مثقف سعودي يحتفي بإبداعات فناني مصر

"متحف في كتاب" تجربة تستحق الإشادة.. مثقف سعودي يحتفي بإبداعات فناني مصر

عرض: ناصر عراق

هذا كتاب يتيح لقارئه فرصة التأمل والاستمتاع بمختارات مدهشة من مقتنيات المثقف السعودي محمد سعيد فارسي أبدعها الفنانون التشكيليون المصريون

من الضروري لفت الانتباه إلى أن الإبداع التشكيلي المصري- على جودته وغزارته- لا يلقى الرعاية الواجبة حتى الآن، ربما بسبب شح الموارد المالية المخصصة لهذا الغرض. ولعل الأعمال المحفوظة في متحف الفن الحديث الكائن بساحة دار الأوبرا- وهو أكبر مكان مخصص لهذا الأمر من قبل الدولة- لا تتعدى أكثر من 01.% من إنتاج فناني مصر طوال القرن العشرين!! وهو رقم هزيل لا يعبر بحال عن حيوية الحركة الفنية المصرية ومدارسها وتطورها. ومما زاد الأمر سوءا، أن الرأسمالية الوطنية التي بدأت تفرض سطوتها وذوقها مع الانفتاح الاقتصادي في السبعينيات، لا تملك الحس الرفيع الذي يجعلها تقدم على تشجيع ورعاية الفنانين واقتناء إبداعاتهم، مثلما كان يفعل بعض أثرياء و "باشوات" ما قبل يوليو 1952، والذين كانوا يتفاخرون بما يقتنونه من لوحات وتحف، ولعل أشهرهم محمد محمود خليل باشا رئيس مجلس الشيوخ في الأربعينيات، والذي أوصى بأن يتحول قصره، بعد رحيله، إلى متحف يضم مقتنياته الكثيرة، شريطة أن يحمل اسمه، وهذا ما حدث فعلاً، حيث يقع هذا المتحف في الجيزة، الآن، شاهداً حيا على سعة أفق ورهافة حس بعض الأثرياء الأوائل.!

هذا المتحف المقروء

يضم هذا الكتاب الذي وصفه مؤلفه- عن حق- بالمتحف المقروء 377 عملاً فنياً، تم اختيارها من مقتنيات محمد سعيد فارسي البالغ عددها 648 عملاً، كلها من إبداع فناني مصر المحروسة الذين لمعوا في أفق الحركة التشكيلية بامتداد القرن، وكما يقول د. صبحي الشاروني: "إن العمل في هذا الكتاب/ المتحف استغرق منه عاماً ونصف العام بالتمام والكمال من أجل توفير المادة العلمية الخاصة بكل فنان وكل عمل، علاوة على صياغة هذه المادة بأسلوب رشيق وناصع يغري بالقراءة". ومن الطريف أن د. الشاروني نفسه هو من قام بعملية التصوير الفوتوغرافي لكل الأعمال التي نشرت صورها في هذا الكتاب / المتحف.

احتوى الكتاب على 397 صفحة من القطع الكبير "23 × 33 سم" بدأ بمقدمة كتبها صاحب المجموعة الفنية الدكتور مهندس محمد سعيد فارسي السعودي الجنسية والذي نال بكالوريوس العمارة والتخطيط من كلية الهندسة بالإسكندرية عام 1963.

كشفت هذه المقدمة- بحق- أن صاحبها- ليس مجرد رجل من الأغنياء مهووس بجمع الأعمال الفنية- بل مثقف واسع الاطلاع، عرف كيف يصطاد الفكرة اللامعة ويقدمها في صياغة لغوية رائعة.. عذبة.. محكمة البناء.. لا عتمة فيها ولا ارتباك. خذ عندك مثلاً ما يقوله عن نشأته الأولى في مكة المكرمة: "كان بيتنا القديم في "المسفلة" إلى جانب مسجد سيدنا حمزة، وفي حوش "باجابر" كان ملعبنا بين الشقادف "هوادج الجمال".. نتقافز فوقها، أو نتقافز بالكرة الشراب فيما بينها".

ثم يتحدث عن المناخ العام للحياة في مكة قبل أكثر من نصف قرن قائلاً: "تبدأ السيمفونية بالحركة الأولى يسيرة هينة مع نداء الفجر، وترتفع حدة الإيقاع وسرعته مع آذان الظهر، ومن بعد آذان العصر وإلى المغرب، يميل الإيقاع إلى البطء والهدوء، حتى يكون لحن الختام بأذان العشاء، فيهدأ كل شيء، ويخلد إلى الراحة والسكينة، كانت البساطة هي حياتنا في مكة المكرمة، قمة التكنولوجيا هي معصرة "باحارث" التي نقف أمامها مشدوهين، ونحن نرى السمسم يتحول إلى زيت". أما المدهش حقا فهو رأيه في الفنون وأثرها على تنمية الذوق والشعور بالجمال اقرأ معي ما كتبه عن العناصر الأساسية المكونة للفن التشكيلي: "فالخط هو إطار العمل بالكامل، قد تفوق أهميته المادة نفسها، وبه يكون التأثير الأول على المتفرج.. يثير فيه البهجة أو الإحساس بالسمو كما في خطوط المعابد المصرية القديمة، وكما في ناطحات السحاب حديثاً، وقد يثير الإحساس بالحركة والحيوية كما في تصوير الفارس والفرس "الحصان" ، ولذلك، فالخط هو بصمة الفنان فوق عمله الفني. أما النور والظل، أو تجانس الألوان وتضادها فهي الترجمة الجمالية والعاطفية والنفسية لحالة الفنان أثناء التنفيذ، فالظلال والألوان هي حروف كلمات نابضة بدفق القلب والعقل.. ولمظهر العمل الفني وملمسه تأثير مهم، وإن كان ثانوياً، فإن به تمام العمل، فالرخام ناعم الملمس، والزجاج شفاف، والحديد حاد، والبرونز قاتم، ويبقى في النهاية التكوين الذي هو التزاوج الناجح لجميع عناصر الجمال: الخط واللون والنور والملمس مع الوسط الذي يضم العمل الفني والمشاهد معاً".

رائد نسيه المؤرخون

من أبرز مفاجآت هذا الكتاب/ المتحف، اكتشاف رائد من رواد الفن المصري نسيه المؤرخون الذين استقروا على أن الحركة التشكيلية في مصر روادها ستة هم محمود مختار "1891: 1934" أحمد صبري "1955:1889"، محمد ناجي "1888 : 1956"، يوسف كامل "1891 : 1971" راغب عياد "1892 :1982" ومحمود سعيد "1897 : 1964". هذا الرائد المنسي هو "جولا بالنت" الرسام الذي ولد عام 1884 بمدينة "آراد" بالمجر وتوفي عام 1956 بالمجر أيضاً، لكنه عاش في الإسكندرية فيما بين الحربين العالميتين من عام 1926 حتى عام 1984، وكان صاحب سمعة ناصعة في الرسم بألوان الباستيل، وقد اتخذ له مرسماً في شارع "ديانة" خلف وابور النور بالثغر، وتتلمذ على "يديه هواة الفن من أهل الإسكندرية، ومن بينهم الأخوان سيف وأدهم وانلي، اقتنى محمد سعيد فارسي عشر لوحات كاملة من إبداعات هذا الفنان، وكلها تدور حول البورتريه والمناظر الخلوية، وتكشف لوحاته التي تناول فيها الوجوه الشخصية عن براعة مذهلة في اصطياد الملامح وتجسيدها على السطح، مثل لوحة "بورتريه لسيدة"، التي جاءت مكتملة العناصر، بها طيف قوي من منطق فناني عصر النهضة عند تناولهم لفن البورتريه، حيث التزم "جولا بالنت" بسلامة وانضباط النسب التشريحية للوجه الإنساني، مع ميل واضح للاحتفاء بنساء الطبقة الأرستقراطية، من خلال البشرة العفية الناعمة التي تدل على موفور الصحة، وحركة تصفيف الشعر المنسابة بحرية.

وكما فعل فنانو عصر النهضة العظام أمثال "دافنشي، ورافائيل" قام الفنان بتعتيم الخلفية، ومنح صفحة الوجه أكبر كمية من الضوء، مما ساهم في خلق حوار خلاب بين الظل والنور أمتع عين المتلقي، خاصة أن الدرجات اللونية جاءت هامسة، لا تصدم الرؤية. والطريف أن جولا بالنت كان يطلق على نفسه في الإعلان اسم "الفنان المصري"!

الإبحار في البيئة

تثبت المجموعة الفنية التي اقتناها المهندس السعودي، انحيازه الصريح لكل ما هو أصيل وجميل في الحركة التشكيلية المصرية، بغض النظر عن الأسلوب أو المدرسة التي اتبعها هذا الفنان أو ذاك. فمن "جولا بالنت" الذي هام في فضاءات المناظر الخلوية الناعمة، وسحر النساء الحالمات، إلى محمود سعيد الغارق حتى النخاع في طين الأرض، يفتش عن بريق الجمال في فوضى الواقع، وسعي البسطاء للرزق، محاولا بهمة ونشاط- دون لحظة كلل واحدة- أن يؤسس لمدرسة مصرية في فن التصوير الزيتي.

ولد محمود سعيد عام 1897 بالإسكندرية، في أسرة بالغة الثراء، حيث شغل والده منصب "ناظر النظار" أي رئيس الوزراء ، وحصل على ليسانس الحقوق عام 1919، لكنه درس الفن في مراسم الفنانين الأجانب الذين كانوا يقطنون الإسكندرية وأهمهم الإيطالي "زانيير" في الفترة من 1916: 1918 م. ثم سافر محمود سعيد إلى باريس ليلتحق بالمرسم الحر في أكاديمية "جراند شوميير" عام 1920 م، بعد ذلك بعام واحد عاد إلى مصر ليعين في النيابة العامة، ويتدرج في سلك القضاء حتى عام 1947، حيث قدم استقالته وتفرغ تماما للفن. وقد أقام العديد من المعارض داخل وخارج الوطن، ونال أرفع الجوائز من قبل الدولة. لذا لا عجب ولا غرابة أن يقبل المهندس محمد سعيد فارسي على اقتناء 12 عملاً دفعة واحدة من لوحات هذا الفنان الرائد.

تعالوا أقل لكم كيف استطاع محمود سعيد أن يقتنص جوهر البساطة في الواقع المصري، ويجسدها في لوحات عامرة بالعذوبة وعنفوان التغيير الحر.

خذ عندك مثلاً لوحة "المقرئ في السرادق" 43 × 28 سم حيث نتابع معا هذا الخشوع الذي يعتري الرجال أثناء استماعهم لتلاوة القرآن الكريم من خلال انخفاض الرءوس إجلالاً للكلام الإلهي ولحرمة الموت! لم يشغل محمود سعيد باله- ولا بالنا- برسم تفاصيل ملامح الوجوه، واكتفى بلمسات فرشاة جريئة وسريعة، تلخص في رشاقة ماكرة المناخ النفسي العام لهذه الوجوه، حتى لا تحرق عين المتلقي عن متابعة المشهد الحزين ككل!

ولنتأمل أيضا تحقيق التوازن البديع بين غاية الخطوط الرأسية والأفقية والمنحنية، "فالكنبة" التي يجلس عليها المقرئ مزدانة بقوائم رأسية من الخشب على شكل الخرط العربي، بينما زينت الخلفية بخطوط أفقية ومقوسة.. باختصار.. هذه لوحة كاملة الأوصاف، متينة البناء، يفوح منها أريج البيئة المصرية.

حصان من نفايات الحديد!

لم ينس المهندس محمد سعيد فارسي نصيبه من النحت، ذلك الفن المظلوم والمحروم من نعمة إقبال الناس عليه واقتنائه!

ومن أسف، أن المسئولين عن تخطيط المدن والميادين في مصر المحروسة، لا يلتفتون كثيراً إلى ضرورة أن تنال الأعمال النحتية الصرحية حظها في أن تكون موجودة ضمن التصميم العام للميدان أو الحدائق الواسعة، حتى يزداد رونقاً وجمالاً، ومن ثم يتعود الجمهور العريض على استقبال وتذوق الأعمال النحتية.

ما علينا، لقد أقبل صاحب المجموعة الفنية على اقتناء الكثير من المنحوتات التي أبدعها فنانو مصر على مدى تسعين عاما تقريباً، من أول محمود مختار رائد فن النحت الحديث، مروراً بمحمود موسى "1913"، وعبد البديع عبد الحي "1916"، وجمال السجيني "1917 : 1977" آدم حنين "1929" وحليم يعقوب "1937"، حتى صلاح عبدالكريم "1925: 1988" الذي أطاح بالمفاهيم الرتيبة والراسخة لفن النحت، وتحرر من "تقديس" الخامات الشائعة التي يتعامل معها الفنانون مثل الحجر والخشب والرخام، وسأشرح حالاً كيف أطاح، ومتى تحرر!

من المعلوم، استقرار الرأي على أن فن النحت، هو ما يقوم به الفنان من تهذيب كتلة حجر أو قطعة خشب أو رخام، من خلال عملية حذف دقيقة من هذه الكتلة أو تلك القطعة التي يتعامل معها، حتى يستوي شكل ما له معنى جمالي. لكن صلاح عبد الكريم أبدع أعمالاً "نحتية" قوامها التجميع واللصق، لا الحذف والتهذيب!! وتحديداً انحاز الفنان الراحل نحو عمل تماثيل عن طريق تجميع نفايات الحديد وبقايا "الخردة" ولصقها بواسطة لحام الأوكسجين!

وكان تمثاله الذي شارك به في مسابقة "العلم" التي نظمتها الدولة عام 1962 م، هو أول عمل يستخدم فيه هذا الأسلوب، حيث عرض تمثالاً عبارة عن رجل يرفع شعار الذرة، لكن لجنة التحكيم رفضته بحجة أنه يخاصم التقاليد الراسخة لفن النحت!!

في حوزة محمد سعيد فارسي عمل واحد لصلاح عبد الكريم هو الحصان "ارتفاعه 213 سم، طوله 235 سم" ، الذي أبدعه الفنان عام 1971 م، من الحديد "الخردة" وبقايا الموتوسيكلات!!

وقد ظل هذا التمثال مقاماً في حديقة الأكاديمية المصرية للفنون الجميلة في روما منذ إنجازه، حتى انتقل إلى مجموعة المهندس فارسي عام 1997.

الكنوز المشرقة

يبقى أن نشير إلى أن مجموعة محمد سعيد فارسي تحوي خمسة كنوز مشرقة من إبداعات فناني مصر، لم يجتمع مثلها من حيث العدد والمستوى الفني الرفيع في أي مجموعة أخرى، بما في ذلك مجموعة متحف الفن المصري الحديث!

أولها كنز محمود سعيد "فات عليك ما تيسر منه" ثم إبداعات الأخوين سيف وانلي "1906 : 1979" وأدهم وانلي "1908: 1959"، وتزيد لوحاتهما عن مائة تمثل كل مداخلهما الفنية، ثم كنز عبد الهادي الجزار "1925 : 1966" ويبلغ 65 لوحة، فضلاً عن كنز حامد ندا "1924: 1990" الذي يضم 32 لوحة من أروع إنجازاته، وأخيراً كنز كامل مصطفى "1917: 1982" البالغ 24 لوحة.

هذا كتاب نادر استطاع أن يستوعب متحفاً كاملاً بين ضفتيه، مما منح القارئ فرصة واسعة للإبحار في فضاء الفن المصري، يصطاد منه الجواهر الثمينة، والكنوز البراقة، خاصة أن مؤلفه لم يترك كبيرة ولا صغيرة من إبداعات فناني مصر في هذا الكتاب / المتحف إلا وقد أحصاها..".

 

صبحي الشاروني

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




لوحة كاريكاتير للدكتور محمد سعيد فارسي





غلاف الكتاب





تمثال من الحديد للحصان. للفنان صلاح عبدالكريم





لوحة تمثل الصخور والتلال في أسوان





بورتريه سيدة جالسة تتأمل لوحة زيتية





تمثال سعد زغلول المقام في الأسكندرية





راعي الغنم زيتية على خشب





صورة شخصية للفنان سيف وانلي





محمد سعيد فارسي بريشة كامل مصطفى





مؤلف الكتاب د. صبحي الشاروني





حديث العائلة





رقصة الخيل لوحة للفنان راغب عياد