أنفاس معدودة للجميع مدحت صادق

أنفاس معدودة للجميع

هل يمكن أن تكون هناك علاقة بين وزن الجسم وطول العمر؟. دار السؤال برأس عدد من علماء الحيوان لما لاحظوه من أن الحيوانات الضخمة، مثل الفيل، تعمر أطول من الحيوانات الصغيرة. وقد بدأت قصة الإجابة عن هذا السؤال تتخذ منحي علميا جادا عام 1932 عندما نشر أحد كبار الفسيولوجيا (علم وظائف الأعضاء) دراسة أجرها لمعرفة العلاقة التي تربط بين وزن جسم الحيوان ونشاطه العضوي، ونقصد بـ "النشاط" هنا العمليات الكيماوية التي تجري داخل أجسام الكائنات الحية. مثال ذلك ما يحدث للطعام الذي يتناوله الإنسان مثلا، فبعد هضمه وامتصاصه من الأمعاء تجري عليه تحولات كيماوية كثيرة، فبعض الغذاء المهضوم يعاد تجميعه في صورة وحدات تخزن لوقت الحاجة، وأما البعض الآخر فيتم الاستفادة به، إما في بناء الأنسجة المطلوبة أو في توليد الطاقة اللازمة لممارسة الحياة والسعي في دروبها. ويطلق العلماء على التحولات الكيماوية من هذا القبيل والتي تجري داخل الجسم اسم "الأيض" Metabolism أو"الاستقلاب". إن لم تستحسن الاسم عزيزي القارئ فلا عليك، سمه ما شئت. المهم أن ذلك العالم (واسمه ماكس كليبر Max Kleiber) وغيره ممن؟ أجروا أبحاثا مماثلة وجدوا أن معدل الأيض في أوقات الراحة (أي دون ممارسة عمل أو رياضة) في كل من الطيور والثدييات، يرتبط بوزن الجسم على نحو تتشابه فيه تلك الحيوانات تشابها كبيرا، لا فرق في ذلك بين عصفور ونسر، أو بين فأر وفيل. حتى إن تساوي الفأر والفيل في ممارسة الحياة، كل في حدود أعبائه البدنية وطموحاته الحياتية، هو أمر يعرفه طلاب البيولوجيا ، في دروسهم الأولى من خلال دراسة منحنى شهير يعرف باسم "منحنى من الفأر إلى الفيل" Mouse- Elephant Curve وهوالصورة البيانية للعلاقة بين معدل الأيض ووزن الجسم في مجموعة عريضة من الثدييات والطيور المختلفة الأحجام، والتي تبدأ بالفأر وتنتهي بالفيل.

ولكن ما هي علاقة الأيض ووزن الجسم بطول العمر؟

هنا تتدخل دقات القلب ويتضح ارتباطها بالحياة بشكل لا ندري إن كان قد غاب عن ذهن أمير الشعراء حين كتب بيته الشهير :

دقات قلب المرء قائلة له

إن الحياة دقائق وثوان

إن ذلك البيت يعبر عن حقيقة علمية محضة، فضربات قلب الإنسان يتراوح عددها بين 60و70 ضربة في الدقيقة الواحدة، فلنفرض - من باب التسهيل - أن عدد ضربات القلب هو بالضبط ستون ضربة في الدقيقة، معني هذا أن قلب الإنسان يعد عليه ثوانيه، ويقول له مع كل دقة : لقد مضت - وبلا عودة - ثانية واحدة من عمرك المقسوم. تلك هي الرسالة التي تنقلها إلى البشر دقات قلوبهم. ولكن ترى لو تكلمت دقات قلب الفأر أو غيره من أنواع الحيوان - ماذا عساها قائلة له؟

الكل سواسية

لقد توصل العلماء بالفعل إلى نتائج جديدة بالتأمل، فقد وجدوا أن ذلك الأمر يصدق على الحيوانات أيضا، ففي الطيور والثدييات، كبارها وصغارها على السواء، تدق القلوب بالسرعة التي تتناسب مع الأعمار المقسومة لأصحابها. فضربات قلب الفيل الذي يزن نحو خمسة أطنان ويعمر طويلا لا تتجاوز 30 ضربة في الدقيقة. فإذا انتقلت بعد ذلك إلى حيوان أصغر، كالحصان مثلا، وجدت أن عدد ضرباته قلبه أكبر (35-40) ولكن حياته أقصر، ثم يأتي الإنسان الذي يزن في المتوسط 60 - 70 كيلوجراما، ويدق قلبه بمعدل 70 مرة في الدقيقة. فإذا انتقلنا إلى الفأر الصغير الذي يزن 30 جراما نجد أن قلبه يدق نحو 600 مرة كل دقيقة، أما حياته فهي ثلاث سنوات فقط،.... وهكذا حتى نصل إلى أصغر الحيوانات الثديية، وهو الذبابة Shrew الذي يتراوح وزنه بين 3و4 جرامات (أي لا يزيد كثيرا على الصرصور - ومع ذلك فهويلد ويرضع صغاره مثل بقية الثدييات). هذا الحيوان لا يعمر أكثر من عام، ولكن قلبه في خلال هذا العام يدق بمعدل 1320 مرة في الدقيقة الواحدة!!

فهل لتلك الأرقام عند البيولوجيين من دلالة خاصة؟

أجل، إن لدى البيولوجيين معنى آخر للزمن، ذلك الذي يطلقون عليه "الزمن الفسيولوجي" hysiological Time، ومفاده أن الحياة ما هي إلا خفقان الفؤاد، وتتابع الأنفاس في الصدور. وإنك لتسمع الطيب يقول عن شخص توقف قلبه وخمدت أنفاسه إنه مات، أي خرج من دائرة الزمن، فلا معنى للوقت عند غير الأحياء، ومن ناحية أخرى نعلم أن دقات قلوبنا تتسارع وأنفاسنا تتلاحق في لحظات المتعة أو اللهفة، وفي لحظات المحنة والخوف، وهنا يتفق العلماء (بل والأدباء أيضا) على أن تلك اللحظات، المفعمة بالخفقان وتلاحق الأنفاس، إن هي إلا جرعات مركزة من الحياة. فطبقا لمفهوم الزمن الفسيولوجي لا يقول علماء البيولوجيا إن الفأر يعيش حياة " أقصر" من حياة الفيل، ولكنهم يفضلوا أن يقولوا، بدلا من ذلك، إن الفأر يعيش حياة " أسرع " من حياة الفيل.

ويشرح العلماء ذلك قائلين إن الأيض مرتبط بتوافر الأوكسجين، ولكي ينقل الدم الأوكسجين إلى أجزاء الجسم المختلفة فلا بد أن تكون ضربات القلب مواكبة لحركة الرئتين في التنفس. فإننا نتنفس مرة واحدة مقابل كل أربع دقات للقلب تقريبا، أي حوالي 16 مرة في الدقيقة. وحيوان الذبابة الصغيرة يتنفس بمعدل 320 مرة في الدقيقة، والفأر 150 مرة، والشاة 20 مرة، وأما الفيل فيتنفس على مهل، نحوست مرات فقط في الدقيقة. يمكنك إذن على سبيل الرياضة الذهنية، أن تحسب عدد المرات التي يتنفسها أي من تلك الحيوانات خلال فترة حياته كلها. وقد حسبها لنا العلماء بالفعل، ووجدوا أنه برغم اختلاف أعمار تلك الحيوانات فإن كلا منها يحظى في حياته - على وجه التقريب - بنفس العدد (نحو 200 مليون) من الأنفاس. أي أن جميع تلك الحيوانات تمارس من الحياة قدرا متساويا من الوجهة العلمية. وهذا يعني أن الذبابة الذي يعيش سنة واحدة والفأر يعيش ثلاثا، يصيبان من حلوالحياة - ويتجرعان من مرارتها - نفس القسط الذي تناوله الشاة التي تعيش نحوخمس عشرة سنة أوالفيل الذي قد يعيش قرنا من الزمن. بعبارة أخرى - يقول العلماء - إن كل الأفراد منحوا كؤوسا متماثلة من الحياة، غير أن بعضهم يأتي عليها سريعا، وبعضهم يشربها على مهل.

بالطبع لم ينفق العلماء وقتهم من أجل مجرد صياغة عبارة فلسفية. بل خلصوا إلى معادلة حسابية تقول :

عدد سنوات الحياة = 950×(ع)-0.87، حيث ع هي عدد ضربات القلب في الدقيقة.

ومن هذه المعادلة البسيطة يمكننا أن نحسب عدد سنوات الحياة إذا عرفنا عدد ضربات القلب. أو بعبارة أخرى : قل لي عدد ضربات قلبك أقل لك كم تعيش. إلى هنا كان العلماء مستريحين، غير أن المشاكل لم تلبث أن ظهرت، فقد وجد أن المعادلة السابقة تنطبق بشكل جيد على جميع الطيور والثدييات التي تمت دراستها، عدا جنس واحد فقط هو جنسنا البشري، فلو أنك حسبت عمر الإنسان طبقا لتلك المعادلة وجدته في حدود 25 عاما لا أكثر. ولكننا نعلم أن البشر يعيشون في المتوسط أطول من ضعف ذلك القدر، فلم هذا الاختلاف؟ أليست العمليات الفسيولوجية التي تجرى داخل جسم الإنسان مماثلة في الثدييات الأخرى؟

ماذا عن الأمخاخ؟

على الفور شرع العلماء يبحثون عن الأسباب. وفي عام 1975 بدا وكأن المسألة على وشك أن تحل، فقد نشر أحدهم، واسمه مالوك Mallouk بحثا يشير فيه إلى أن الثدييات التي تتميز بكبر حجم المخ (بالنسبة إلى الجسم) تعمر أطول من ذوات الأمخاخ الصغيرة. كما أورد ما يفيد بأن ارتباط العمر بحجم المخ أقوى من ارتباطه بالعوامل الأخرى. ولم يقف مالوك في بحثه عند هذا، بل مضى في تحليلاته مستنتجا أنه مادامت هناك علاقة بين العمر وحجم المخ فلا بد أن للمخ دورا في إطالة العمر. وعلى ذلك افتراض الرجل أن خلايا المخ إبان فترة النموتفرز مادة تعمل على إصلاح العطب وترتيب الأمور داخل جسم الإنسان، أن إنتاج المادة تلك المادة يتوقف عند البلوغ وتمام النمو. إذن فالفرد يشب مزودا بمخزون من هذه المادة، يظل ينفق منه في إصلاح ما يفسده الدهر في بدنه حتى ينفد، وعندئذ يمضي وحيدا ليواجه قدره بغير ذلك الإكسير العجيب. وبديهي أن الفرد الذي يمتلك مخا كبيرا يتمتع باحتياطي ضخم من تلك المادة، وبالتالي يعمر أطول من نظيره الذي يمتلك مخا أصغر.

ولكن تحليلات مالوك كانت تفتقر إلى برهان علمي، ولذا فقد أثارت روح الدعابة في عالم آخر، واسمه كالدر Calder، فنشر في عام 1976 مقالة عنوانها : "دراسة حول العمر وعلاقته بحجم الطحال". قال كالدر معلقا على افتراضات مالوك : إن كل عالم يدرك أن وجود ارتباط رياضياتي بين شيئين أو بين ظاهرتين لا يعنى بالضرورة أن أحدهما هو السبب للآخر. وللتدليل على ذلك أشار كالدر إلى حقيقة معروفة، وهي أن الطحال في الطيور أصغر منه في الحيوانات الثديية التي تماثلها في الحجم، وأن الثدييات تعيش حياة أقصر من الطيور المساوية لها في الحجم. وعلى ذلك يمكننا أن نعتبر الطحال هو المسئول عن قصر حياة الثدييات مقارنة بالطيور. وقياسا على استنتاج مالوك مضى كالدر مفترضا أن خلايا الطحال تفرز مادة تتسبب في زيادة العطب وإفساد الأمور داخل الجسم. وإمعانا في السخرية أطلق كالدر على هذه المادة اسما طريفا هو"إس إس إس SSS" وهو اختصار لما أسماه " الإفراز الطحالي المسبب للشيخوخة Splenic Senescence Secretion "وعلى ذلك يصبح من يمتلك طحالا كبيرا إنما يمتلك كمية أكبر من مادة الفناء (إس إس إس) فيمضي إلى حتفه سريعا. وقد أثارت سخرية كالدر رد فعل غاضبا لدى مالوك، الذي دافع عن رأيه موضحا (من خلال المعادلات الرياضاتية) أن ارتباط العمر بحجم المخ أوثق من ارتباطه بأي عامل آخر، مثل وزن الجسم أوعدد ضربات القلب، وأنك إذا اعتمدت في حساب فترة العمر على حجم المخ فإنك إذا تحصل على نتائج صحيحة سواء بالنسبة للإنسان أوللحيوان، وقد نشر ذلك الرد على صفحات نفس الدورية العلمية المحترمة (Federation Proccedings) التي سجلت جدليهما حول هذا الموضوع، غير أن افتراضات كل منهما بشأن الحياة والموت، بقيت كما كانت مجرد افتراضات.

 

مدحت صادق

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات