أمجد ناصر في روايته «حيث لا تسقط الأمطار» السرد والشعر والسيرة الذاتية

 أمجد ناصر في روايته «حيث لا تسقط الأمطار» السرد والشعر والسيرة الذاتية

يسعى أمجد ناصر في عمله «حيث لا تسقط الأمطار» (دار الآداب، بيروت، 2010) إلى كتابة رواية مجازية عن حقبة تاريخية صعد فيها الفكر القومي والفكر اليساري في العالم العربي، وأسهم مثقفو هذين التيارين في صياغة توجهات المرحلة الزمنية التي رفعت شعارات المقاومة المسلحة للصهيونية والإمبريالية والرجعية العربية.

لكن الراوي، الذي يستخدم ضمير المخاطب في سرد الحكاية، يصور هذه الحقبة من منظور الهزيمة والانهيار والأفول الذي باء به هذا المشروع، بعد خروج المقاومة الفلسطينية من بيروت عام 1982، وتوزع مثقفي اليسار على عواصم العالم بعد أن كانت بيروت موئلا لهم. تلك هي نقطة انطلاق حكاية الراوي العائد من بلاد سماؤها ضبابية كابية إلى بلاد لا تسقط فيها الأمطار، حاملاً بين جنبيه مرضًا عضالاً يأكل جسده، في إشارة رمزية إلى الخيبة والخذلان اللذين يشعر بهما بعد أن جرى ما جرى ومرت مياه كثيرة تحت الجسر، فانهارت الكتلة الاشتراكية ورسخت الإمبريالية العائدة حضورها بقوة انتصارها. ومن هنا فإن عودة «يونس الخطاط» إلى اسمه ومسقط رأسه ليست عودة إلى الفردوس الأمومي المفقود بل لجوء إلى ماض أصبح حطاما؛ إلى خواء التجربة وهزيمة الذات والجماعة وافتقاد المعنى، حيث لا ينتظره سوى موت الأم والأب، وزواج الحبيبة الأولى، وموت الصديق الحميم، وضياع الاسم الذي يربطه بالمكان الأمومي ومسقط الرأس الذي شهد خطوته الأولى ونضجه السياسي والثقافي واحتضانه مشروع التغيير والثورة على السلطة. لكن هذه العودة، غير المظفرة، تقترن بانهيار أرض المنفى تحت قدمي الراوي، وانتشار مرض غريب معدٍ، مجازي على الأغلب يدل على فعل الانهيار كذلك، كان قد تفشى بين الناس ودفع الغريب إلى العودة مبتعدًا عن عالم الآخرين الذي ظنه مطهرًا فإذا به يتحول إلى جحيم مقيم.

تقوم رواية أمجد ناصر، انطلاقًا من تجربة الهزيمة الشاملة وتكسّر العالم قطعًا قطعًا من حول الذات الراوية، على بناء مادتها من سلسلة من الثنائيات الضدية: الذات والآخر، الوطن والغربة، الطفولة والكهولة، الحياة والموت، المدينة ذات البحر الأنيس ومدن البحار الموحشة، وأخيرا: الذات المنقسمة على نفسها اسمًا وتجربة ووجودًا، حيث يؤدي هذا الانقسام إلى ضياع الذات والهوية، ويفشل الراوي، الذي يروي حكايته لذاته الأصلية (أدهم يحكي ليونس الخطاط)، في محاولته لممارسة تجربة علاجية نفسية علّها تشفي الذات من تشظيها إلى اثنين لا يتعرّف أحدهما على الآخر.

لكن رواية «حيث لا تسقط الأمطار» ليست رواية سيكولوجية، كما قد يستشف من كلامي، فهي بالرغم من استعانتها بضمير المخاطب، وحكي الذات للذات، واستخدام الحكاية لشفاء الشخصية من الانهيار الذي أصابها، تسعى إلى الإجابة على أسئلة الحقبة التاريخية التي تكتب انطلاقًا منها، وتصوير مسيرة هزيمة جيل من المثقفين العرب الذين عايشوا حلم الثورة والتغيير والتقدم والانتصار على التخلف والاستبداد والهزيمة، فإذا بهم يواجهون الهزيمة التي تنتقل، كجرثومة مرض عضال، من الخارج إلى الداخل، من الواقع المحيط إلى الذات التي تفشل في العثور على نفسها، في الاسم أو في مسقط الرأس الذي تغير مثله مثل بقية الأمكنة. وهي انطلاقًا من هذا التصور تهتم بوصف المحيط وتسعى إلى إضفاء قدر من الواقعية على الأحداث، لكن غياب أسماء الأمكنة، والدول، وحكام الدول، والاكتفاء بالنعوت التي تصف تلك الأمكنة والشخوص (المدينة التي لا تسقط فيها الأمطار، المدينة البعيدة ذات البحار الموحشة، الحفيد..إلخ) يجعلان هذا النص السردي يقيم على الحدود الفاصلة بين الكتابة الروائية والكتابة الشعرية؛ فالشعر لا يسمي، في الوقت الذي يعنى فيه السرد بالتسمية ووصف العالم الذي يتحرك ضمنه. يستخدم الشعر لغة الاستعارة والمجاز والتورية، ويوسع قوس الدلالة، فيما يسعى السرد إلى تضييق قوس الدلالة وتحديد المعاني من خلال استخدام ألسنة متعددة تكشف عن حوار الذوات السردية مع العالم من حولها.

لعل مصدر الالتباس في رواية أمجد ناصر آت من كونه شاعرًا أولا تدرب على استخدام المجاز ولغة الاستعارة للتعبير عن رؤيته للعالم؛ ومن استخدامه ضمير المخاطب في السرد الذي يشدد على ثنائية الصوت، كما هو الأمر في الكتابة الشعرية التي تسعى إلى بث الصوت الفردي للذات الشاعرة باتجاه العالم والآخرين، وتشتق من نفسها ذاتًا ثانية تقوم بتوجيه الخطاب إليها. كما أن هذا الالتباس ينشأ من تأرجح هذا العمل بين السيرة الذاتية (أو وهم السيرة الذاتية، والتعبير المجازي عن الذات الشعرية/السردية) والكتابة الروائية التي تشدد على حوارية العالم وتعدديته. ويمكن أن نجد تشديدًا على هذا الالتباس في كلام الراوي، إذ يُفَسَّر سؤال حبيبته «رلى» عن كتابه السابق «الحامية والجسر»، بأنه «يمزج السيرة الذاتية والقناع الروائي. فأخبرتَها أن كتابَك ذاك ليس عملاً تسجيليًا، ليس سيرة فعلية، ففيه من الخيال، ربما، أكثر مما فيه من الواقع» ص217. وهذا الكلام نفسه ينطبق على نص «حيث لا تسقط الأمطار» الذي يستخدم قناع الرواية لكنه في الوقت نفسه لا يقع، على صعيد التصنيف، في دائرة السيرة الذاتية التي يضع صاحبها وصف «سيرة ذاتية» على غلافها، أو أنه يسعى في الميثاق السردي مع قارئه إلى إقناعه بأنه يكتب سيرة ذاتية غايتها تصوير ذاته، كما رآها وحاول استعادتها في الكتابة. لكن أمجد ناصر، رغم اللعب على وضعه الشخصي، هو نفسه يحمل اسمين: يحيى عوض (وهو الاسم الذي في شهادة الميلاد)، وأمجد ناصر (وهو الاسم الذي يعرفه به الأصدقاء والقراء)، وهذا حال الشخصية في الرواية: فاسمها في شهادة الميلاد «يونس الخطاط»، وفي التنظيم الثوري وفي الكتابة: أدهم جابر، الاسمان في شهادة الميلاد اسمان لنبيين، والاسمان المتبنيان متشابهان: أمجد ناصر/ أدهم جابر، والشخصية والشخص شاعران وكاتبان ومؤلفا سيرة ذاتية وكاتبا مقالات، وانتميا في مرحلة من المراحل إلى تنظيم ثوري سري ممنوع. هذه العناصر جميعها توقعنا في التباس التصنيف النوعي لهذا العمل، لكن ما يدفعنا إلى تصنيف هذا العمل في خانة الرواية هو ما يسميه فيليب لوجون في كتابه عن السيرة الذاتية «الميثاق السردي» في مقابل «الميثاق السيرـ ذاتي» حيث يقر القارئ برغبة الكاتب ويبني قراءته على أساس هذا التعاقد. ومع ذلك فإن في الإمكان إضافة كثير من الأسباب التي تجعلنا نصنف «حيث لا تسقط الأمطار» في خانة النوع الروائي: فهناك لعب روائي، وشخصيات مختلقة، وشخصيات معاد بناؤها، وحكايات خيالية، وبناء سردي يسعى إلى الإيهام لا إلى نيل ثقتنا وتصديقنا؛ وهناك أيضا انتقالات وعودات إلى الأمكنة، وتقطع في السرد وتقدم وتقهقر في الحكاية، واستخدام لتيار الوعي والأسلوب الحر غير المباشر في السرد، ما يسمُ هذا العمل بسمات الكتابة الروائية الحداثية.

بقي عليّ في النهاية أن أحاول التعرف على طبيعة الرسالة التي يتبناها هذا العمل، ورؤية العالم التي يسعى إلى تضمينها في ثناياه.

نعثر في النص على ثلاثة خيوط أساسية في السرد، أظن أنها تدلنا على رؤية العالم في «حيث لا تسقط الأمطار»: الحكاية الشخصية للراوي الذي اتهم بمحاولة اغتيال الحاكم، الذي يسميه النص «الحفيد»، والحكم عليه غيابيًا بالسجن المؤبد، والحديث المتصل عن فن الخط وأنواعه وممارسيه ومعانيه الكونية، فعائلة «يونس الخطاط» عائلة خطاطين ووالده ممارس لهذا الفن ومحيط بشجونه، بالرغم من أن يونس فضّل أن يكون شاعرًا بدلاً من أن يكون خطاطًا. ويمثل الكلام عن الخط والخطاطين مناسبة بالنسبة للراوي للتشديد على رؤيته التي ترى غموض هذا العالم الذي يشبه فيما يحيط به من حجب وأستار تلك الخطوط التي يفشل يونس في فك ألغازها. من جهة أخرى فإن الراوي يعد الخط والتصوف، وهما مهنة والده وعقيدته على التوالي، وجهين لعملة واحدة؛ في الخط نعثر على غموض العالم والكشف عن معضلته في الآن نفسه، كما أن التصوف (وأشعار السهروردي القتيل مثال توضيحي لذلك) تجربة تنوس بين الغموض والكشف، بين اليأس وانفراج الغُمّة، بين مأساة الكائن ومعراجه الروحي، بين بشرية الإنسان وسموه باتجاه الألوهية، بين جهنم الإنسان وجنته المركوزة داخله. ولعل هذا هو ما يفسر تركيز الراوي على الحديث عن أسرار الخط، وديوان السهروردي الذي يقول إن والده كان يعمل على جمعه وتحقيقه وكتابته بخطه البديع، ناسجًا صلة وصل بين حكايته الشخصية وعودته من الشمال باتجاه الجنوب لتحقيق نوع من التوازن النفسي ـ الروحي في نهاية الرحلة التي تقوده إلى المقبرة زائرًا قبري والديه اللذين توفيا أثناء غيابه الطويل الطويل.

ومع هذا فلا بصيص أمل في هذا النص، لا شفاء من التجربة المرة، سوى في الرحلة إلى الداخل، إلى الذات المخبوءة، في رحلة الطيور الثلاثين إلى «جبل قاف» (ولنلاحظ أن اسم الجبل يرجّع صدى حرف من الحروف التي تتصل بمهنة الأب وفنه، كما تتصل بالتجربة الصوفية التي تشدد على المعنى الصوفي للحرف) سعيا لرؤية ملك الطيور الذي يدعى طائر السيمرغ. إنه «قريب منا. ونحن منه بعيدون.» وعندما تصل الطيور إلى «جبل قاف» وتنظر نحو طائر السيمرغ تتبين أنها هي طائر السيمرغ». (ص: 261). إنها رحلة في اتجاه الداخل، إلى كشف أعماق الذات، والعثور على بلسم لشفاء الجراح، التي لا شفاء منها، كما يشدد أمجد ناصر في «حيث لاتسقط الأمطار».
------------------------------------
* كاتب من الأردن.

 

فخري صالح