المضاعفات: رعب الجراحين الكبير خالص جلبي

المضاعفات: رعب الجراحين الكبير

يستولي على الجراح أحيانا شعور رهيب بين اقتحام العملية والهيبة من خوض غمارها، فهو في متحارجة صعبة لا يحسد عليها، يعاني من انضغاط ساحق بين اختلاطات العملية الجراحية وشكوى المريض وأهله، التي هي اختلاط الاختلاط. فكما يقود نجاح العملية إلى تهليل الجراح وغبطته الفائقة، و"حسد بعض زملائه" مع نجاة المريض وعودته إلى شاطئ السلامة، مظللة بثناء الأهل على بطولة الجراح! وتبدأ مؤشرات (بورصة) إدارة المستشفى في الارتفاع، في أسواق التعاملات في المقاهي والمطاعم والمجالس العامة. كذلك يفعل الاختلاط الجراحي في كآبة الجراح، ومعاناة المريض، وذم الأهل، وشماتة "بعض" زملاء العمل، وانخفاض مؤشر بورصة إدارة المستشفى في أسواق التعامل الشعبي.

هذه المشكلة العويصة التي هي في أحد أطرافها حق المريض، وواجب الطبيب في الطرف المقابل، ويمكن تصور ذلك بشكل واضح عندما ينزل الطبيب من عرشه الأبيض، ليتحول إلى نكرة في فراش مريض يئن من الألم، لتنتهي إلى إعاقة دائمة، أو وفاة ليطوي قيده من ديوان الأحياء، كما جاء في فيلم (الدكتور) الذي حول تلاميذه في أول درس سريري، إلى مرضى لمدة 72 ساعة يخوضون غمرات المرض، ويتجرعون غصص وحسرات المريض من قاع الحياة.. عندها سيقدرون نعمة الصحة، وألم المريض وخوفه، وكذلك أمله، حينما يضع في أيدينا نحن الأطباء أعز ما يملك : حياته. ولكن قدر الاختلاط في العمل الجراحي، يبقى هاجسا لا يمكن تجاهله أو الفرار منه، بل إنه يأتينا على غير موعد، في عمليات نسميها تافهة وسخيفة وصغيرة كما حصل في حادثة وفاة مريض قوي البنية صغير العمر، دخل ليجري منظارا للركبة فلم يزر بعدها سوى التراب.

كان من الضروري قبل هذه العملية (السخيفة؟!) أن يقرأ المرء قواعد جراحية ذهبية، يمكن أن نفهم فلسفتنا في صورة القواعد التالية:

1 - القاعدة الأولى: لا تجرى الجراحة إن أمكن علاج الحالة كلها أو معظمها بغير جراحة، فالجراحة كالكي هي آخر الدواء، وليس كل الدواء وأول الدواء.

2 - القاعدة الثانية: من المفروض في الجراحة ألا تفسد أكثر مما قد فسد.

3 - القاعدة الثالثة: التحدي الجراحي في كثير من الأحيان هو في التشخيص أكثر منه في المعالجة، لأن العمل اليدوي لا يرتبط بالذكاء بقدر تمرين اليدين، والتشخيص مرتبط بالتحليل العقلي وهو العمل الإنساني بالدرجة الأولى.

4 - القاعدة الرابعة: لا تسمى العملية (صغيرة) حتى يتم إنجازها والخروج منها، فقد تكون عملية زائدة دودية تتطلب عشرين دقيقة من الوقت، فتتحول إلى استئصال نصف الكولونات في عملية خطيرة تتطلب خمس ساعات. وعلى الجراح أن يستبعد دوما عنصرين مفسدين لروح العمل الجراحي وذوقه المتميز: كثرة العمل وسرعته، على حساب الدقة والسلامة، فيجب أن يترك ساعته خارج قاعة العمليات، وعليه ألا يكثر من النظر إلى ساعة صالة العمليات في محاولة لقرع الطبول وضرب الصنج لبطولاته، فحياة المريض أهم من انتفاخه، والتحدث باسمه طويلا، أنه جراح لا يشق غبار فرسه و(طرطشات) دم المريض من حوله. والعبرة هي في حسن العمل لا كثرته ليبلوكم أيكم أحسن عملا

5 - القاعدة الخامسة: الجراحة مثل لوحة الفنان، ومبضع الجراح هوريشته، وبالتالي فالجراحة تتأرجح بين أن تكون (خربشة)، وبين أن تتحول إلى عمل أنيق ولوحة فنية رائعة، ذات مسحات جمالية خلابة. بدءا من غسل المريض وتغطيته. وانتهاء بندبة الجلد، فالندبة الجراحية هي بصمة الجراح الأخيرة الخالدة، التي تحفر في جلد المريض، وأحيانا الأماكن الحساسة منها طبعة صانعها، التي لا تغادر بدن المريض حتى حفرة قبره.

ثلاث صفات تسم هذا الفن

إن الجراحة هي ذلك الفن الجذري والجريء والواضح في معالجة الأمراض في الغالب. فهو فن جذري لأن مصطلحاته تدل عليه من أمثال : استئصال الورم، وبتر الطرف، وشق الخراج،. وهو جرئ لأنه سباحة بين القيح والدم، واللحم والعظم. أسلحته بتارة قاطعة من أمثال : المشرط والمثقب والمنشار والإبرة. وهو واضح يقيني، لأن كل من يشارك في العملية الجراحية، يشاهد انثقاب الزائدة الدودية، وانتفاخ المرارة، وانسداد الشريان، وانتشار الورم، فيرى الزائدة قد رفعت، والخثرة من باطن الشريان قد انتزعت مثل الثعبان الأسود، وحصاة الحالب قد انتزعت فعاد البول يصب بأجمل من خرير مياه شلالات نياجرا.

إن الأطباء قديما كانوا يعرفون مرض السكر بتذوق البول شخصيا، والجراح اليوم يسر للغاية من رياح البطن عندما تنطلق، فيطرب حركة الأمعاء ويخرج الغازات خبيثة الرائحة، لأنها بها تعرف سلامة المريض.

والجراحة فن جميل لأنها تتصل بنسب مع كل فنون الحياة اليدوية، فالجراح يستعير المشرط من الجزار، والمنشار من النجار، والمثقب من العامل، والإبرة من الخياط، وفن القسطرة من مسلكي الأنابيب (المسطومة)، بل وريشة الفنان مع عمليات التصنيع والتجميل.

إن الجراح يدخل دوما حفلة تنكرية، فهوقد غطى رأسه بقبعة، وحجب وجهه بقناع، فهويبدل ثياب بين جميع المهن، فجراح التجميل يبدوبثياب الحلاق، وأخصائي البولية بمسلكي حنفيات المياه، واستشاري العظام بمنظر الحداد وهو يحمل الأزميل والمطرقة، أو في ثياب نجار ماهر يثقب العظم ويركب البراغي وينشر الأطراف، ويمسك بالمبرد فيحف الأطراف ويبزغ الحواف، ويأتي جراح الأوعية فيسلك المجاري المسطومة، أويستعير إبرة الخياط و(الرتا) فيرقع ويخيط. إن جراح الأوعية يجب أن يحسن الخياطة بأصابع لا تعرف الاهتزاز والاضطراب، بأفضل من أنعم أنامل امرأة ماهرة في الخياطة

ولكن ليست ليالي الجراحة كلها عزفا على العود!! ومع كل هذه اللوحة المضيئة لفن الجراحة فليست كل فصولها بهذا الإشراق، ولا كل الليالي بهذه المتعة والزهوة، فهوبقدر ما يخفف ألم مريض ومعاناته، مليء بالغدر والخطر والمفاجآت، فالجراح يمشي في غابة، تتغير فيها أماكن الأشجار باستمرار، إلى انقلاب الغابة على رأسها أحيانا، عندما نكتشف قلبا على اليمين، وزائدة على الشمال، وانثقاب قرحة يلتئم دون خياطة، وساقا قرر بترها سبع مرات، فنجت متحدية كل خرافات الأطباء. فالأطباء لهم خرافاتهم الخاصة.

ومأساة العمل الطبي الجراحي ارتباطه بالاختلاطات أكثر من بقية فروع الطب، على جدية وصرامة تدخله تماما. والاختلاطات درجات تتراوح بين التهاب الجرح، وانقلاب عقدة الخيط ليتدفق الشريان بالنزف الصاخب، أو عدم التحام مفاغرة الأمعاء ليتدفق محتوى الأمعاء بالكارثة، أو انطلاق صمامة (جلطة) شحمية خبيثة، بعد كسر عظم، لتسد شريان الحياة في الرئة فالموت الصاعق.

كارثة الاختلاط الجراحي

إن حدوث الاختلاط أمر معترف به في فن الجراحة بنسبة معروفة في كل فروع الطب، وكل دواء له تأثير جانبي، فليس في الطب معجزات العصر القديم، بل هوظل النسبية في كل حركة،وهناك نسبة محددة في كل اختلاط من : التهاب الجرح، نزف الوعاء، والانسداد الشرياني، وعدم التحام الكسر، وخلخلة الصفيحة المعدنية، واهتراء الشريان الصناعي بفعل تقادم الزمن، وحساسية الدواء التي لا نعرف متى تستيقظ،فتفتك وتدمر في انفجار صاعق الشدة مثل مقياس الزلازل لريختر. وإن دل هذا على شيء فهومن أكبر العبر في استيلاء النقص على جملة البشر.

ومن الملاحظ أن الخرس أو الشلل وارد في الجراحة العصبية، كما أن النزف وانسداد الشريان بالخثرة، اختلاط متكرر في جراحة الأوعية الدموية، فضلا عن تكون الخراجات والنواسير في جراحة البطن أو الالتهاب المخرب للعظام في جراحات الأورثوبيديا.

إن الآلام والنزوف والتقيحات والتشوهات والعرج وندبات الجلد، كلها بكل أسف مناظر شائعة للاختلاطات الطبية، التي تحدث بين الحين والآخر على غير موعد.

ومن أجل إنقاذ الأعداد التي لا تحصى من المرضى والمتألمين، الذين تسمع أناتهم في ممرات الأقسام الجراحية، أو ممن يهددهم النزف بالموت، والسرطان بالفناء، يحدث في هذه العاصفة ما لا بد من حدوثه من سقوط بعض الضحايا، الذين هم بكل أسف الضريبة التي لا مفر منها، مع إعصار وزوبعة تعصف بمكان ما.

إن الجراح لا يحب ولا يريد أن يتعرض مريضه للنزف، أوالتدهور حالته بانتشار التقيح، أو تسرب الورم، أو حدوث النواسير المزمنة، أو انشقاق الأرض وابتلاع الضحية ضيقا على الأبدية.

إن كل ما يحدث أن هناك مركبا متعدد العوامل في حدوث كارثة الاختلاطات يمتزج فيها المجهول مع المعلوم، العلم مع الضعف البشري، العقل مع الهوى، الدقة مع العجلة، في مركب واحد محير، لا يحيط الأطباء بكل تفاصيله. كله يتفاعل في قدر واحد لينتج هذه النتيجة مرة الطعم المسماة بالمضاعفات (Complication)

هذه العلاقة مابين المجهول والمعلوم هي الأساس الفلسفي لفهم أحداث كثيرة، وهناك تحول مستمر، وانتقال لا يتوقف بين عالمي الغيب والشهادة، فالكون في حالة ديناميكية متحركة وليس استاتيكية جامدة.

إن ما كان في عالم الغيب في يوم من الأيام تحول إلى عالم الشهادة، فرؤية العظام من خلال الأشعة السينية أوالأجسام المعدنية المخبأة في حقائب السفر في المطارات، انتقلت إلى عالم الشهادة التي نراها بأعيننا. ورؤية المعدة بالمناظير نقلتنا إلى عالم واضح نميز فيه بين النزف والقرحة والورم رأي العين. ومعرفة ضغط القلب الداخلي بالقياس، والجنين ذكرا أم أنثى داخل الرحم، وتدفق الدم داخل الأوعية أو انسدادها بالجلطات القاتلة، وحصيات المرارة والحالب، بل تطور الطب إلى درجة تفتيت الحصيات بالصوت الذي لا يسمع ولا يحس ولا يشم ولا يبقى له أثر، بفعل فيزيائي بحت.

وعلينا أن نفرق في هذا البحث بين أمرين حساسين هما : الاختلاط المتعارف عليه والإهمال.

الإهمال يقود إلى الاختلاط حتما، ولكن الاختلاط ليس نتيجة للإهمال، فكل إهمال هو اختلاط، وليس كل اختلاط إهمالا، لشرح ذلك نقول : الإهمال صفة تخلف، وعدم ملاحقة الحالة، ومتابعة تطور الوضع، والتكيف بما يمكن السيطرة عليه، والدخول لتعديل المسار، فنزف المريض بعد عملية جراحية أمر وارد، ولكن النوم عليها والاستخفاف بتبعاتها يعني اللعب بحياة المريض. وتبقى دقة المراقبة ومتابعة الحالة الوصفة التي يمكن من خلالها التدخل وإنقاذ المريض، وهذا هو لب الجراحة وعمودها الفقري. ليست القدرة على إنجاز العلم الجراحي هي محك الجراح، بل تصحيح الخطأ والسيطرة عليه عند حدوثه، فهو علامة التمكن وشهادة النضج والحنكة.

أما الاختلاط فهوذلك المركب المتعدد الجوانب الذي يؤدي في النهاية إلى أمر لا يحبه الجراح، ولا يحرص عليه، ويخرج عن سيطرته، وإن كان يدخل في جدلية الممكن والمستحيل، فالشيء المستحيل يتحول إلى ممكن أحيانا، كما في كل الجراحة الحديثة مع تطوير المضادات الحيوية والتخدير، فهما العكازتان اللتان مشت عليهما الجراحة، وأحيانا يخيل إلينا لا أكثر، أن الأمر مستحيل فنكتشف لاحقا أنه كان في حيز الممكن.

ومع كل الاحتياطات التي يقوم بها الأطباء لتحاشي الخثرة الرئوية القاتلة بإعطاء مميعات الدم، فإنها ما زالت مصدر خوف لهم بين الحين والآخر، حتى في أبسط العمليات الجراحية فضلا عن العمليات الكبيرة، وتحت ظل مميعات الدم كالهيبارين.

مع هذا يجب أن نكرس حقيقة أساسية في العمل الطبي، وهي أن أي اختلاط سببه خطأ فني، جهله من جهله، وعلمه من علمه، وبذلك حررناه من العقل الأسطوري واللامعقول وغير الخاضع لسنة الله في خلقه، أولنقل عدم سنة و(قانون) عمل الأشياء، فنزف المريض وانفكاك الخياطة هوقصور فني ويقود إلى الاختلاط، ولكن النوم عليه هوالإهمال، أما وضع خيوط قابلة للذوبان، في مكان يجب ألا تذوب، مع المعرفة الكاملة بذلك، فهي الجريمة لا أقل ولا أكثر. كما رأينا ذلك في فيلم (كولومبووالجراح) عندما أظهر الفيلم جراح القلب، الذي خاط صمامات القلب بخيوط (الكاتكت) التي تذوب في عدة أيام، ويجب أن تكون من نوع البرولين أو الجورتكس التي تبقى في الجسم إلى يوم يبعثون.

ونظرا لأن العمل الإنساني هو سلسلة هائلة من اجتماع حلقات صغيرة كثيرة، فيكفي أن تنكسر السلسلة في إحدى حلقاتها الضعيفة، كي تنفجر الكارثة. مثل نقص التعقيم في الأدوات، تآكل الخيوط، توقف متابعة صيانة الأجهزة، الاستخفاف بنزف بسيط لا يؤبه له، فكلها حلقات تتكسر، فتدخل الرعب إلى الدائرة بأكملها، ومن هنا فإن تطوير العمل الطبي بإيجاد الوفيات والمضاعفات ‏المعروفة في اللغة الإنجليزية بـ (Morbidity & Mortality & Committee) اعتبره عملا رياديا بسبب تأسيس منهج النقد الذاتي والمراجعة في العمل الطبي، وإن كان سلاحا خطيرا، قد ينقلب في بعض الأحيان عند سقوطه في بعض الأيادي، إلى فرصة لاستعراض العضلات، والتمتع بإحراج الآخرين، والتظاهر بالعلم الغزير، بعد قراءة متعلقات الحالة بشكل مكثف في كل المصادر العلمية، في الليلة السابقة والاستعداد لها بما يشبه امتحان الثانوية العامة، بأسئلة الحواف والشواذ منها.

وهذه مشكلة حضارية فلا يكفي شراء جهاز معقد، أونقل نظام إداري متقدم، أوحتى استخدام مصطلحات جديدة حتى ندخل حقل الحضارة، لأن كل هذه الأشياء مرتبطة بالوسط الحضاري الذي انتزعت منه، ويجب نقله بالتالي مع شروطه الخاصة به، وإلا كان مصيره مثل نقل الدم دون شروط الزمرة (الفصيلة)، فيتحول الدم من إنقاذ نفس، إلى الكارثة حساسية قاتلة للمريض، مع كل حاجة البدن إلى الدم المنقول.

فالحضارة ليست أشياء تشترى وتقتنى، بل هي أفكار وعقلية تبنى وتمتلك سر التطوير. الحضارة تختصر بثلاث كلمات إيجاد الأشياء والأفكار والأنظمة وصيانتها وتطويرها في علاقة جدلية نامية.

ولا يخرج العمل الطبي عن هذه القواعد، واندفاع المريض بالشكوى - وهو مبرر - مع حدوث الاختلاط الجراحي، هو من طرف ظاهرة صحية، على أساس أنها ظاهرة نقد ذاتي، تقود إلى الصحة والعافية، لكنها من طرف الآخر إثارة وتحريض مسلسل لا يخلو من نتائج سيئة، أحيانا على نفس المريض، في ثلاث مستويات، في (إنتاجية العمل) و(تطويره) و(تدريب) الكوادر الطبية الجديدة، ما لم تحكم هذه العلاقة، المتصلة بمعادلة الثقة بين الطبيب والمريض، بجهاز توازن وترمومتر حساس للغاية في إيجاد التوازن المشدود والعادل للأطراف الاجتماعية.

إن قوة النظام الاجتماعي في الغرب وتفوقه، هي نتيجة طبيعية لنمو تاريخي ناضج، مشبع بالتجارب والمعاناة، فعندما اكتشفت الجراحة مصيبة الاختلاطات، عمدت فورا للانطلاق أمرين، تعويض المريض، والمحافظة على المهارة الطبية، بمزيد من ظاهر النقد الذاتي وعملية الحذف والإضافة. وبوضع علم الإنذار (Prognosis) والاختلاطات المتوقعة ونسبتها على وجه التقريب من خلال دراسة إحصائية علمية، ومن الناحية القانونية نشأت مؤسسات كثيرة آخرها مؤسسات التأمين الطبي، كعقد ومراكز تتحسس المشاكل قبل وقوعها في غالب الأحيان، ومع وقوع المشاكل دوما، فالفرق بين الأعمى والبصير أن البصير يرى الجدار فيتجنب الاصطدام به، أما الأعمى فينطح الجدار، فأوجدت حلولا للمريض والطبيب سواء بسواء، من أجل تحقيق العدل الذي قامت عليه السموات والأرض، فهي لا تريد للمريض أن يتعرض للخطر أو الإهمال، كما لا تريد للطبيب أن يشعر بالخوف في عمله، والمسح على رأسه ورقبته، وتفقد جلده مع كل مصيبة قادمة، بحيث يقفز عقله في اتجاه اعتبار الحادثة مصيبة للمريض وله على حد سواء، أنها تحمل قنبلة موقوتة من المشاكل، لتنموظاهرة زحلقة الحالات، كي يتفرق دم المريض بين القبائل؟

إن الانطلاق الحضاري هومن معادلة مشدودة الطرفين بإحكام بين الحق والواجب، فحق المريض هو واجب الطبيب، والعكس صحيح، مثل الرافعة تماما، فيجب توفير الأمان لكل العاملين في الساحة الاجتماعية مريضا وطبيبا.

إن التطوير هوبكلمة أخرى اختراق المجهول، ولذا فإنه يحمل في تضاعيفه بشكل آلي كل المخاطر الممكنة إن التطوير لا يعني القيام بتجارب على الحيوانات. بل تطبيق طرائق رائدة في المعالجة، وضمن خطة مدروسة، وعندما سئل جراح القلب الأمريكي المشهور (كولي) عن عمله في بعض التطويرات الجديدة أجاب : حتى خرجنا من عنق الزجاجة، كانت النتائج مخيبة للآمال في الخمسين مريضا الأوائل، بل لقد نمت في الغرب مجموعة من الأخلاقيات الجيدة في وجود المتطوعين لتقديم أجسامهم من أجل تجريب لقاح أوعلاج جديد، وفي هذا الطريق دفع بعض أشهر الأطباء ومعاونيهم حياتهم ثمنا للتقدم العلمي.

فإذا انتقلنا إلى التدريب كان الكأس دهاقا، لأنه لا يمكن تدريب الأطباء الجدد، واستمرار عملية نقل خبرة الأجيال دون هذه المخاطرة أيضا. وهي عملية لا بد منها، فالجراح سيشيخ في يوم من الأيام، فتهتز أصابعه فلا يحسن مسك المشرط، والصبر المضني على طاولة العمليات حتى انبلاج ضوء الصباح، فأعمار الجراحين قصيرة من فرط التوتر، وعذاب الليالي، وطول السهر، والاستيقاظ والنوم المتكرر بأشد من عادة القطط السواد في الليل البهيم، بين مريض قد مات، وولادة قد تعسرت، وحادث سيارة لإنسان مهشم، وطفل مكسور الجمجمة، وقيح ينز، ودم يتدفق. فهذه سيمفونية الجراحين التقليدية.

تمر على بعض الجراحين لحظات لا يحسدون عليها بين مطرقة الشكوى وسنديان الاختلاط، إن قدم رجلا اعتصرته ماكينة التحقيق، وإن أخر رجلا خسر مهارته الجراحية. ولكن أعظم عمل يقوم به الجراح، حين يعجز كل الناس، هو فن التعامل مع الحياة بالدفع للوجود، والمحافظة عليها، وصيانتها، وإنقاذها من غمرات الموت الرهيبة، بين أم حرمت الأطفال كل عمرها فحملت، وقهر مرض عضال عاناه المريض سنوات، والتخلص من الألم الممض الذي حرم من متعة الحياة، وشاب تمزق عنده الوريد الأجوف السفلي ويخسر سبعة لترات من الدم في عملية عاصفة، فتنتشله من قاع الحادثة أياد ثمانية صادقة من الجراحين الصابرين.

 

خالص جلبي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




التمريض.. مشارك مسؤل في رعب الجراحين الكبير





الجراحة تمضي بدقة ونجاح.. فماذا بعد ذلك





الجراحة تمضي بدقة ونجاح.. فماذا بعد ذلك