حِمْص رحابة المكان .. مرافئ الزمان محمد المخزنجي تصوير: سليمان حيدر

حِمْص رحابة المكان .. مرافئ الزمان

ونمضي في "حمص" التي تترامى رحيبة في القلب السوري الرحيب.. من مسرى النسيم في ذرى قلعة الحصن، إلى مرسى القوافل في تدمر ومن مودة القلوب الطيبة في مدينة ابن الوليد، إلى بسمات الزهر في بساتين العاصي. ومن خضرة مدارج وادي النضارة، إلى عمق مغارة ملونة عمرها مائة مليون عام.

"يسعدْ صباحك سورية صُبْحك حلو"

كما في عديد المرات التي زرت فيها سوريا، وجدت ذلك المقطع من أغنية صافية بعيدة، لفرقة هواة مجهولة، يتردد في صدري. فالصباح السوري له طعم خاص حقا، فما إن تخرج إلى الرحاب السوري المضاء بشمس أليفة خارج أبواب مطار دمشق، حتى تجد نفسك منطلقا بين خضرة السر والعالي والحور والصنوبر، وحمرة زهور الدفلى. ثم توغل في دمشق فلا يجعلك بعض الزحام وبعض الغبار-إن كنت منصفا وعارفا-تنسي أنك تمضي في دروب أقدم مدينة في العالم ظلت عامرة ومأهولة دون انقطاع، ومنذ الألف الثالثة قبل الميلاد.

وتوغل أكثر، فيلقاك الياسمين على أسيجة بيوت دمشق القديمة، وقبل أن تصل سيارتنا إلى مبنى وزارة السياحة للقاء الوزير الدكتور "دنحوداوود" ، نمر على مقربة من سوق الحميدية، فأتذكر المسجد الأموي، وذلك النور الناعم والظلال الحنون اللذين يحيطان به وبالمنطقة العتيقة من حوله. وكأنه يقرأ ما بداخلي، سألني مرافقنا الشاب من العلاقات العامة بوزارة السياحة الأستاذ "أنس قولي" : "ألا تفكرون في تغطية عملية ترميم الجامع الأموي؟". فأعلن عن التمني، لأنني أتابع تلك العملية الكبرى منذ سنوات، منذ شملها برعايته الكريمة فخامة الرئيس حافظ الأسد.

وكأننا كنا على موعد مع القديم الجليل، منذ أول خطونا في الواقع السوري باتجاه مقصدنا، محافظة "حمص"، فعندما تحدثنا مع الدكتور وزير السياحة السوري، عن تصورنا لاستطلاع يتناول محافظة "حمص"، بعد ثلاثة وثلاثين عاما منذ أجرت "العربي" فيها آخر استطلاعاتها في مارس 1963 ، فاجأنا الدكتور الوزير بهدية صحفية لم تكن تخطر على بالنا، إذ قدم لنا أول تقرير عن "مغارة القصير" حديثة الاكتشاف، مع إذن بزيارة هذه المغارة الحدث، التي يقدر عمرها بنحو مائة مليون عام، لنكون بذلك أول بعثة صحفية في العالم -بعد الصحافة السورية - تدخل هذه المغارة الهائلة، ولتكون هذه هي أقدم مرافئ الزمان التي رسونا عندها في محافظة "حمص"، أكبر المحافظات السورية مساحة وأكثرها تنوعأ بيئيا، إذ تشغل منطقة الوسط السوري بمساحة 43 ألف كيلومتر مربع، ممتدة من بادية الشام شرقا، مارة بحوض نهر العاصي، ومنتهية بالحدود مع لبنان غربا. شمالها تحده محافظات حماة والرقة ودير الزور وجنوبها محافظة دمشق. أما نهر العاصي الذي يقسم واديه هذه المحافظة إلى قسمين متمايزين مناخا وتضاريس فقد سمي كذلك لأنه النهر الوحيد الذي يتجه في سوريا من الجنوب إلى الشمال.

لغة الأشجار

خلال ساعتي السفر، من دمشق إلى حمص، أعدت قراءة كتاب الأستاذين "منذر الحايك" و"فيصل شيخاني" "حمص.. درة مدن الشام"، ومع اقترابنا من المدينة كانت الجبال تتراجع عن جانبي الطريق، ويصير المدى سهلا، وعلى مشارف "حمص" -وحدها- ألاحظ أن الأشجار تميل باتجاه الشرق ميلا واضحا وتنحني كأنها ستهوي. وأتذكر تخريجا طريفا ورد في مقالة ممتازة للشاعر "شوقي بزيع " عن شاعر حمص القديم الأشهر، وعن شاعريتها، وجمهور الشعر الكبير المتميز فيها، بعنوان "أسطورة ديك الجن المتجددة" يشبه فيها هذه ا لأشجار بأنها "كأجساد نساء غابرات ينحن على "ورد" المقتولة ويهيئن لشاعر حمص عويلا لايكف عن تجديد نفسه إلى مالا نهاية" والمعروف أن ديك الجن، أو "عبدالسلام بن رعنان"،  المولود عام 778 ميلادية، أصله من سلمية (قرب حماة) لكنه ولد،وعشق، وشك، وقتل معشوقته "ورد"، كل ذلك في حمص، ثم هام على وجهه في متنزهات الميماس على ضفاف العاصي، يقصدها ليلأ، وينشد فيها مرثية عشقه الدامي البديعة : "يا طلعة طلع الحمام عليها وجنى لها ثمر الردى بيديها". لكن أشجار "حمص" كانت تميل وتنحني لسبب آخر (غير السبب الشعري!) هوالأثر المديد للرياح الشهيرة التي تهب على المدينة من الغرب وتجعلها دائما أبرد من دمشق بنحوخمس درجات، حتى ليقال إن أهل حمص ليسوا في حاجة إلى الذهاب للمصايف فمدينتهم بذاتها مصيف، وعن جغرافيتها يتحدث كتاب "درة مدن الشام" فيقول إنها تسموفوق هضبة لطيفة ترتفع حوالي 400 متر فوق سطح البحر المتوسط أمام نافذة خليج عكار، مواجهة تلك الفتحة في جبال لبنان الغربية، فتهب عليها نسائم البحر المتوسط لترطب أجواءها صيفا وتعدها بالغيث في الشتاء. والمستعرض لبنية حمص الظاهرية يلاحظ عدم وجود الجبال المعيقة بها، لهذا كانت - ولاتزال - عقدة مواصلات مهمة. ولقد ساهم موقعها ليس في جعلها منطقة اتصال إداري مهم فحسب، بل جعلها منطقة اتصال ثقافي، واتصال اقتصادي، واتصال إنساني أيضأ. " فالجغرافيا أم التاريخ &qu ot;، أقول لنفسي ذلك ونحن ندخل حمص، مارين بأشجار السرووالصنوبر البري في غابتي 8 آذار و6 تشرين، وتلفت نظري جزيرة الخضرة المؤنقة بين نهري الشارع، والمصابيح ذات اللمسة التراثية في الوسط، وتتوالى على يسارنا في البعيد أبنية الجامعة التي تتكاثر وتعلو، فعدد الكليات بها يتزايد كل عام.. ستكون بها كلية للطب في العام الدراسي القادم، وكلية للصيدلة بعد ذلك.

نوغل في قلب حمص (المدينة)، فتمنحنا شوارعها طمأنينة وألفة، ثم نخترق شارع "المتنبي" الشهير باسم شارع "الدبلان" (ويمثل القلب التجاري الحديث للمدينة)، فلا يفزعنا الزحام، إذ إن دعة البشر على حالها، تتجلى في وجوه هذا الخليط البشري من أبناء وبنات المدينة، والريف، والبادية. وأنتبه منذ البداية وحتى ا لأطراف إلى تلك التغيرات الإنشائية الجمالية، فثمة مقبرة كانت تتوسط المدينة تحولت إلى حديقة، وثمة مصابيح وتشكيلات من الإنارة التزيينية تعلن عن وعدها المضيء في الليل، والطرقات صارت أنظف وأفضل تعبيدا وتشجيرا. إنه أفق هندسي جمالي يعلن عن مشروع طموح لدى إدارة المحافظة وعاصمتها. ولقد تيقنت من ذلك عبر اللقاء المليء بالمودة والوضوح مع محافظ حمص المهندس محمد ناجي عطري ، ثم رئيس مجلس المدينة المهندس محمد بسام النجار وكان يعنيني أكثر ما يعنيني في اللقاء الإجابة عن سؤال يتفق مع جوهر استطلاعي : "ماذا لدى الحاضر لصون الماضي.. واستثماره أيضا؟". ولقد أثلجت الصدر تلك المخططات بعيدة النظر للحفاظ على ما تبقى وتنمية الجديد في المحور التراثي أوالسياحي بحمص القديمة، وضوابط البناء  والهدم والترميم، وحفز الناس على البناء بتقاليد معمارية تستلهم جماليات تراث المدينة. وفي أمسيتين قضيناهما ساهرين مع مجموعة من الفنانين الحمصيين بحديقة نقابتهم تحت أغصان الكرمة المورقة كان تأييد ذلك الطموح المعماري الجمالي واضحا، وثمة اقتراح جيد يقول بأن الأبنية الحكومية الجديدة ينبغي أن تكون القدوة في هذا الاتجاه. وقد لا أضيف جديدا بقولي : إن البناء بجماليات تراثية، كتلبيس الواجهات بالحجر الحمصي الأزرق أواستعادة سقوف القرميد، كل ذلك مكلف، ويتطلب تشجيعا.. ربما ببعض الإعفاءات، ربما ببعض التيسيرات، لكن المؤكد هوأن إحياء هذا المحور التراثي سيكون له مردود اقتصادي سياحي لا شك فيه. ولعل وجود مهندسين معماريين على قمة الجهاز التنفيذي في حمص المحافظة، والمدينة، يؤكد جدية هذا ا لاتجاه.

تل الحنين

لقد سألت الأستاذ أحمد سيف الدولة سلامة مدير سياحة حمص والفنان عون الدروبي عندما التقيتهما فور وصولنا : متى ومن أين نبدأ؟ وكانت.محصلة " الرؤية أن نبدأ فورا، ومن البعيد فالقريب. لكن الكتابة لها منطق آخر، إذ تدفعني للبدء من ذروة قريبة، من قمة تل حمص وأعالي قلعتها..

صعدت بنا السيارة المرتقي الصعب إلى قمة قلعة "حمص" التي تربض على تل يرتفع عما حوله 32 مترا ويرتفع عن مستوى سطح البحر 533 مترا ويقع في الطرف الجنوبي الغربي من حمص. لم تكن هناك غير أطلال البناء القديم وبضعة أبنية برتقالية مغبرة وحيدة الطابق منذ زمن الاحتلال الفرنسي وبقايا وحدة عسكرية وهوائي ضخم وخزان ماء قديم جاف. لكن التجوال عند حواف تلك القمة كان يمنح. فرصة نادرة للإطلال على "بانوراما" مدينة حمص، خاصة الجزء القديم منها إلى الشمال حيث البيوت القديمة بحجارتها السود وسقوفها من القرميد الأحمر ومسجد خالد بن الوليد بقبابه الفضية ومنارتيه السامقتين شاهقتي البياض. من هذا المرتقي أجدني أتأمل لا فقط حاضر المدينة المنبسط تحت ناظري باتساع كبير بل أتأمل أعماق الأزمنة التي ظل هذا التل منتصبا عبرها كنقطة جذب تؤرخ لحياة المدينة وتموجات هذه الحياة. فقد أثبتت القرائن الأثرية المكونة من كسر فخارية وجدت في التل أنه أقدم موقع تم السكن فيه إذ يعود تاريخها إلى حوالي 2400 ق. م. وهذا يؤكد أن وجود حمص سابق لتسميتها التي هي "حمص " بالعربية و"إيميسا" Emesa باللاتينية والإغريقية. وثمة من يقول إن "حمص " هي لفظة أرامية تعني "الأرض اللينة". وثمة من يقول بانتسابها إلى حمص بن مكتف العماليقي. لكنني أميل عاطفيا وفنيا، إلى ما قرأته في كتاب "حمص.. دراسة وثائقية" للكاتبين "محمود عمر السباعي ، ونعيم سليم الزهراوي". ولقد سرني لقاء الأخير، وأدهشني الشيخ الشاب وهويجمع بدأب عجيب مادة الجزء الثالث من كتابه المتفرد عن تاريخ "أسر حمص"، يقول الكتاب إنه في فضاء "عاليه" من محافظة جبل لبنان قرية تدعى "حمص ذكرها الدكتور "أنيس فريحة" في كتابه "أسماء المدن والقرى اللبنانية وتفسير معانيها" واللفظ "حمص" جذر كنعاني يعني فيما يعنيه "الخجل " ربما من حمرة اللون. ومن المعروف أن الشواطئ الشرقية للبحر المتوسط تعرضت منذ منتصف القرن 15 ق. م إلى غارات "شعوب البحر" أولصوص البحر عليها، ولعل حمص اللبنانية أصابها ما أصاب أوغاريت التي تهدمت وأحرقت على يد هؤلاء المغيرين عام 1100 ق. م. ومن ثم انسحب الناجون من حمص اللبنانية باتجاه الشرق التماسا للأمان. وأقاموا في المنطقة الوسطى من سوريا في موقع التل الحالي، وأنشأوا قرية أسموها "حمص" ليعبروا عن تعلقهم بموطنهم الأول على عادة النازحين في كل زمان ومكان. ومن هذا الملاذ الآمن عاودت الحياة نموها واتسعت، فصارت حمص التي ربما أعطتها هذه الهجرة اسمها، وإن كانت جذورها العربية أبعد، فقد كانت هناك موجات هجرة عربية أخرى سبقتها بدأت بالعموريين منذ الألف الثالثة ق. م، ثم الكنعانيين - خاصة من غرف منهم باسم الفينيقيين، ثم الآراميين في إطار الهجرة العربية الثالثة، وأخير جاءت خاتمة الهجرات التي كانت عربية أيضا تحت راية الإسلام في أوائل القرن السابع الميلادي.

تلك البداية بذلك التل الملاذ، بعد عناء الرحيل.وذلك النسيم الآتي من البحر عبر نافذة الجبل، وأحضان الخضرة المعطاءة على ضفاف العاصي، وشجن الحنين، هل كان ذلك كله وراء تركيبة الشخصية الحمصية التي لا شك في تفردها؟ لقد عرفت هذه المدينة والناس فيها كثيرا من قبل،والطيبة قيمة واضحة تستطيع أن تتلمسها كل يوم، في كرم الناس، وفي تراحمهم، وفي تلاحمهم الاجتماعي، وفي حسن وجوه صباياها وصغارها خاصة، فالخير جميل ويجمل، وأول ما يتجلى حسنا يكون في وجوه الصغار والصبايا.

ولمناسبة الخير فإنني اقطع مشهد تسنمنا لذروة تل حمص، وأنتقل لذروة أخرى وقفنا عليها في أحد أيام استطلاعنا. فأثناء زيارتنا لمشفى "جمعية البر والخدمات الاجتماعية" استأذنت من الدكتور "غانم رسلان" والأستاذ "أديب علوان" اللذين كانا يطوفان بنا أرجاء المشفى، أن ننتقل إلى السفح قليلا قبل الغروب لنرى حمص بصورة شاملة من ضفاف نهر "العاصي" الغربية. مشهد فسيح بديع في غمرة من شلال النسائم والبرودة العذبة بعيدا عن دخان المصفاة. وحمص الراسخة هناك وراء خضرة البساتين الغامرة بينما حمص الجديدة من حولنا في أرض الوعر التي ينهض في صدرها ذلك المشفى المأثرة.

لا تسول، ولا عقارب

"الوعر" مكان جميل، وأخلاقي أيضا، للامتداد العمراني. فالأرض لم تكن تزرع لفرط ما بها من صخور وحجارة لهذا سميت "الوعر"، وقامت الدولة بتنقيتها وتهيئتها للبناء وتزويدها بالمرافق، وسرعان ما اشرأبت العمائر في تنظيم متقن بإطلالة لا أبدع منها على البساتين التي أتمنى -كما يتمني أهل. حمص، وكما أكد ذلك مسئولوها الذين التقيتهم - أن تظل "خضراء.. رئة تتنفس منها المدينة، وحقلا للخير يطرح على موائد أهلها، وبساتين لا أحلى من لقمة هنيئة في ظل كرومها كتلك التي دعانا إليها الأخ والصديق "سعد الفيصل".

هبطنا من قمة مستشفى جمعية البر، لنستكمل طوافنا بأرجاء هذه القمة الإنسانية وفي طريقنا التقينا الدكتور "يوسف الماضي" جراح العظام، الذي عاد بالذاكرة إلى يوم كان في العاشرة من عمره، وكان يرى أعضاء الجمعية، كلا منهم يحمل دفترا ويتجول ليجمع التبرعات البسيطة، خمسة قروش للإيصال الواحد، فيما سمي آنذاك بمشروع "الفرنك". ومن هذه القروش القليلة وإرادة الخير في حمص، وبمباركة الدولة وفعالياتها السياسية والتنفيذية، شمخ صرح حقيقي ونموذج لعمل الخير يكاد يكون فريدا في عالمنا العربي.

فبرغم الضمير الديني وراءه فإنه يبرأ تماما من أي أهداف غير عمل الخير، ويوجه خيره لأهل حمص دون استثناء ولا تفرقة، حتى أن هناك كثيرين من غير المسلمين شاركوا بالتبرع لدعم هذا العمل.

وبينما كنا نتجول في أرجاء المشفى شديد النظافة حديث التجهيز، ابتداء من غرف العمليات حتى أسرة المرضى، رحنا نلم من مضيفينا ببعض من تاريخ الجمعية وأعمالها...

لقد تأسست الجمعية في 23/ 2/ 1955 ، هادفة إلى مساعدة الفقراء والمحتاجين وتقديم العون للمعوقين والمسنين. وهي تقدم اليوم عونها لأكثر من 1000 أسرة وأكثر من مائة نزيل بدار للعجزة، وترعى عددا من المكفوفين وأسرهم، وتقيم دارا للصناعات اليدوية تتعلم فيه 500 طالبة سنويا. وفي إطار الخدمات الصحية افتتحت عدة مستوصفات وعيادات ليلية إضافة للمشفى الكبير الذي بدأ افتتاحه عام 1988 وهو يضارع أي مشفى استثماري ويتفوق في كثير من المناحي، خاصة الضمير المبرأ من أي غاية للكسب.

إن الخير يستدعي الخير، مهما كان بعيدا، ففي طريق خروجنا من مشفى جمعية البر، التقينا الدكتور "رضوان رجوب " جراح وطبيب ا لأعصاب الذي يعمل ويعيش بولاية بنسلفانيا الأمريكية منذ 24 عامة، لكنه يجيء مرتين كل، عام ليعالج المرضى من أبناء بلده دون مقابل. وإذا كان الخير بالخير يذكر فلا بد من التنويه بواحدة من أهم مآثر جمعية البر وخصائص مدينة حمص، إذ هي مدينة لا يوجد بها متسولون، وتكاد تكون ا لمدينة الوحيدة، عربيا وربما عالميا، التي لا تعرف شوارعها ظاهرة التسول فمنذ سنوات بعيدة وجمعية البر تدعمها الدولة ويعضدها الأهالي تتعقب ظاهرة التسول. فإذا كان المتسول محتاجا تبذل له المساعدة، إن كان مقطوعا تعيده إلى بلده، وإن كان عاجزا تؤويه وتكفله في الدار المخصصة لذلك، وإذا كان محترفا وهوالسبب الأعم كما يؤكد الحاج "أديب علوان" -تتخذ السلطات بشأنه الإجراءات القانونية. كما أن وعي الأهالي يدعم هذا السعي بشدة، فإذا واجه أحد المواطنين متسولا يتصل بجمعية البر لتفعل ما يناسب في شأنه. وهكذا قضت حمص على ظاهرة التسول. ولن يعرف طعم مدينة بلا متسولين إلا من عانى تكدير هذه الظاهرة وهو يطوف بالكثير من مدن العالم، فالمتسولون يقبضون القلب ببؤسهم،ويزهقون الصدر بإلحاحهم ويكدرون الرؤية حيثما كانت، بينما الفقراء الحقيقيون وكما يقول قرآننا الكريم يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف. لهذا كان تجوالنا في شوارع حمص وبين أرجائها صافيا من الكدر، برغم أننا بدأنا من باب السوق، وفي ذروة الزحام. قبل أن نغوص في موج البشر الساري تحت سقوف الأسواق القديمة، عرجنا على الجامع النوري الكبير. وهو مرفأ مهم من مرافئ الزمن الخاص بمدينة حمص. شققنا زحام بائعي "المستورد" باتجاه المدخل الغربي للجامع. وعبرنا تحت القوس المعمول من الحجارة البيضاء والسوداء على النمط الأبلق فصرنا مباشرة في صحن الجامع الذي يشكل فضاء متطاولا يظاهره المصلى الصيفي ذو الرواق العالي والأبسطة الملونة. أما الحرم الذي يوازي الصحن فتلفت النظر حول أعمدته لوحات الرخام المطعم  بالزخار ف العربية. ويؤرخ لبناء المسجد ببداية زمن التحرير العربي لمدينة حمص من البيزنطيين. ولقد ظل يلعب دورا وطنيا تنويريا إلى جانب الدور الروحي الذي اضطلع به، ففيه نشأت أول المدارس الأهلية لدراسة اللغة العربية وآدابها في مواجهة.استبداد الاستعمار العثماني ومن بعده استبداد الانتداب الفرنسي. وظلت أروقته حتى ستينيات القرن تشكل نوعا من المكتبات الحية يتبادل فيها المتعلمون معارفهم.

أثناء خروجنا من حرم الجامع النوري كان هناك ناووس من الحجر البازلتي الأسود في أقص الغرب لصق السور. على الناووس كان ثمة نقش يمثل عقربين متواجهتين حول كرة كأنها الأرض. ولا بد أن النقش يعود إلى زمن أبعد من زمن بناء الجامع. ولفتنا ذلك إلى إحدى أساطير حمص الحية، التي تقول إنها مرصودة ضد العقارب، لا تدخلها ولا تعيش فيها وهي أسطورة يؤكدها الواقع الذي لم تر فيه عقرب واحدة عبر قرون، ولقد ذهب الخوري عيسى أسعد المتوفى عام 1949 في كتابه "تاريخ حمص" إلى تفسير عدم وجود العقارب بعدم ملاءمة التربة لبيضها، وثمة تفسير علمي آخر يرد هذه الظاهرة إلى وجود نسبة من مادة الزئبق في تربة حمص تطرد عنها العقارب.

إنها أسطورة يرجعها البعض إلى جذور طوطمية ضمن الرموز الدينية للقبائل البدائية القديمة، لكن المدهش أنها ظلت تعبر بثبات ما تعاقب على المكان من معتقدات وثنية آرامية، فيونانية، فرومانية، ولم تتوقف الأسطورة عن الحياة بعد ذلك سواء مع مجيء المسيحية،أو دخول الإسلام،وذلك لسبب بسيط هو أن الأسطورة متجسدة في الواقع، فلا عقارب -حقا- في حمص. ولعل ذلك في حد ذاته يدعم القول بطيبة الشخصية الحمصية التي هي -برغم ما بها من عناد ومباشرة صادمة أحيانا -أبعد ما تكون عن أي ملامح للغدر والمؤامرة والالتفاف واللدغ التي تتسم بها العقارب.

قباب فضية، وحجارة سود

من المؤكد إنها ليست صدفة معمارية أن يكون المتجه لدخول جامع خالد بن الوليد يبدو وكأنه يصعد، وفي صعوده يتهيأ مرحلة بعد مرحلة ليعلوببصره وكيانه إلى حيث تلامس ذرى المنارتين والقباب تلك الزرقة الصافية الرحيبة لسماء مدينة طيبة عريقة من مدن الشرق. فمع الاقتراب يبدو الجامع هائلا وجليلا بجدرانه البازلتية السوداء المزرقة والنوافذ ذات الأقواس المؤطرة بالحجارة البيضاء، وامتداد السور الأبلق - صف أسود وصف أبيض - إلى يسار كتلة الجامع الأساسية ليحيط بالصحن. بينما على الكتلة الأساسية في اليمين - حيث بيت الصلاة - يتوالى الصعود البارق "للقباب الفضية التسع والسموق اللطيف المهيب للمنارتين الناصعتين. إن المسجد الحالي، شأن كل بناء قديم في حمص، طبقة من الزمان تخبئ تحتها طبقات، فقدأقيم في أواخر العهد العثماني،في النصف الثاني من القرن 19 الميلادي، على أنقاض مسجد أقدم يعود إلى الظاهر بيبرس في القرن 13 الميلادي. ولا بد أن هذا بدوره أقيم على أطلال أبنية أقدم.

المسجد الحالي، الذي يسميه أبناء حمص "جامع سيدي خالد"، مشيد على الطراز العثماني الممزوج بالطراز العربي، وعلى يمين الداخل إلى بيت الصلاة المضيء الفسيح يقوم - تحت إحدى القباب التسع -ضريح الصحابي القائد خالد بن الوليد والى جواره قبر ابنه عبدالرحمن وقبر عبدالله بن عمر. ومدينة حمص على العموم تضم حشدا زاخرا من قبور وأضرحة الصحابة والأولياء، وهي ظاهرة تستدعي التفكير في أسباب تدفقهم للإقامة أو الاستقرار في حمص، وتأثير مكثهم المضيء بين جوانحها، فلا بد أن نفوسهم الطاهرة قد استطابت المكان، ولا بد أن المكان وأهله قد تطيبوا بوجودهم.

الغائبة الحاضرة.. زنوبيا

قبل أن ننطلق من حمص إلى تدمر في الصباح الباكر من أحد أيام استطلاعنا، وبصحبة الأستاذ "أحمد سلامة ، كنت قد قرأت مجموعة من الكتب عن تدمر. لكن هذه الكتب التي منحتني من المعرفة الكثير، لم تمنحني الرؤية التي جادت علي بها الزيارة الميدانية لتدمر، بصحبة رئيس شعبة سياحتها الأستاذ محمود شويتي ، ومدير ا لآثار الأستاذ العالم خالد الأسعد

لقد حيرتني الأدوات الصوانية وراء زجاج صناديق المتحف، تلك الأدوات التي سواها من الصخر إنسان تدمر الأول ليشق بها طريق حياته اليومية، منذ الألف السابعة قبل الميلاد، لكن اليقين في العظمة الغابرة لم يغادرني لحظة وأنا أرنو إلى الأطلال الحجرية البيضاء التي صبغتها شمس البكور بلون ذهبي يشع في رحاب الكيلومترات الاثني عشر المحتضنة لما تبقى من أزهى عهود تدمر. ذلك الزمن الممتد بين القرنين ا لأول والثالث الميلاديين، ففي هذه الفترة استطاعت تدمر،التي كونتها في عهودها الأقرب هجرات شعوب الجزيرة العربية،أن تجد لنفسها مكانا بين الإمبراطوريتين الأقوى آنذاك، فارس وروما. بل صارت هي ذاتها إمبراطورية تمتد من البوسفور إلى النيل في عهد زنوبيا. معبدبل، وقوس الشارع الطويل ذي الأعمدة والأروقة، و"الآجوارا" التي شكلت أول منطقة للتجارة الحرة عرفها العالم، والمسرح القديم، ووادي القبور الذي توقفت عنده طويلا، والسور القديم الذي ينهض من جديد.

كان تطوافنا خلال النصف الأول من النهار داخل هذه الكيلومترات الاثني عشر، ولقد توقفت مندهشا أمام بقايا أنابيب فخارية تمتد مدفونة قرب السطح بطول المكان وعرضه وثمة بالوعات بأغطية حجرية تتقاطع عندها الأنابيب. لقد كان هناك نظام صرف دقيق في ذلك الزمن البعيد، ونظام آخر لتزويد المدينة بمياه الشرب. وبينما كنت أدلف من بين أعمدة الحمامات الملكية لأقف على حافة حمام الملكة زنوبيا "زينب" بأحواضه الثلاثة التي جففتها القرون. تملكني الشجى والشجن لمصير هذه المرأة الرائعة التي هي منا ونحن منها. زينب التي ورثت ثأر تدمر منذ عام 267 م. فقد حاولت تدمر على يد أذينة - زوج زينب - أن تتصرف وفق إرادتها، ضد أطماع الساسانيين الفرس والرومان المهيمنين على سوريا. وقتل أذينة غيلة، لكن حمص قتلت قاتله. ومن ظلال تدمر خرجت شمس زينب اللاهبة الساطعة. كانت سمراء جميلة سوداء العينين، تتكلم لغات ذلك الزمان الثلاث الكبرى : "التدمرية واليونانية والمصرية "، وكان لديها حلم باتساع الشرق. وفي عام 268 م،  لاحت لها الفرصة فقد كان البرابرة ينوشون الإمبراطورية الرومانية التي يتآكلها من الداخل النزاع على السلطة، بينما مصر يتهددها القراصنة، ومنطقة الخليج العربي اغلقها الساسانيون "الفرس" فانقطع طريق القوافل من تدمر إلى الهند. سيرت زنوبيا جيوشها لاحتلال مصر بعد أن هيمنت على سوريا، ثم أرسلت جيوشها شمالا حتى وصلت إلى البوسفور. وبتلك الإمبراطورية من البوسفور إلى النيل امتلكت زنوبيا كل منافذ طرق المواصلات البرية والبحرية مع الشرق الأقصى دون إذعان لاستبداد الساسانيين ولا انصياع لاستعلاء الرومان.. ولم تهنأ زنوبيا بتحقق حلمها طويلا إذ عادت روما إلى سابق عهدها. وفي عام 272 م،وبعد أن استعادت روما مصر زحفت جيوش أورليان لتواجه جيش زينب.وعند إنطاكية على ضفاف العاصي كانت المواجهة، وكانت الغلبة للروم، فتراجعت زنوبيا تحتمي بأسوار حمص ثم انكفأت حتى تدمر. ولحق أورليان بها فحاصر المدينة التي استسلمت بعد أن ضربها الجوع ودخلها أورليان في خريف عام 272. وماذا عن زنوبيا؟ قيل إنها أسرت ضمن كوكبة من الفرسان حاولت طلب نجدة من خصوم روما في الشرق، أي الفرس. وقيل إنها قضت في طريق الأسر إلى روما إذ امتنعت عن الطعام حتى الموت. و قيل إنها عاشت حتى عرضت ضمن موكب الأسرى في روما عام 274 م، وكانت تسير مثقلة بحليها، ومصفدة بسلاسل الذهب من عنقها حتى قدميها. وقيل إنه قد أطيح برأسها بعد موكب النصر. لكن هناك من المؤرخين من يذكر أنها عاشت وتزوجت أحد أعضاء مجلس الشيوخ وقضت أيامها في "فيللا" ببلدة تيبور عند أطراف روما قرب قصر هادريان وثمة أحفاد لها كانوا هناك في القرن الرابع. لقد ملأتني قصة زنوبيا الغائبة الحاضرة في المكان بشجن مقيم جعلني شاردا طوال الوقت، حتى إنني لم أخرج من عمق هذا الشرود إلا بصيحات الاستحسان التي سمعتها بعدة لغات تتصاعد من حولنا في المطعم، مع التفات أعناق مجموعة السياح الموجودة في المكان إلينا. لقد جاء الطاهي ومساعدوه بجوهر الوليمة التي أعدتها لنا شعبة سياحة تدمر : المنسف! خروف مشوي فوق تلة من الفريكة المفروشة بالجوز والصنوبر.

وادي الجذور

الكرم عربي، والجذور عربية، واليقين العربي وجدته في عظمة المدافن التدمرية. ففي فترة ما بعد الظهيرة كانت زيارتنا لوادي القبور. ولقد كان بالنسبة لي واديا لحياة الجذور الحضارية العميقة للعروبة. فجذورنا العربية، وهذا ما تصرخ به أعماق تدمر، ليست رمالا للتيه وقبائل متناحرة وجلافة بدوية تكرس لها الانطباعات الرخيصة رخص السطحية وعدم الانصاف. حتى في ذهنية الكثيرين من المثقفين العرب.

لم أشعر بالزهو الثقافي لكوني عربيا كما أحسست بذلك وأنا داخل المدافن التدمرية، خاصة بعد زيارة المتحف والمرور على لوحات الجص النحتية الجنائزية وقراءة الكتابة التدمرية. الآرامية المحفورة عليها والتي راح بنثرها على سمعنا مدير آثار تدمر الأستاذ"خالدالأسعد"، ذلك الحارس العاشق لما يحرس والجدير بالائتمان علي كنز كنوز الأصالة العربية في تدمر.

شيء عجيب.. الأسماء أسماؤنا، وبشارات الروح الديني كانت هناك، والوجوه تكاد تكون هي التي نحملها حين تصفوا لنا  الدنيا!

إنني اعتقد أن روح التحضر الفلسفي، ومن ثم الثقافي الأعمق، تكمن في نظر الإنسان إلى نفسه من زاوية كونية، على اعتبار أنه سيرورة متصلة، رحلة بالجسد وامتداد بالروح. وإلا ماذا يكون الفرق بين البشر والسوائم. الغرب لم يمتلك هذه الرؤية أبدأ، إلا استعارة من الشرق ولدى نفر قليل من مفكريه بينما أبسط إنسان شرقي فطر على هذه الرؤية. والعرب شرق.ووادي القبور في تدمر برهان. فلقد اعتنى التدمريون بمدافنهم عناية فائقة. عناية إنسان متحضر ينظر إلى ذاته كعنصر كوني متعددة ومتواصلة أشكال وجوده. فهو ليس جيفة ينقطع خبرها بتحللها العضوي. تلك هي المسألة. ولقد كان التدمريون - جذرنا الثقافي العربي - يسمون المدفن "بيت الأبدية" حيث تحفظ الأجساد وتحلق الأرواح. وكان المدفن صرحا معماريا جماليا رفيع القيمة شكلا ومعنى. فهو بناء رشيق من الحجر الجيري سواء تعددت طوابقه كما في المدافن البرجية أو لم تتجاوز الطابق الواحد كما في المدافن البيتية. ولكل مدفن باب من الحجر المنحوت بأعلاه نافذة للإنارة والتهوية. أما داخل المدفن فما من مساحة إلا مشغولة بلوحات الزخرفة على الجص أوالحجر أوالفرسكات (لوحات الرمل الملون). وعادة ما تكون هناك كتابة فوق النافذة تذكر اسم مؤسس المدفن وتاريخ التأسيس. أما القبور فهي داخله في الجدران، تتعالى في طوابق وتتولى في صفوف، ويغلق كل منها تمثال نصفي يبرز من لوحة نحتية للمتوفى يسمى "صلم" (صنم) أو"نفشا" (النفس) وهذه اللوحات النحتية هي شواهد يكتب بأعلاها أوفي زاوية منها اسم المتوفى وتاريخ وفاته وكلمة "حبل " التي تعني : "وا أسفاه".

إن المدافن التدمرية كانت مضافات روحية -إن صح التعبير- تستقبل زوار الراحل حتى تأتنس روحه وتخفف عنه عذابات "الغربة الأبدية". لهذا ترى كل مدفن مجهزا ببئر للسقاية والتطهير، وثمة لوحات نحتية إضافة للشاهدة، تشغل صدر الجناح الرئيسي وتمثل مشهد الوليمة الجنازية التي تضم مؤسس المدفن وأسرته في لقاء رمزي. ودائما يكون رب الأسرة مضطجعا  وإلى جانبه زوجته والأولاد حولهما وقوفا في مشهد مؤثر. وأكثر ما يلفت النظر في هذه اللوحات النحتية هي الوجوه المتوجهة دوما إلى الأمام والمرتسمة بخطوط واضحة. الوجوه رغيدة والعيون صافية مفتوحة والانطباع هو ذاته الذي يقابلك في الشوارع السورية، خاصة حمص، أما الأسماء والمعاني التي تنطق بها الكتابة التدمرية الآرامية. فإنها تفاجئك بمدى عمق الجذور لشجرة وجودنا العربي : سلمى، ونبيل، ومالك، ومبارك، وشمعة، ووائل، وعامر، وبحرة.. وسلام الله!!

بئر الأماني

من قلعة حمص بدأت، وإلى قلعة حمص أعود، دون أن أنتهي.. فحمص المحافظة التي تعادل مساحتها أربعة أمثال مساحة لبنان أوخمسة أمثال مساحة قبرص، كنت كلما مضيت فيها تتسع، بينما الصفحات تضيق. إذن إلى القلعة أعود، وعلى سطحها المنبسط العالي أتلمس الحلم الذي حكى عنه رئيس مجلس المدينة، والمتمثل في إحياء المكان بأفق جمالي سياحي معاصر، وترميم خزان المياه واستعماله لمسرة العيون وفائدة إرواء الأماكن المجاورة. فهل هذا الخزان ضخم الاستطالة عميق الغور هو"جب النبات" الذي كانت تنبت فيه الأماني في احتفالات خميس النبات القديمة، حيث كان المكان يغص بالزائرين وتتزاحم كثرتهم حول البئر، يلقي كل منهم بحجر إلى قاعه وهويتمنى، فإن كان لصوت ارتطامه بالقاع رنين، فأبشر! لقد كانت البئر القديمة عند الطرف الشرقي، بينما هذه البئر تتوسط سطح القلعة. لكن لابأس، فلألق بالحجر وأتمنى..تمنيت لنفسي ما تمنيت، وتمنيت لولدي اللذين ولدا في هذه المدينة أفضل ما يتمناه أب لأولاده، وتميت لسوريا الغالية أعز ما أتمناه لبلدي مصر وبلاد العرب جميعا . وتمنيت من حمص أن تقبل الاعتذار! فقد رأيت فيها الكثير، والمتاح من الكتابة قليل. فلم تبق غير الإشارات.. لبهاء وادي الرستن، ووادي النضارة الساحرة جباله الخضراء وقراه المتعاقبة سلاما على المدارج المزهرة، و"نبع الفوار" الذي يهدر قبل أن يفيض فيملأ جواره بالخير والمسرة، وقلعة الحصن التي تعد واحدة من أروع ماخلفته العصور الوسطى من الحصون على قمة منطقة من أروع هبات الطبيعة، ومهرجان الألوان والعطور في زحام وتلافيف الأسواق العتيقة، وانسكاب الضوء من فتحات القبة يتخلل فورة البخار الحار في الحمام القديم، ورنين الأزاميل تسوى الصخر الأزرق وتحفر الرخام وتنقش بريق النحاس بين جنبات المنطقة الصناعية، وتجربة دخول غرفة صناعة (الامبولات) كاملة التعقيم بزي كأزياء رواد الفضاء في مصنع أدوية ابن حيان شديد النظافة والتحديث.

وصخب مياه العاصي الدافقة التي يفرح بخوضها الأولاد والبنات عند قرية جوسية، وبحيرة قطينة التي أدهشني اتساعها عندما رأيتها يوما من نافذة طائرة مرت بي فوق حمص، وهالني تكدرها عندما وقفت على حافتها بمنتزه "قطينة" أغالب ابتراد وعنف تيار الهواء فوقها، وكنيسة أم الزنار ورنين التراتيل الصافية تنبعث من قلبها عبر الأزقة العتيقة، وحنين المهاجرين إلى أقاصي الأرض والبيوت التي يعمرونها في وطنهم الأم بفتنة شجية، ومغارة القصير التي قطعنا إليها الجبل المقدودة منه الصخور البيض لتشييد سد "زيتا"، وكانت المغارة هناك في بطن الجبل، توشك أن تغلق فوهتها صخرة هائلة بحجم بيت من عدة طوابق. تسلقنا الصخرة وهبطنا إلى جوف المغارة الفسيح الملون..هواء مبترد رطيب وصواعد وهوابط عملاقة.. معزوفة متناغمة الأشكال والألوان عمرها قدره العارفون بمائة مليون عام!! مائة مليون عام يا حمص، ورحابة الأرض تغوص فيها مرافئ الزمان وتطفو. فهل تكفي من المحب الإشارة؟.. أعرف أنها لا تكفي.. لهذا لا أقول وداعا، بل أقول : إلى لقاء.

 

محمد المخزنجي 

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية  
اعلانات




صورة الغلاف





حمص.. رحابة المكان.. مرافئ الزمان





حمص.. رحابة المكان.. مرافئ الزمان





جامع خالد بن الوليد، عمارة للروح، وإعلاء لراية الجسارة المؤمنة. يسميه الحمصيون: "جامه سيدي خالد





حمص الحديثة، وريثة حمص القديمة، التي حكمت الإمبراطورية الرومانية عبر أميراتها السوريات وأسرة شمسيغرام





براعة الشام وعبقها العاطر في الأسواق القديمة.. حرير ونحاس





براعة الشام وعبقها العاطر في الأسواق القديمة.. حرير ونحاس





براعة الشام وعبقها العاطر في الأسواق القديمة.. حرير ونحاس





.. وبائع التمر هندي، وجه حمصي طيب، وكلمة حلوة: صحتين





قلعة الحصن .. حصن داخله حصن وبينهما خندق مملوء بالماء، في تلافيفها تموج أصداء عصور طولها تسعة قرون





الحصن، 750 مترا فوق سطح البحر، على واحدة من قمم وادي النضارة





مغارة القُصير. صواعد ونوازل ملونة، وقاعة طولها مائة متر، وعرضها خمسة وعشرون من الأمتار





الوادي عند نبع الفوار.. والجبال تغطيها أشجار الزيتون والبرتقال واللوز





محافظ حمص .. رؤية جمالية للحاضر والماضي





شارع المتنبي الشهير باسم الدبلان.. مركز التسوق من الملبوسات السورية الراقية رحيمة الأسعار





قوس النصر والشارع الطويل في تدمير.. من هنا حكمت زنوبيا إمبراطورية امتدت من البوسفور إلى النيل





وجه تدمري .. وجذور عربية تتبدى فى الملامح والثياب





حمص القديمة، أم الحجارة السود،بيوت من الحجر الأزرق ودروب أنيسة، ومخطط تنفيذي للحفاظ عليها