التالية. وفي الختام يشكر الدكتور زاخس جلالة الملك والبلد الجميل الذي اشتهر أهله بالكرم.

          وتنتهي أعمال المؤتمر الذي لم يفت الملك فؤاد استقبال وفد منه يوم الخميس في الحادية عشرة والنصف من يوم الحادي والثلاثين من مارس. ويلقي حضرة المحترم الأب كولا بخيت كلمة نيابة عن الأعضاء أمام الملك الذي أحسن استقبال مدعويه. ويهمني من الكلمة تأكيد بعض معانيها التي يجب عدم نسيانها. وأولها: «إن للسعادة مظاهر تنمّ عنها، والموسيقى واحدة منها لا يجوز إسقاطها، فإن الشعب الذي يغنّي لها شعب سعيد». وأضيف إلى ذلك تأكيد كولا بخيت: «إن الترقية والتجديد لا يستلزمان حتمًا هدم القديم، بل نحن نعد جرمًا كل مساس بهيكل الموسيقى العربية القديم، ونريد لهذا الفن الجميل الذي ازدهرت به عصور الخلفاء الأقدمين، وتناقله الخلف عن السلف بعناية حتى وصل إلينا، نريد له أن يحتفظ بصبغته، وأن يبقى فنًا عربيًا حقًا». ويلقي الأستاذ محمد زكي علي بك السكرتير العام لمعهد الموسيقى الشرقي كلمة تحية وإجلال للملك فؤاد. أما حضرة الدكتور محمود أحمد الحفني مفتش الموسيقى بوزارة المعارف والسكرتير العام للمؤتمر، فيلقي الأبيات التالية على مسامع مليكه:

مولاي أوليتني نعمةً لساني يعجزُ عن شُكْرِها
وأسعدتني بالرّضاء الكريم فأمّنت نفسي من دَهْرِها
تتيهُ الفنونُ بحامي الفنونِ ومحيي النفائس في مصرِها
وتزدهي الأغاني على غيرِها لأنك أفضلتَ في بَرها
بقيتَ لمصرَ مناطَ الرجاءِ تُصرِّفُ بالرأي من أمرِها
وعشتَ لفاروقَ أعلى مِثالٍ يَصُونُ المعالي في قُطْرِها


          وأحسب أن الملك فؤاد ابتسم للأبيات التي تجامله تقديرًا لكل ما قدمه للفنون من رعاية واهتمام، حتى لو لم يبد منه في السياسة سوى التسلّط ومعاداة المدّ الوطني الجارف للجماهير، ومعاداة الوفد بزعامة سعد زغلول الذي كثرت خلافاته مع الملك الذي أسعد الأقلية على حساب الأغلبية، لكن بما يجعل حسناته في الإنجاز الحضاري تغلب سيئاته السياسية، وذلك في زمن جميل برجاله الكبار الذين خلفهم صغار في كل شيء.

 

جابر عصفور