بالون للدوران حول الأرض

بالون للدوران حول الأرض

إنها رحلة مدهشة بدأت من سويسرا وانتهت في مصر طار خلالها رائدان عشرين يوما في بالون دون توقف.

قد يعجب البعض لأسباب العودة إلى البالونات، في الوقت الذي يوجد فيه مكوك الفضاء، والطائرات الأسرع من الصوت. لكن عند التعمق في التفكير تجد أن رحلة البالون "برايتلينج أوربيتر- 3" تكملة لسلسلة تحدي الإنسان لظواهر الطبيعة، وحلقة من حلقات الإصرار على قهر المستحيل ودليل ذلك أن النجاح الذي تحقق بالدوران حول الكرة الأرضية في بالون، في مارس الماضي لم يكن المحاولة الأولى لتحقيق هذا الغرض، بل هو واحدة من محاولات عدة قام بها أكثر من فريق ينتمون إلى دول مختلفة، في إطار مسابقة عالمية.

قبل الطائرة

ترجع فكرة الدوران حول الكرة الأرضية ببالون إلى الأديب الفرنسي "جول فيرن" الذي قامت حبكة إحدى رواياته على رهان بين أبطالها على أساس استخدام بالون والعودة إلى مكان الإقلاع قبل موعد محدد.

وقد عرفت البالونات في التاريخ منذ عام "1783" عندما صعد الأخوان الفرنسيان "مونتجولفييه" في بالون حتى ارتفاع "300" متر فوق عمود من الدخان الساخن، حاملا سلة بها خروف وبطة وديك.

وتكررت التجربة أمام ملك وملكة فرنسا في نفس العام، واستخدم غاز الهيدروجين داخل البالونات نظرا لوزنه الخفيف. كما شهد عام 1783 أيضا طيران أول بالون قطع مسافة قدرها "20" كيلو مترا على ارتفاع " 650" مترا. وفي عام 1784 عبر الفرنسي "بالانتشار" بحر المانش من فرنسا إلى إنجلترا، ثم طارت الفرنسية "مدام تيبل" في بالون آخر أثناء زيارة ملك السويد لباريس. وكان الاعتماد في ارتفاع البالونات مقصورا على دفع الهواء لها واستغلال التيارات الهوائية.

ثم أصبحت رياضة الطيران بالبالونات محببة لرجال ونساء المجتمع الراقي في أوربا، وأخذت زينات وألوان باهرة، ونظمت لها الأندية رحلات تخصص فيها أماكن للركاب داخل سلال تتدلى أسفلها.
وشهد عام 1794 أول استخدام عسكري للبالونات في استطلاع الفرنسيين للجيوش النمساوية، كما استخدمها النمساويون عام 1849 لإسقاط المتفجرات فوق مدينة فينيسيا، وحذا حذوهم الألمان عام 1870 في حربهم ضد فرنسا. وشكل البريطانيون في عام 1878 وحدات كاملة عتادها الأساسي البالونات، واستخدموها في استعادة مدينة سواكن بالسودان.

وعلى أساس ملء البالونات بالهيدروجين، ظهر "المنطاد" في بداية القرن العشرين، واشتهر منه النوع الألماني طراز "زبلين" الذي كان مزودا بمحركين يعملان بالوقود. وتعددت أنواع المناطيد المزدوة بالمحركات، واستخدمت أنواع كبيرة الحجم كانت تتسع لمئات الركاب. وانتشر استخدامها بين كثير من الدول قبل استخدام طائرات الركاب لأنه لم يكن لازما لها مطارات مجهزة، بل كان يكفي ربطها في صار مرتفع. ونجح استخدام المنطاد في الحرب العالمية الأولى للاستطلاع، وإسقاط القنابل. ولكن بعد انتهاء الحرب أفل نجم المنطاد أمام ظهور الطائرات المروحية، ونظرا لكثرة حوادث احتراقه بسبب سهولة اشتعال غاز الهيدروجين. ورغم صنع المنطاد الألماني "هندنبورج" الذي كان مزودا بصالونات فاخرة، وغرف نوم وحمامات ومطابخ، كأنه باخرة تطفو في الجو إلا أنه تعرض للاحتراق، فكان ختاما لعصر البالونات والمناطيد.

في عام 1992، ولدت فكرة تنظيم مسابقة عالمية للبالونات، أثناء الاحتفال بمرور "500" سنة على اكتشاف القارة الأمريكية، عندما قامت خمس بالونات بعبور المحيط الأطلسي. فتبنى "الاتحاد الدولي للطيران" تنظيم مسابقة عالمية لبالونات حدد لها شروطا للمتسابقين أهمها:

- أن يكون البالون غير مزود بمحرك.
- أن يقطع مسافة لا تقل عن "26700" كيلو متر دون توقف.
- أن يطير فوق جميع بحار ومحيطات الكرة الأرضية.

وترك للمتسابق حرية- اختيار نقطة البداية، وحجم البالون وتجهيزاته، واتجاه الدوران حول الكرة الأرضية. فأعلنت ست مجموعات من المغامرين الاشتراك في المسابقة، منها مجموعة أسترالية، وأخرى أمريكية، وثالثة بريطانية، ورابعة سويسرية- بريطانية، هي التي قيض لها النجاح. وقد فشلت المجموعة الأمريكية عند بدء الرحلة التي اختاروا لها نقطة البدء من مراكش، حيث سقط البالون في البحر بعد الإقلاع. وأقلعت الفريق البريطاني من إسبانيا، ولم يستطع إكمال المسابقة. وقد اتجه فكر أغلب المغامرين إلى إمكان استغلال ظاهرة "التيارات النفاثة" (Jet Streams) التي تتمثل في رياح شديدة السرعة، تنساب بين طبقات السحب على ارتفاعات عالية تقرب من عشرة آلاف متر.

أوربيتر- 3

بدأ البالون "برايتلينج أوربيتر- 3" رحلته في مارس الماضي من قرية للانزلاق على الجليد في جنوب سويسرا، وعلى متنه المغامران، السويسري "برتران بيكار" الطبيب النفسي الذي يبلغ من العمر " 41" عاما، وزميله الطيار البريطاني "يريان جونز" البالغ من العمر " 55 " عاما.

وكلاهما له خبرة سابقة عن طيران البالونات، فالأول ورث المغامرة عن والده الذي قام بعدة محاولات طيران بالبالونات، وسبق له القيام برحلة مماثلة استغرقت بضع ساعات في يناير 1997 ، وأخرى في فبراير 98 حقق فيها طيرانا بالبالون مدته "234" ساعة. أما الثاني فطيار عسكري لديه خبرة "500 " ساعة طيران منها "120 " على البالونات.

وقد تميز البالون "أوربيتر-3" بتصميم فريد من حيث الشكل والتجهيز. إذ كان يبلغ ارتفاعه "55" مترا، ويزن "1، 8" طن ويملأ بنحو "18000" متر مكعب بغاز الهيليوم، وله شكل يشبه ثمرة الأناناس، وتعلوه قبة صغيرة بها أجهزة للتحكم في ضغط الهواء، لتكون قمرة قيادة البالون. ويبلغ قطر فيه القيادة خمسة أمتار ونصف وارتفاعها "8، 2" متر وتضم سريرا واحدا للنوم، ومطبخا صغيرا وسخانا يعمل بالبخار ودورة مياه.

ويتحرك البالون بدفع هواء ساخن يستمد من اشتعال مادة "البروبان" وضعت في "32" مستودعا لتختلط بغاز "الهيليوم الذي يملأ البالون، والتي تكفي لتوفير قوة دفع لمدة "21 " يوما ويغذي قمرة القيادة تيار كهربائي مستمد من " 5" بطاريات يمكن إعادة شحنها من خلايا كهروضوئية مثبتة حول حافة القبة.

وبفضل هذه التجهيزات استطاع البالون التحليق على ارتفاع متوسط "11" كيلومترا، بسرعة بلغت "140" كيلو مترا في الساعة.

وقد جهز البالون بأجهزة لاسلكية وتليفونات خلوية تتعامل مع الأقمار الصناعية، ومعدات للإنقاذ، بحيث يمكن فصل قبة القيادة عند التعرض للخطر، بينما يتحول البالون نفسه إلى مظلة. واعتمد الرائدان في غذائهما على الأطعمة الطازجة والجافة وكان معهما "200" لتر من الماء.

صمم خط سير رحلة "أوربيتر- 3" ليبدأ من قرية "شاتودو" فوق جبال الألب السويسرية، وينتهي قرب سفح الأهرامات المصرية جنوب القاهرة، وقدر أن الرحلة يلزمها "20" يوما، إذا أحسن استغلال ظاهرة التيارات النفاثة، مع استمرار دفع البالون لأعلى أو إنزاله لأسفل للتحكم في تسخين وتبريد الهيليوم بالقدر المناسب، حسب الاتجاه المطلوب.

وبعد مغادرة البالون لسويسرا ، عبر البحر الأبيض المتوسط متجهـا إلى موريتانيا، ودخل في منطقة التيارات النفاثة فوق الصحراء الليبية، فتراكمت الثلوج فوقه. فاضطر قائده لخفض ارتفاعه فوق الأراضي المصرية يوم 5 مارس وهو في طريقه إلى المملكة السعودية متجها إلى شمال الهند والصين، التي سمحت له بعبور أجوائها، ليكمل المسار فوق بحر الصين، والمحيط الهادي وجزر هاواي والمكسيك وهاييتي والمحيط الأطلسي، ليعود إلى إفريقيا مرة أخرى، فحقق المغامران حلمهما وأنجزا شروط المسابقة ، لكن كان هدفهما أن يكتمل الحلم بالهبوط بالبالون قرب أحد معالم التاريخ الخالدة، على سفح هضبة أهرامات الجيزة. غير أن نفاد مستودعات البروبان حال دون تحقيق هذا الحلم، رغم اختراق البالون صحراوات مصر الغربية، حيث اضطرا للهبوط فوق سهل الرمال العظيم قرب واحة الداخلة، فوق تبة عالية ارتفاعها "400" متر.

وكان البالون قد قطع مسافة طولها 44000 كيلو متر، خلال "19 يوما و 22 ساعة"، بينما هبط وزنه إلى ثلاثة أطنان. وقد قامت السلطات المصرية بتنظيم عملية إنقاذ الرائدين بطائرة هيلوكوبتر وترتيب عودتهما عبر مطار واحة الداخلة إلى القاهرة، ثم عملية انتشال البالون فارغاً، وشحنه بحراً إلى أوربا.

دروس مستفادة

لقد أحيت هذه الرحلة حلم الدوران حول الأرض دون توقف، الذي سبق تحقيقه، بواسطة الطيار الأمريكي "روتان" وزوجته في الطائرة فواياجير عام 1986.

ولعل أهم ما حققته رحلة البالون "أوبيتر- 3 "، هو إذكاء المنافسة بين الشباب، وخلق روح الإصرار على تحدي المصاعب، وهذه وتلك لن تتحققا إلا بمسابقات ترعاها المنظمات العالمية والدول المتقدمة.

ولا شك أن تمسك رائدي الرحلة بالأسلوب العلمي، ومتابعة مراجعة مراكز الأرصاد الجوية، كانا سببا في نجاحهما، بالإضافة إلى تجهيز البالون بأحدث أجهزة الاتصالات.

 

 

سعد شعبان

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




بالون فوق ذرى الجبال





المنطاد قصة انتهت بمأساة