سنة في السويد

سنة في السويد

كنا في أواخر الستينيات، إن لم تخني الذاكرة في التاريخ، وكنت ومجموعة من صحبة المحلة الكبرى، أذكر منهم أحمد عسر وأحمد الحوتي ونصر أبوزيد ورمضان جميل، رحمهم الله جميعًا، جالسين في ظل شجرة كبيرة على الترعة التي تنتهي عندها حدود قرية كفر حجازي - قرية سعيد الكفراوي، بعد أن فرغنا من وجبة غداء عامرة بفضل سعيد الكفراوي الذي تعود استضافتنا جميعًا في قريته.

أذكر أن الأحاديث شرقت بنا وغربت، وانطلق صديقنا شوكت فضل يحلم بأنه لابد أن يسافر إلى السويد، فاستغربنا، ولما سألناه عن السبب قال إن دافعه أن يرى هذا البلد الذي يبدو له كالأحلام، والذي رأى نساءه في الأفلام، وأنه عاقد العزم على أن يذهب إليه، ويتمتع، فقد سمع أنه بلد الحب الحر، وأنه لابد أن يذهب إلى جنته التي تخايله في الأحلام، ويعيش ما تبقى من حياته بين نسائه الجميلات وحياته المرفهة. وقد ظللنا طويلا نهزأ من صغر عقل شوكت، ونهزأ بأحلامه. وعندما جاء دوري في السخرية، قلت: ومن يدري فقد يذهب شوكت إلى السويد فعلا، ويحقق أحلامه، وعندئذ يكون أول أبناء المحلة الكبرى الذين يدخلون السويد فاتحين. وظللنا نضحك من أحلام شوكت الذي أطلقنا عليه بعد ذلك شوكت عاشق بنات السويد. وأخذت أضحك بصوت مرتفع، لفت انتباه عطية عامر الذي كان يقود سيارته من المطار ليصحبني إلى غرفة استأجرها لي في بنسيون، كي أقضي أياما قليلة، إلى أن يتوافر السكن الدائم لي في مدينة استكهولم. ولما حكيت لعطية عامر ما كان يضحكني، ضحك بدوره قائلا: وها أنت تحقق النبوءة التي كان يحلم بها صديقك في عاصمة السويد. ولكني قلت له: هذا حقيقي، ولكني كنت أرجو أن أجيء بإرادتي الحرة، لا منفيًا من بلدي، مطرودا من جامعتي التي هي حياتي وحلمي المتجدد، قلقًا على زوجتي التي ودعتني باكية، رغم قناع التماسك الذي وضعته على وجهها، كي لا يبكي ابني وأخته، وأنا أتركهم إلى مصير لا أعرف إلى أين يقودني. وأوقف عطية عامر السيارة، وقال لي: تذكر أني كنت مثلك، وظللت سنوات بالغة الطول منفيا خارج مصر إلى أن عدت في زمن السادات. ولكني لم أحتمل الحياة في قاهرتكم، فعدت إلى السويد التي أصبحت موطني وموطن أولادي. أما أنت فقد أصبحت أستاذًا في جامعة استكهولم، ولديك عقد عمل يستمر لمدة عامين. ويجدد تلقائيًا ما لم ترغب في عدم التجديد، فاطمئن من هذه الناحية واعتبرني ولي أمرك الذي لن يقصر في رعايتك أبدًا، ولن يتخلى عنك، فأنت أخي الصغير وأنا ولي أمرك، فحدثني عن نوادر صديقك المجنون بنساء السويد، فربما ندعوه ليرى الحقيقة لا الأوهام، وابتسم وهو يربت على كتفي بيده، وواصل قيادة السيارة إلى بناية قديمة، دخلناها، وصعدنا بالمصعد إلى الدور الثاني، وضغط بإصبعه على جرس الباب الذي انفتح، وبرزت لنا سيدة عجوز، تصفحتني جيدًا، وأشارت لنا بالدخول، ودخل قبلي عطية عامر وقادتنا العجوز إلى الغرفة التي يفترض أنها لي وكانت مضاءة، فقد كنا في أول المساء، وجلست وعطية عامر في فوتيه بركن الغرفة، وأكمل التقديم: السيدة هيلين تتحدث الإنجليزية. وبعد أن تولت السيدة هيلين الترحيب بي، قالت بلغة إنجليزية سليمة: هل تريد أن أساعدك في إفراغ الحقيبة؟ فشكرتها، فجلست أمام عطية عامر تحادثه باللغة السويدية التي كان يتقنها كأحد أبنائها، وظلا يتحدثان إلى أن فرغت، فانتبه عطية عامر، ودعاني إلى الخروج معه لتناول العشاء. وخرجت معه، بعد أن أعطتني السيدة هيلين ثلاثة مفاتيح: الأول لبوابة المنزل، والثاني لباب الشقة، والثالث لمفتاح غرفتي التي أشارت إلى بابها، وأشارت إلى باب مجاور لباب غرفتي قائلة: هذا هو الحمام، وبه مناشف نظيفة. ونزلت مع عطية عامر الذي دعاني إلى المشي معه إلى محل بيتزا قريب، واكتشفت أنه عاشق للبيتزا عموما ولبيتزا التونة خصوصًا. وقد ظلت البيتزا غذاءنا في الأسابيع اللاحقة التي كنا نلتقي فيها كل يوم أحد إلى أن تركت السويد في مطعم للبيتزا بالقرب من محطة المترو الرئيسية في منتصف مدينة استكهولم، وكان أغلب العاملين فيه من أصول تركية.

الحياة بين طردين

واتفق معي عطية عامر أن يمر عليّ في الصباح بعد أن أستيقظ لنشتري ملابس الشتاء الذي كان على الأبواب، ولم يكن الثلج قد تساقط بعد. وتركني - بعد العشاء - لأخلو إلى نفسي في غرفتي، بعد أن تركني وحيدا. وكان البنسيون صامتا حين عدت، وأبواب الغرف مغلقة فدخلت إلى غرفتي، وارتديت منامتي، واستلقيت في الفراش تحت غطاء سميك، ولم أنم سريعا، فقد ظللت أفكر فيما انتهت إليه الأحداث. وأسأل نفسي: ترى هل أعود إلى جامعة القاهرة التي طردت منها، أم أننا سنظل على ما نحن عليه. وكانت ذكرى الذين طردوا من جامعة القاهرة سنة 1954 تجول بخاطري. وأتذكر منهم محمود أمين العالم ولويس عوض وعبد المنعم الشرقاوي وعشرات غيرهم من الذين خرجوا من الجامعة، بعد أزمة مارس سنة 1954 ولم يعودوا إليها، وأقول لنفسي: حتى لو حدث ذلك فسأبقى في السويد ولن أعود إلى القاهرة، وأكرر ما فعله عطية عامر. لكن ماذا عن القضية التي رفعناها ضد السادات بعدم دستورية قراره بإبعادنا عن الجامعة. أذكر أن عددًا من الناشطين منا جمعوا مبالغ زهيدة لتوكيل محامٍ جامعي مثلنا يتولى رفع القضية، وتحمس أحدهم وهو الدكتور يحيى الجمل فيما قيل لنا، وجمعنا له توكيلات. ولكن سرعان ما عاد من يمثلوننا بخبر أنهم سحبوا القضية من مكتبه، بعد أن طلب أن يدفع كل واحد منا خمسمائة جنيه. وكانت ثروة هائلة بالقياس إلى ما بقي من مرتباتنا المتواضعة في جيوبنا، وذهب من يمثلوننا إلى حقوقي آخر هو نعمان جمعة الذي قبل الترافع في قضيتنا مجانا، ومن يومها، وأنا أكبر الرجل لهذا الموقف الذي عرفته من زملائنا المبعدين، قبل سفري إلى السويد. وظللت أفكر في احتمالات أن تحكم لنا المحكمة في الزمن الجديد الذي أصبح فيه مبارك هو الرئيس، ويسعى إلى عقد مصالحة وطنية، أوصاه بها مستشاروه. ولم يكن قد عُرِضَ عليه موضوعنا بعد، ضمن موضوع لقائه بالذين اعتقلهم السادات قبل اغتياله، وذلك فيما أعلن عنه باسم لقاء المصالحة الوطنية. وقد سألت نفسي، في تداعيات رفضي وضع المنفى الاختياري الذي وجدت نفسي فيه: وحتى لو كسبنا القضية..؟ هل أعود أم أبقى؟! لكن ماذا ستكون عليه حياتي في الجامعة التي أصبحت ضيفا فيها، ولم أرها بعد. وظللت أسأل نفسي وأجيب، وأستعرض الإمكانات إلى أن غلبني النوم بعد أن قرأت القرآن الكريم، وهذا ما ظللت أفعله، دائما، في كل تغريبة طويلة.

وجاء عطية عامر في الصباح وصحبني لشراء ما أواجه به شتاء استكهولم الذي لم أر شتاء مثله، وبعد أن انتهينا من الشراء، ووضعنا المشتريات في حقيبة السيارة، انطلقنا إلى جامعة استكهولم، وكانت الجامعة حديثة في معمارها، ليست على الطراز المعماري القديم لجامعة أوبسالا التي انتدبت للتدريس فيها في الفصل الدراسي الثاني، وقدمني عطية عامر إلى سكرتيرتيّ القسم. وكانت الأولى نادية، سيدة مصرية متزوجة من سويدي، ومعها الجنسية السويدية. أما الثانية مارينا ستاج، فكانت سويدية تستكمل دراستها العليا في القسم وتعد أطروحتها لدرجة الدكتوراه تحت إشراف عطية عامر. وكان معه من أعضاء هيئة التدريس تونسي شاب في مثل عمري، يعمل منذ سنوات في القسم، أظن اسمه الهادي كشريدة، وكان حاصلاً على الدكتوراه من الجامعة التونسية، ويحلم بالعودة إليها. وقد تركني عطية عامر أدخل إلى الطلاب لأتعرف عليهم، وكان عددهم يقارب العشرة. وأغلبهم يدرس اللغة العربية لأنه يريد العمل في الأقطار النفطية التي كانت تبدو كالأساطير لهم، ولم يخل الأمر من طرفة وجود طالبة، تتعلم اللغة العربية لأن حبيبها عربي يدرس في السويد الدكتوراه في الهندسة، واتفق على أن يتزوجها قبل عودته إذا أحسنت العربية. ولم أعلق كثيرًا أو قليلا على الأمر، فالأهم أنني وجدت قبولا عند الطلاب، ورأيت منهم ودًا قربني منهم وقربهم مني في قاعة المحاضرات. وكان الحديث عن اللغة العربية بالحصيلة القليلة من اللغة العربية التي تعلموها، وباللغة الإنجليزية التي أتحدثها، ويجيدونها هم. ولذلك لم أجد دافعا قويا لتعلم اللغة السويدية، وقررت عدم اتخاذ هذا القرار إلا بعد أن أعرف هل ستطول إقامتي في استكهولم أو تقتصر على عامين. وبعد أن خرجت من الدرس مع هؤلاء الطلاب، وجدت عطية عامر وسي الهادي وناديا ومارينا في انتظاري لنذهب إلى الغداء في مطعم الجامعة، سرنا على الأقدام، ومشيت معهم وأنا أتأمل مباني الكليات التي كانت تتسم بالطابع المعماري الحديث الذي يستغل الأخشاب وألواح الزجاج العريضة المحاطة بالأبنية الخرسانية المستطيلة أو المربعة دون زخارف معمارية أو أقبية كالأبنية الكلاسيكية الأوربية، وما أكثرها في المدينة. وفوجئت بوجود مطعمين: أحدهما للطلاب، وهو رخيص الثمن نسبيا بالقياس إلى مطعم الأساتذة الذي يتيح فرص اختيار أوسع، ويخلو من مبدأ «اخدم نفسك» الموجود في مطعم الطلاب، ولما كنت ضيف الشرف هذه المرة، فقد كان الغداء على نفقتهم، وداعبت عطية عامر أنه لم يطلب البيتزا على عادته، وأكلت بشهية مع مجموعة من الأصدقاء الذين عاملوني كما لو كنت واحدًا منهم، واستقبلوني بمودة ومحبة، لن أنساها لهم جميعا، فما أسرع ما أنسوني الشعور بالغربة، وجعلوني أشعر أني واحد منهم، وعدنا بعد الغداء إلى قسم اللغة العربية، بعد أن مررنا على المكتبة التي كانت قبلتي بعد ذلك لما وجدته فيها من كتب بالإنجليزية والعربية مع الأغلبية السويدية.

عالم سترند برج

وقد انتظر عطية عامر في مكتبه بوصفه رئيس القسم إلى أن انتهى اليوم الدراسي، واصطحبني سيرًا على الأقدام لنركب المترو، كي أذهب إلى البنسيون، وأعرف الطريق بنفسي، فلا أعتمد عليه وعلى سيارته، ومنذ ذلك اليوم أصبحت عارفًا بخطوط المترو التي سرعان ما تعلمتها، وأنا أتجول جولات حرة وحدي أو مع طلابي وطالباتي الذين تحولوا إلى أصدقاء بعد أيام، خصوصا أن أغلبهم كان قريبا مني في السن، فقد كنت لم أكمل السابعة والثلاثين بعد. وأنا مدين لهم بتعرفي على معالم استكهولم؛ المتاحف الكثيرة، والمقاهي التاريخية، خصوصا المقهى الذي كان يجلس عليه الكاتب المسرحي السويدي الأشهر أوجست سترندبرج الحائز على جائزة نوبل في الأدب المسرحي، والذي سرعان ما عرفت أن له روايات إلى جانب مسرحياته التي حصل عدد منها على شهرة عالمية، وترجم بعضها إلى العربية التي لم أسمع إلى اليوم أن فيها رواية مترجمة من رواياته. وقد قرأت رواية منها باللغة الإنجليزية، فهمت منها روح المجتمع السويدي الذي كان يعتمد على صيد البحر، فالسويد محاطة بالبحار، ولها حدود بحرية مع الدانمارك وألمانيا وبولندا إلى الجنوب، وأستونيا ولاتفيا وليتوانيا وروسيا إلى الشرق. وكانت منازل السويد القديمة تجعل من الموقد الموجود في المطبخ أهم مكان فيها، حيث يتوافر الدفء في الشتاء القارس، فلا تملك كل أسرة إلا التحلق حول الموقد الذي يطهى عليه الطعام، ويشع الدفء لأحاديث ما بعد العشاء، حين تتجمع الأسرة حول الموقد مع كل عشاء.

ولم أنسَ زيارة المكتبة الملكية العامة، والأكاديمية التي تمنح جائزة نوبل. وقد عرفت من عطية عامر أن جامعة استكهولم هي إحدى الجامعات التي تطلب منها الأكاديمية الملكية التي تمنح جائزة نوبل ترشيحات للجائزة. وقد أبلغني عطية عامر أنه كتب ترشيح القسم الذي يرأسه لنجيب محفوظ أكثر من مرة، وأنه بعد أن أدرك عدم نجاح نجيب محفوظ، قام بترشيح يوسف إدريس لعل وعسى. ولم يكن هو ولا أنا نتوقع أن نجيب محفوظ سينتزع جائزة نوبل سنة 1988 بعد سنوات من عودتي إلى القاهرة. وأذكر أن مبنى الأكاديمية كان مهيبًا، ولا تزال صورته ماثلة في ذاكرتي كالمتاحف التي زرتها، والحكايات التي سمعتها عن احترام أهل السويد البالغ لأعضاء الأكاديمية الملكية الذين ينزلهم الشعب، قبل الحكومة، منزلة رفيعة، وذلك في سياقات من حكايات أخرى عن سترندبرج واستريد ليندجرين وغيرهما من الأدباء السويديين الذين حصلوا على جائزة نوبل في الآداب مثل سلمى لاجرف وهاري مارتنسون وغيرهما، ولكن كل هذه الحكايات أخذت تبهت بفعل الزمن، فقد مضت على السنة التي قضيتها في السويد ما يزيد على ثلاثين عاما، تبدل فيها الكثير. ولكن ظلت أمور ثلاثة لن أنساها فيما يتصل بالسنة الجميلة التي عشتها في السويد.

رفاهية سويدية

يتعلق أول هذه الأمور برفاهية حياة المواطن السويدي الذي يعيش عالم الرفاهية والعدل بكل معنى الكلمة. أما الرفاهية فخاصة بالمواطن الذي يتمتع بكل حقوق المواطنة التي لا نزال محرومين منها في مصر. وكنا نظن أن ثورة 25 يناير 2011 سوف تحققها لنا بعد أن أجبر الشباب الثائر مبارك ومعه معاونيه في نظامه الفاسد على الرحيل، فأخذنا نحلم بزمن جديد واعد من المواطنة، ولكن الحلم الجميل الواعد سرعان ما تحول إلى كابوس جاثم على الصدور، لا يريد الرحيل. وازداد التمييز بين المواطنين على أساس الدين والثروة والمكانة الاجتماعية، فضلاً عن استمرار الأثر السلبي للعصبية العائلية والقبلية، في موازاة تصاعد التعصب الديني الذي اتخذ أقنعة سياسية. ولم أرَ شيئا من ذلك في السويد التي تحقق لمواطنيها التعليم المتقدم والعلاج المتطور والمسكن المناسب، والعمل الذي يتيح فرص الترقي، ويوفر التدريب الذي يضاعف الخبرة، وذلك في موازاة أشكال الدعم المختلفة في كل مجال من مجالات الحياة بما يحقق للمواطن حياة الرفاهية الكاملة في كل جوانب الحياة الاقتصادية والمعيشية، وذلك إلى الدرجة التي سمعت معها أن نسبة الانتحار في السويد من أعلى النسب في العالم، وذلك لما يؤدي إليه الشعور الكامل بالرفاهية من أمراض الرفاهية.

وكنت أعرف من طلابي أن التعليم مفتوح للجميع بلا قيود من ناحية، وبالمجان أو ما هو أقرب إلى المجان، ومتاح للعاملين أن يحصلوا على منح لإكمال تعليمهم في المجالات التي يختارونها، والتفرغ الكامل للتعلم. وقد عرفت من تلامذتي أن الرعاية الاجتماعية تتولى تغطية الفارق في إيجار المسكن في حالة زيادة الإيجار بالقياس إلى دخل المواطن المعيل الذي يحتاج إلى مسكن أوسع من أقرانه لزيادة عدد أسرته. يضاف إلى ذلك وجود نسبة مئوية يتم زيادتها سنويا في مرتبات الجميع، وتتحدد على أساس نسبة الغلاء التي تحدث في المجتمع. والحرية كاملة في المجتمع، سواء بمعناها السياسي أو الديني أو العلمي أو الإبداعي في مجالات الإبداع والبحث العلمي والفكري. والحرية الفكرية، ومداها في التعبير لا تقل اتساعًا عن الحرية الاجتماعية.

وما أكثر ما سمعت ورأيت في السويد التي لا أزال أعدها النموذج لدولة الرفاهية والحرية الكاملة المقرونة بالعدل، ولذلك يقوم نظامها الاقتصادي على الحرية المطلقة لرأس المال من ناحية، ولكن مع تحقيق العدل عن طريق نظام صارم من الضرائب التصاعدية التي قد تصل إلى مايزيد عن تسعين في المائة، فيما قيل لي، من دخل النشاط الاقتصادي والصناعي المزدهر بما يؤكد تكامل العدل والرفاهية في هذا البلد الذي يخضع لنظام ملكي دستوري بنظام برلماني واقتصادي متطور، لا يقل ازدهارًا عن التصنيع، وذلك بما جعل السويد تحتل المرتبة الأولى في العالم في مؤشر الإيكونوميست للديمقراطية، والسابعة في مؤشر الأمم المتحدة للتنمية البشرية.

والملك في السويد يملك ولا يحكم كما هو موجود في إنجلترا، فالسلطة التنفيذية لرئيس الوزراء والوزراء، والبرلمان الذي يتولى سلطة التشريع والمراقبة هو الذي يقوم بتعيين رئيس البرلمان من الحزب الحاصل على أغلبية المقاعد البرلمانية. ولذلك فالملك مجرد رمز وليس واقعًا سلطويًا. وقد أخبرني أحد طلابي - ولعله كان هازلا - أنهم في السويد أجروا استفتاء على بقاء الملكية أو إلغائها، فكانت النتيجة لمصلحة الحفاظ عليها، لأنها تدر دخلاً سياحيًا. وقد زرت القصر الشتوي والصيفي للملك كارل جوستاف. ورأيته عفوًا يتجول بين بعض حجرات القصر. وكان الملك ينتقل وحيواناته الأليفة مرة في أول الصيف، وأخرى في آخره كأنه أحد المواطنين العاديين بلا هيلمان، ولا إيقاف للمرور، فالملك مجرد رمز محبوب، وليس كائنًا يتحول إلى طينة أخرى ذات هيلمان وسلطان وحرس مخيف، فهذه كلها أشياء لا يعرفها إلا عالمنا العربي.

تقدم التعليم الجامعي

وتقترن رفاهية هذا البلد الذي عشت فيه أجمل سنوات عمري بما لا أزال أراه تقدمًا مذهلاً في التعليم الجامعي، قد يكون أدنى قليلا من مستوى التعليم الجامعي الذي شهدته في الولايات المتحدة، حين عملت في إحدى جامعاتها سنة 1977. لكن ما رأيته من تقدم التعليم الجامعي في السويد لا يزال أقرب إلى الخيال الجميل بالقياس إلى كوابيس التعليم الجامعي في العالم العربي بوجه عام ومصر بوجه خاص. ويكفي أن نعرف أن الدولة تنفق على التعليم بوصفه استثمارًا قوميًا بالغ الأهمية، والأساس الأول للتقدم.

وتضم السويد، فيما عرفت وقتذاك - ما يقرب من خمسين مؤسسة للتعليم العالي، أقدمها على الإطلاق جامعة أوبسالا التي تأسست عام 1477، فهي من أقدم الجامعات الأوربية وأعرقها. وهو أمر رأيته في عدد من مبانيها التي لا تزال قائمة بفضل الترميم المستمر والصيانة الدائمة. وكانت تدهشني دائما المفارقة التي لم أكن أراها في جامعة استكهولم بين المظهر الخارجي بالغ القدم والتقدم التكنولوجي المذهل من المعامل أو أجهزة الاتصال أو المعلومات بالغة الحداثة داخل المبنى القديم الذي يعد الحفاظ عليها عملاً وطنيًا مقدسًا.

ولا أزال أذكر تجوالي باعتزاز وفخر بين مباني جامعة أوبسالا التي أصبحت أذهب إليها مرة أو مرتين في الأسبوع، وأنا أرى ميراث الحضارة الأوربية الممتد من قبل بداية عصر النهضة إلى عصر المعلومات، والاهتمام بآداب العالم، حيث وجد مستشرقون أسماؤهم مكتوبة بأحرف من نور لما كتبوه من دراسات، وحققوه من مخطوطات تراثنا العربي، في نزاهة العلماء وإخلاص ودقة الباحثين الذين وهبوا حياتهم لخدمة تراثنا العربي. وأذكر منهم ينبررج الذي هو وأقرانه أبعد ما يكون عن الاستشراق الإيديولوي الذي تحدث عنه إدوارد سعيد في كتابه الشهير «الاستشراق».

ولقد تركت جامعة «أوبسالا» كما شاهدتها آخر مرة جامعة بحثية دولية شاملة، ظلت على مدى خمسة قرون الصرح الجامعي المتميز الذي ينهل منه الطلاب العلوم القديمة والحديثة والمعاصرة في آن.

أما الجامعة التي لا أزال أكنّ لها العرفان فهي جامعة استكهولم التي عشت في رحابها عاما، وتركتها وبعض الدمع في عيني حسرة على أيامي السعيدة بها، وصداقاتي الرائعة فيها. وكانت جامعة استكهولم حديثة بالقياس إلى جامعة أوبسالا ولكنها من أكبر الجامعات التي تقدم برامج شهادات التعليم الجامعي والماجستير لحوالي خمسة آلاف من الطلاب والطالبات، وتتيح برامج الدكتوراه لحوالي 1800 طالب، وذلك في مجالات العلوم الإنسانية التي تشمل القانون والعلوم الاجتماعية، فضلاً عن العلوم الطبيعية. وتستضيف مراكز أبحاثها من الباحثين الدوليين من جنسيات مختلفة. وتوازي جامعة استكهولم في المكانة جامعة استكهولم للاقتصاد (E55) وتقدم برامج تنافسية دولية من الدرجة الأولى في إدارة الأعمال والاقتصاد. وقد قيل لي إن تدريس برامج الماجستير في إدارة الأعمال والدكتوراه باللغة الإنجليزية. وقد كنت أريد الرحيل إلى جامعتي جوتنبرج ولوند. والأولى من أكبر الجامعات في شمال أوربا، وتضم عددًا كبيرًا من أقسام المعارف المعاصرة. أما جامعة لوند فتتميز بأنها من أهم مراكز البحوث في السويد. وهي أحد أفضل مائة جامعة على مستوى العالم، وتقدم مجموعة من المناهج باللغة الإنجليزية. وترجع شهرتها إلى أنها تقدم منحًا دراسية لعدد كبير من الطلاب الدوليين المتميزين في مجالاتهم. ومع الأسف لم أزر جامعتي لوند وجوتنبرج، وظللت ما بين جامعتي أوبسالا العريقة واستكهولم الحديثة. وكنت أرى التقدم المذهل في التعليم، فأزداد إدراكا أن التعليم المتجدد هو قاطرة التقدم التي تدفع الحياة الصناعية والتكنولويا إلى آفاق رائعة من التطور في الإنتاج الصناعي والإنجاز العلمي، وكنت كلما عرفت أكثر عن التقدم الاستثنائي للتعليم في السويد، أرجو في قرارة نفسي، وأدعو الله في سري أن أرى مثل ذلك في وطني الذي خرج من ديكتاتورية السادات إلى ديكتاتورية مبارك التي قادتنا إلى التأخر بدلا من التقدم. ولكن لا يزال الأمل باقيا في أن تنهض مصر من كبوتها، وتنتفض كطائر العنقاء، مؤسسة بالعلم والتعليم أفقًا واعدًا من التقدم الذي لا حد له أو نهاية. وقد أغرتني ذكريات التعليم الجامعي في السويد أن أفتح على هذا العنوان - في «الويكيبيديا» - لتذكر المزيد، فإذا بي أجد أن السويد لا تزال من أفضل دول العالم في أنظمة التعليم، فالأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين ستة وستة عشر عاما، يتمتعون بالتعليم الإلزامي الشامل. ويحقق الطلاب الذين تبدأ أعمارهم من خمسة عشر عاما معدلات عالية في مقاييس التنمية العالمية بعد الانتهاء من الصف التاسع. وحوالي 90% من الطلاب يواصلون الثانوية العامة لثلاث سنوات. وهي الدرجة التي تؤدي إلى التأهيل الوظيفي، أو إلى الجامعة بعد خوض امتحانات الدخول التي تكشف عن القدرات، وليس نظام المجموع الذي ليس مقياسًا حقيقيًا للدراسة الجامعية. والنظام التعليمي يتم تمويله من الضرائب، والاهتمام باللغات الأجنبية ضروري. ولذلك يتحدث أغلب السويديين اللغة الإنجليزية. وكنت أعرف في العام السعيد الذي قضيته في هذا البلد الذي أحن إليه أن هناك اختيارات متاحة لغير اللغات الأوربية، مثل اللغة العربية التي أصبحت مادة اختيارية في برامج التعليم، وذلك بسبب برامج التعليم المتطورة والمرنة والتي أخذت تتسع لتدريس اللغة العربية بسبب زيادة أعداد الجالية العربية في السويد.

ومن المؤكد أن أعداد الجالية العربية قد تزايدت، وقد تفاقمت مشكلاتها التي شهدت بعض بداياتها عند العراقيين الذين حملوا معهم مشكلاتهم الطائفية وتناقضاتهم السياسية وعصبياتهم العرقية، وهي المشكلات التي تعرقل عمليات الاندماج التي ازدادت تعقدًا بالقطع بسبب دور الإسلام السياسي، لكن من المؤكد أن هناك ظواهر إيجابية قد تراكمت، فقد سمعت، أخيرًا، عن نائبة مصرية في البرلمان السويدي، وعن عرب مضوا في طريق الكتابة الأدبية باللغة السويدية، مستغلين الدعم الهائل للثقافة في السويد. وقد كنت أعرف أن الحكومة السويدية تولي اهتمامًا عظيمًا بالثقافة، وتخصص للشأن الثقافي مبالغ لا نظير لها في غير السويد، حيث تعتبر الميزانية المخصصة للثقافة في السويد من أعلى الميزانيات مقارنة بالدول الغربية الأخرى. ومن العادات التي أصبحت راسخة في السويد، إلى اليوم، أن الطفل، وفور أن يولد، تقوم الجهات الصحية المعنية برعاية الطفل بإهدائه كتابًا ليكون الكتاب هو الهدية الأولى في حياة الطفل. وقد شهدت بنفسي ما يؤكد أن السويد من أكثر الشعوب عشقًا للقراءة والمطالعة، فشعارها الأثير «الحياة تعني المطالعة والعمل». ولن تجد شعبًا مثل السويديين في الإقبال على المعرفة التي كانت وسيلتها الأولى الكتاب في زمن إقامتي، حيث لم أدخل بيتًا سويديًا دون أن أجد مكتبة: إما تشغل جدارًا كاملاً، أو قطعة من الأثاث للكتب، وبالقرب منها الأسطوانات أو تسجيلات الموسيقى العالمية. وبالتأكيد حلت شبكة الاتصالات العنكبوتية (النت) محل الكتب، والـ «I pad» محل اللاب توب. ولكن يظل للكتاب مكانته وسحره في هذه البلاد التي اقتحمت صناعة الاتصالات ذات التأثير الحاسم في الثقافة، وذلك بمعدلات من التطوير والتقدم المذهل التي أراها في منتجات الهواتف والسيارات بلاد جعلتني أدرك أن الحياة تعني المعرفة المتجددة والعمل الدائم في كل مجال. وهو الإدراك الذي جعلني لا أتوقف عن الاهتمام بقيم التقدم ونشرها بالكتابة عنها.

 

 

جابر عصفور