طبرية.. ساحة الصراع من الغزو الصليبي حتى الآن

طبرية.. ساحة الصراع من الغزو الصليبي حتى الآن

لندخل معا تحت عباءة التاريخ.. لنتابع معا حركة هذا المكان الذي كان بؤرة للصراع منذ قرن من الزمن.. ومازال ؛ لأن هذا العام يصادف مرور 900 عام على الغزو الصليبي لبلاد الشام.

المكان واضح ولا يحتاج إلى خريطة لتحديد موقعه، أو التعرف إلى طريقة للوصول إليه. والزمان كذلك غير مجهول، يكفي أن تفتح أي صفحة من كتاب "الإفرنج" حتى ينهال أمامك التاريخ "المرابط" على ضفاف "البحيرة"، الواقعة ما بين المدينتين، أو ما بين نصفين من قلب الشام، مركز الحركة وموقع النبض، منذ رحلة "الصيف" الشهيرة إلى الأسواق المحيطة بدمشق، حتى "رحلة" الصيف الآخر إلى بيت المقدس، محررة المدينة الأثيرة بعد نحو قرن من الاحتلال.

هذه الصورة تكاد تحجبها ألوان الحاضر البئيس. على أن التاريخ لا تكفي قراءته على مساحة الحدث فحسب، فهو قائم، وإن بصورة غير مباشرة في اللحظة الحاضرة، مشتبك في نسيجها، متفاعل في الرؤية العقلانية إلى المستقبل، بعيداً عن الدائرة العاجية التي اختصرت التاريخ واستحوذت لأوقات طويلة عليه. ومن هذا المنظور تصبح طبرية أكثر من مكان ومن محطة كبرى في تاريخ المرحلة الصعبة.. فهي تقدم نفسها كتراث وضوء.. والقراءة خارج هذه المعادلة لا تسوغ مشقة المسير.

ومن حديث المنهج، إلى حديث الحوافز، نقترب من السؤال المنتظر.. لماذا طبرية؟

استوقفتني طبرية، خصوصا وأنا أبحث على مساحة الصليبيات أو على تخومها المباشرة. ثم تصبح في تمام الضوء ما بين حركة أتابك الموصل "مودود" الظافرة بعد انكفاء طويل، وبين الانتصار المجيد للسلطان الأيوبي، حيث كانت "حطين" بداية النهاية الفعلية لغزو خارجي مر عليه نحو قرن، ممهدة لإسقاط مشروعه الشرقي بعد نحو قرن آخر، والقضاء على معقله الأخير في عكا، القاعدة البحرية الواقعة على مسافة لا تتعدى اليومين عن طبرية.

ماذا عن طبرية الموقع والتاريخ؟

جاء في "معجم" ياقوت أنها اسم أعجمي، وهي "بليدة مطلة على البحيرة المعروفة ببحيرة طبرية، وهي في طرف جبل، وجبل الطور مطل عليها.. وهي في طرف الغور ، بينها وبين دمشق ثلاثة أيام، وكذلك بينها وبين بيت المقدس". قد يكون الموقع سبيلا إلى قراءة التاريخ الذي يكشف لنا أهمية المكان الممتد بين أعظم مدينتين في الشام، دون أن يكون ممكنا فصل إحداهما عن الأخرى في السياسة أو الجغرافيا أو التاريخ. فلقد كانت خسارة القدس جسيمة لدى المسلمين الذين افتقدوا لأول مرة ثالث الحرمين بعد نحو خمسة من القرون.

ومن جانبهم لم يشأ الصليبيون الاكتفاء بما حققوه من هدف حيوي بالنسبة لمشروعهم الشرقي، وهو احتلال بيت المقدس. فثمة ما كان حيوياً أيضاً لتحصين هذا المشروع، وذلك بنشر الذراعين ما بين دمشق والقاهرة، لاسيما الأولى لكونها هدفا مرحلياً أساسياً في ذلك الوقت الذي أعقب تأسيس المملكة اللاتينية في بلاد الشام.

هكذا تبدو طبرية في المكان الوسط بين أعظم مدينتين، وكلتاهما لا يستقيم لها نفوذ دون الأخرى على كامل المنطقة. ومرة أخرى نستعين بياقوت الذي قال: "وأسفل طبرية جسر عظيم عليه طريق دمشق". وهذه البلدة الفلسطينية بطبيعتها السهلية المنخفضة وموقعها المتوسط، الممسك بمفاتيح السيطرة على المنطقة، أصبحت معبراً للجيوش منذ وقت مبكر، وتحولت إلى جبهة ساخنة للقتال ما بين القوى السياسية الكبرى المتنافسة على النفوذ في الشام ، ولا بأس هنا من تقليب بعض الصفحات وصولا إلى تاريخها القديم، إذ يبدو أن اسمها مرتبط بأحد أباطرة الروم "طبارا" أو "طيباريوس"، أو قبل ذلك بالإمبراطور الروماني طبرياس في طالع القرن الأول الميلادي.

خط عسكري

أما تاريخها العربي الإسلامي، فيبدأ مع شرحبيل بن حسنة أحد قادة الفتوح في الشام ، حيث أصبحت جزءاً من ولاية الشام. ثم انكفأت بضعة قرون إلى الظل، قبل أن تستعيد حركية موقعها، كخط عسكري في الصراع على دمشق، بين الفاطميين والقوى الحليفة للخلافة العباسية ، غير أن فصلاً طويلاً في تاريخ طبرية، بدأ يكتب مع الغزو الصليبي "491 هـ"، حين تمت السيطرة عليها في أواخر القرن الخامس الهجري "499" هـ. وباتت تمثل حينذاك ما يشبه خط الدفاع الرئيسي عن مملكة بيت المقدس اللاتينية، وهو أمر سرعان ما نلحظه في قيام أول مواجهة بالقرب منها، بين "أتابك" دمشق "طغتكين" والملك الصليبي "بلدوين".

وفي خطوة لتوحيد جبهتي الشام والجزيرة، تشكل حلف من الأمير مودود صاحب الموصل وتميرك صاحب سنجار والأمير إباز بن إيلغازي، فضلاً عن طغتكين صاحب دمشق. ولكن هذا الحلف لم يترجم أهدافه على المستوى العملي، فانفض إلا عن علاقة ودية (في الظاهر على الأقل) بين " صاحبي" الموصل ودمشق. ولقد كان من ثمارها توجه مودود- بناء على طلب طغتكين الذي عانى حينذاك غارات الملك الصليبي على عاصمته- إلى الشام، ومنها مع صاحب دمشق إلى الأردن حتى الإقحوانة. فالتقيا جيشا صليبيا بقيادة الملك ومعه الفرسان والمقدمون عند طبرية. يقول ابن الأثير: "اشتد القتال وصبر الفريقان ثم إن الفرنج انهزموا وكثر القتل فيهم والأسر وممن أسر ملكهم بفدوين.. وغرق منهـم في بحيرة طبرية ونهر الأردن كثير..".

كان ذلك أول انتصار كبير يحققه المسلمون على الصليبيين، والفضل في ذلك يعود إلى حماسة مودود وصديقته، مما يؤسس لمعادلة جديدة ، لن يبقى الصليبيون بعدها ممسكين بزمام الموقف في المنطقة. ولكن الثمن في المقابل كان كبيراً، فما كاد أتابك الموصل يعرج على دمشق لأخذ قسط من الراحة مع جنوده، حتى سقط صريعاً في صحن المسجد الأموي، وقيل إن أحد "الباطنية" كان وراء اغتياله وقيل أيضاً إن طغتكين- والرواية لابن الأثير-"خافه فوضع عليه من قتله".

حيث لا يمكن الاختراق

ولكن طبرية ظلت برغم ذلك، خط الدفاع القوي للمملكة اللاتينية، ولم يستطع الأتابكة اختراقه على الرغم من العمليات المتكررة. أما التحول الفعلي في موازين القوى فقد ارتبط بشخصية نور الدين محمود زنكي، خصوصاً بعد نجاحه في السيطرة على دمشق.

ولعله- وقد أصبحت هذه المدينة ساحته الأثيرة- بدا حينذاك عميق الصلة بها، وذلك بما يتعدى السلطة إلى الوجدان الشعبي الذي سرعان ما نفذت إليه شخصية المجاهد الوقور والشجاع، ليحفر- وخلال سنوات قليلة- في المجتمع، ما لم تستطعه عهود كثيرة في القرون السابقة.. ومن هذا المنظور يمكن استيعاب معنى السيطرة على دمشق كتتويج لوحدة الشام، ذلك الإنجاز الذي روع الصليبيين، وعلق عليه أبوشامة بقوله: "كان أبغض الأشياء إلى الفرنج أن يملك نور الدين دمشق، لأنه كان يأخذ حصونهم ومعاقلهم وليست له "دمشق" فكيف إذا أخذها وقوي بها".

لم ير نور الدين فائدة من مقارعة الصليبيين على خط طبرية، إذ كان مشروعه يتعدى هذه المساجلة، ليطبق على أعدائه بصورة محكمة. وهو أمر لا يتحقق عملياً إلا بالسيطرة على مصر التي أسعفه الحظ حينئذ، بأن الحكم الفاطمي يمر فيها بأسوأ ظروفه.

وقد عهد نورالدين إلى القائد شركوه (من الأسرة الأيوبية) بهـذه المهمة التي شارك فيها أيضاً ابن أخيه صلاح الدين، وكانت هذه قد دخلت في خدمة الزنكيين وأصبح لها شأن في "دولتهم"، وحازت على ثقة نور الدين بشكل خاص. ولكن شاءت الظروف أن تقلب الموازين والتوقعات، فقد أغرت مصر والانتصارات السهلة على أرضها صلاح الدين بالسيطرة عليها، ولم يستطع نور الدين تأديب قائده لأنه فارق الحياة وهو يعد للحملة عليه، على أن القائد الأيوبي- وبعيدا عن هذه المسألة الإشكالية- أثبت مقدرة وكفاءة في إدارة الخطة التي وضعها نور الدين، لا سيما الرامية إلى توحيد جبهتي الشام ومصر تمهيداً للانقضاض على المواقع الصليبية.

في ذلك الوقت أخذت طبرية، كخط قتالي، تستعيد سخونتها، وأخذت ترتفع مجدداً وتيرة المواجهة على ساحتها، فتحقق جيوش المسلمين اختراقات عسكرية مهمة في ذلك الوقت. ثم تأخذ تطورات المرحلة بعداً أكثر خطورة من جانب المسلمين الذين عدلوا خطتهم من الغزو إلى التوسع، على نحو ما جرى من سيطرة على حصن من أعمال طبرية، مطل على سوادها (578 هـ). وتأتي قيمة هذا الإنجاز، بأن الحصن شكل أحد العوائق التي كانت تتعرض لها قوات المسلمين المتحركة ما بين مصر والشام.

مفتاح القدس

والمتتبع لحركة الصراع بين المسلمين والصليبيين في تلك المرحلة، لا يكاد يرى غير هذا المكان مشتعلاً بين الطرفين ولا غرو، فهو مفتاح القدس والطريق إليهـا.. وكلما ازدادت المواجهة حدة كان ذلك يعني أن معركة تحرير المدينة قد دخلت طورها الجدّي أو اقتربت منه. وتشاء المصادفات حينذاك أن تقدم طبرية فرصة مهمة في هذا المجال، فيخترق المسلمون عبر السياسة ما لم يستطيعوه بالحرب، وتتجلى لصلاح الدين، ربما للمرة الأولى، خطة التحرير، محاولاً الإفادة من الصراع القادم بين صاحب طبرية، الوصي على عرش القدس، وأرملة الملك السابق بعد اقترانها بأحد القادمين من الغرب، ونقلها إليه الملك متخلية عن الوريث الشرعي ابنها الصغير. ورأى السلطان الأيوبي أن حالة الانقسام هذه مقدمة لانهيار حكم الصليبيين، خصوصا أن مؤيدي الابن الشرعي "اعتضدوا" به وطلبوا مساعدته.

ولقد شجع ذلك صلاح الدين على تكثيف عملياته في هذه المنطقة، فتوجه على رأس حملة كبيرة إلى الاقحوانة بالقرب من طبرية وسرعان ما داهم الأخيرة بهجوم مفاجئ ودخلها عنوة ليحقق أعظم إنجاز عسكري في ذلك الحين. ولقد أحدث ذلك اختلالا واضحا في موازين القوى بين المسلمين والصليبين، فكان أول المعترفين بهذا التحول صاحب طبرية الذي نسب إليه القول: "لقد رأيت عساكر الإسلام قديما وحديثا.. ما رأيت مثل هذا العسكر الذي مع صلاح الدين كثرة وقوة".

كانت معركة من دون شك، مقدمة لمعركة حطين الشهيرة، سواء في المكان أو في الزمان. بل إنها سرعت ما حدث من تطورات خطيرة حين خرج الصليبيون مرتبكين في حملة انتقامية واصطدموا في معركة طاحنة ضد قوات صلاح الدين. وكان الوقت صيفا (583 هـ) ، فتراجع الصليبيون نحو طبرية للتزود بالمياه، ولكن السلطان الأيوبي حاول منعهم ، فوقعت عدة مواجهات، لم يستطع خلالها الصليبيون النيل من مواقع المسلمين، فأصابهم وهن، وأخذوا يتراجعون للتخلص من الحصار الذي وجدوا أنفسهم فيه، ولكن حملات المسلمين اشتدت عليهم ولم يكن مفر لهم من الهزيمة التي كانت مدمرة، وشكلت مفصلاً كبيراً في تاريخ المرحلة، فقد كانت "حطين" بهذا المعنى تتويجا لتلك الصحوة التي بدأت مع الأمير مودود، وتوهجت مع نور الدين، فيما أخذت جذوة "الإحياء الديني" الأوربي التي تأسست عليها الحركة الصليبية في الانطفاء. ولم تعد سوى مسألة وقت، أو القليل منه، ما يفصل بين حطين وتحرير القدس التي بدت شبه ساقطة بحكم الأمر الواقع ،

خصوصاً بعد انتشار قوات المسلمين محررة الثغور والحصون من القوات الصليبية. وهكذا جاءت استعادة بيت المقدس محصلة لتلك العمليات المكثفة على جبهة طبرية، بدءا من مرحلة الاستنزاف، حتى مرحلة التوسع وإنهاك العدو بالضربات المتتالية. هذه البلدة، المدينة، المعبر الطبيعي للحملات، الخط العسكري الصعب، القائمة على ضفة البحيرة حيث يمر نهر الأردن هي مكان أثير من قطر أثير، على أنها في النتيجة ليست مكاناً فحسب.. إنها التاريخ بصخبه وتجلياته وعنفوانه، وهي الرمز المؤشر إلى الصمود في الأرض والمقاومة الدءوب ضد العدو، والتراث الذي تحتفظ خزائنه بصحائف كثيرة من ذلك الزمن الذي يمتزج فيه الوجع بالفرح ، والتاريخ بالحاضر، والصدى بالشعر.

 

إبراهيم بيضون

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات