العدوانية والحر

العدوانية والحر

هل هناك علاقة بين ارتفاع درجة حرارة الأرض وتزايد السلوك العدواني عند البشر؟

إن الجدال العلمي القائم اليوم هو حول أثر ارتفاع درجة الحرارة في أصقاع العالم على أمزجة البشر وسلوكياتهم الاجتماعية وتوازنهم الانفعالي. وهذا الجدال أخذ منحنى الجدية والبحث العلمي بكل ما في هذه الكلمة من معنى في هذه الأيام.

الانعكاسات السلبية

إن حجم ارتفاع حرارة الأرض وزيادة تسخينها كان موضوع المؤتمر الذي انعقد في مدينة كويوتو في اليابان في ديسمبر عام 1997 وما يترتب عن هذا الارتفاع في الحرارة من نتائج سلبية بيئية من ارتفاع منسوب المياه في البحار والمحيطات، والتصحر المتسع، وتخرب الزراعة وصيد الأسماك. أما على مستوى الإنسان فما هي المشكلات المحتملة الاجتماعية والنفسية؟ سؤال على غاية في الأهمية والخطورة.

يرى علماء النفس والاجتماع الأمريكيون أن النتيجة السلبية لهذا الارتفاع الحراري للأرض- الذي حتى الآن لم ينظر إليه بجدية، هي التغيرات المتوقعة في نسب جرائم العنف في المدن بخاصة. إذا أظهرت الأبحاث خلال السنوات العشر المنصرمة أن درجات الحرارة المرتفعة المزعجة التي باتت ظاهرة بيئية ثابتة تقريبا في بلدان العالم لها علاقة مباشرة بتزايد السلوك العدواني والعنف، ومن ضمنها جريمة العنف في المدن الصناعية بخاصة.

ويعطي العلماء مثالا على ذلك من واقع إحصائي بحثي. فالتحسن الذي طرأ على معدل جرائم العنف في الولايات المتحدة الأمريكية "أي الانخفاض في المعدل" في الحقبة الزمنية الأخيرة قد تم امتصاصه نتيجة تزايد ارتفاع درجة الحرارة في هذا البلد في فصول الصيف بخاصة. ويرى الدكتور CRAIY Anderson من جامعة ميسوري، والدكتورBRAD BUSHMAN من جامعةTOWA أن معظم جرائم العنف ناجمة عن الأفكار العدائية ومشاعر الغضب.

فالناس بفعل ضيقهم وتوتر أعصابهم من الحرارة يخرجون عن طورهم لأقل محرض وتفاعل سلبي بينهم، فيتشاجرون وأحيانا يؤدي العراك إلى ارتكاب جريمة القتل. وبالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية التي تعدادها 270 مليون نسمة يتساءل هذان العالمان ما هو حجم الخلافات والتحريضات التي تنجم عن زيادة توتر البشر بفعل الحرارة الأرضية؟ الجواب هو في البينة العلمية.

والتساؤل العلمي المطروح هو: أين هذا البرهان لهذا الترابط المباشر بين الحرارة المرتفعة للطقس والسلوك العدواني؟

الجواب: يأتي من الدراسات المختلفة المتعددة التي أجريت بهذا الخصوص.

أظهر علماء الاجتماع من خلال التجارب المخبرية أن مجرد وجود الناس في غرفة مرتفعة الحرارة يجعلهم يشعرون بشعور أكثر إثارة وغضباً مما لو كانوا في غرفة مريحة معتدلة الحرارة. فالأفكار العدوانية تتزايد تبعا لذلك. ومن المعلوم أن الأفكار هي التي تحدد نوعية الانفعالات والسلوك.

وفي دراسة مخبرية أخرى ظهر أن الطقس الحار عندما يتزامن مع التحريض والإثارة العصبية البيئية فإن هذا يزيد من نزوع الفرد إلى إيذاء الآخرين. وفي بحث آخر قدم دعما للدراسة المخبرية التي ذكرناها، برهن على وجود علاقة وترابط بين ارتفاع الحرارة ومزاج العنف بحيث إن الفروق الإقليمية في جرائم العنف مرتبطة ارتباطا إيجابيا بالفروق الإقليمية في معدلات ارتفاع الحرارة. ففي كثير من الدراسات- بعضها مستند إلى سجلات وإحصاءات لبلدان أوربية تم تجميعهـا خلال القرن الأخير- ظهر أن المناطق الأعلى حرارة في البلد تكون معدلات جرائم العنف فيها أكثر ارتفاعاً. واللافت للاهتمام ، من ناحية أخرى أن الجرائم العادية التي لا ترتبط بالعنف لا تظهر الزيادة نفسها المشاهدة في السلوك الجرمي في البلد نفسه.

في دراسة نشرتها مجلة الشخصية وعلم النفس الاجتماعي في عددها رقم 70 تناولت فيها الفروق الإقليمية في معدلات جرائم العنف في المدن الكبيرة في الولايات المتحدة الأمريكية، استبعدت فيها الأسباب المهمة في تأثير الحرارة على جرائم العنف مثل الفقر، واكتظاظ السكان، والثقافات الإقليمية الداعمة للعنف فوجدت أن المدن الأمريكية التي تميزت بطقوس أعلى حرارة من غيرها بدت معدلات جرائم العنف أعلى.

على مستوى الأيام الحارة، والأشهر والفصول الحارة أبانت دراسة أخرى أنها تزيد من معدلات الجريمة بنسبة أكبر من معدلاتها الطبيعية. وفي دراسة تتبعية لعلاقة الحرارة بمعدلات الجريمة من عام 1950 إلى عام 1995 "مجلة الشخصية وعلم النفس الاجتماعي العدد 73" اتضح فيها أن فصل الصيف تتزايد فيه معدلات جرائم العنف والاعتداء والقتل أكثر من بقية فصول السنة. وإذا كانت النتائج على هذا النحو إذن فإن السنين التي تتخللها أيام مرتفعة الحرارة " 90 درجة فهرنهايت وما فوق" تكون زيادات جرائم القتل والاعتداء أكبر من السنين التي فيها عدد قليل من الأيام الحارة ومثل هذا التخمين والتنبؤ أكدتهما الإحصاءات.

على مستوى العلاقة بني متوسط الحرارة لكل سنة وما يقابله من نسب جرائم القتل والاعتداء في متابعة لمدة 46 سنة، وهذا هو الشق الثاني للدراسة السابقة التي ذكرناها، فقد اتضح أن الطقوس الحارة لها تأثير مباشر على سلوك العنف، لذلك فإن متوسط السنوات العالية الحرارة كان يتسم بنسب عالية من جرائم العنف. وهذه النسب تحدث حتى لو كانت البيانات قد تم ضبطها إحصائيا بالنسبة لمعدلات الفقر، والسن في المجتمع الأمريكي حيث تتحرك هذه النسب نحو الارتفاع في جرائم العنف خلال الحقبة الزمنية الآنفة الذكر.

التطلع نحو المستقبل

إن الدراسة التي ذكرناها بشقيها الأول والثاني ترتبط ارتباطا جليا بارتفاع درجة حرارة الأرض وبذلك فإن نتائجها تسمح لها بالتنبؤ بحجم معدلات جرائم العنف وزيادتها تبعا لاستمرار ارتفاع هذه الحرارة. لقد بلغ متوسط جرائم الاعتداء والقتل 215 حادثة في كل 100 ألف نسمة من عام 1950- 1995. وأبانت هذه الدراسات أن ارتفاع درجة حرارة واحدة فهرنهايت للأرض في الولايات المتحدة الأمريكية يزيد معدل الجريمة والاعتداء بنسبة 68،3 في كل 100 ألف شخص.

والسؤال المطروح هو: هل تزايد حرارة الأرض سيزيد من معدلات جرائم الاعتداء في مختلف أصقاع العالم؟

ففي أمريكا الشمالية التي يبلغ تعداد سكانها 270 مليون نسمة، فإن الرقم 3.68 يترجم إلى ما يقرب من 9900 حادثة قتل واعتداء في كل سنة إذا ما ازدادت الحرارة درجة واحدة فهرنهايت فقط. أما إذا زادت الحرارة 6 درجات فهرنهايت فإن المتوقع في الولايات المتحدة الأمريكية وحدها حدوث 59 ألف جريمة إضافية كل سنة.

ولكن حتى لو كان هذا التقدير مغاليا في التفاؤل، ففي تقديرات علماء الطقس والمناخ أن احتمالات ارتفاع سخونة الأرض "مثلا من درجتين فهرنهايت إلى 6.5 درجات بحلول عام 2100" من شأنه زيادة في مدى نسب جرائم العنف متطابقة مع ارتفاع الحرارة. أي بتعبير آخر أن الرقم 3.68 هو على المستوى الإحصائي أفضل تقدير. ولكن الرقم الفعلي سيكون 5.34 فإذا تبدلت حرارة الأرض لتكون بزيادة 6 درجات فهرنهايت، فهـذه الزيادة ستترجم على مستوى الجريمة إلى 32 جريمة إضافية في كل 100 ألف نسمة، أو 68 ألف جريمة إضافية في كل سنة. وإذا تصاعد تسخين الأرض، كما نجد حالياً، فإن التوقعات بتناقص معدلات الجريمة، أي جرائم في الولايات المتحدة الأمريكية، سيكون مصيره الامتصاص والاختفاء، وستستمر معدلات جريمة العنف في الصعود وما يترتب عن هذه الجرائم من أسى وحزن، وتكاليف مالية.

إن هذا كله، على حد ما وصلت عنده الدراسات إلى نتائج تتعلق بالجريمة يفرض تقنين حرق البترول وإيجاد بدائل لطاقة نظيفة غير ملوثة لأجواء الكرة الأرضية لوقف ارتفاع درجة حرارة الأرض بكل العواقب الوخيمة على الإنسان والبيئة.

 

محمد حمدي الحجار

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




أي جو حار وإثارة عصبية تعرض لها هذا الوجه؟!





أعصاب متوترة وجو حار ومن ثم استعداد للعراك