حسين أحمد أمين وخالد عمر بن ققة

حسين أحمد أمين وخالد عمر بن ققة

  • أؤمن بالتعايش وأدعو إليه
  • كلمة "استنارة" تقبل للتمييز بين فريقين أحدهما يؤمن بالاجتهاد والثاني يرفضه

منذ أن نشر كتابه "دليل المسلم الحزين"، اعتبر علامة مميزة في حياتنا الثقافية، فقد فاز كتابه ذاك بأحسن كتاب في معرض القاهرة الدولي في سنة 1984، وترجم إلى الفرنسية، وتوالت بعد ذلك كتاباته في المجلات والصحف، ونشر العديد من الكتب التي ركزت أساسا على تناول قضايا جوهرية منها "حول الدعوة إلى تطبيق الشريعة الإسلامية"، "الإسلام في عالم متغير"، الموقف الحضاري من النزعات الدينية"، "في بيت أحمد أمين" وعشرات من الكتب الأخرى.

ومن الطبيعي أن يظهر المفكر "حسين أحمد أمين" بهذا التميز، فقد بدأ الكتابة وسنه سبع سنوات، ولم ينشر مقالاته إلا عندما بلغ الرابعة والأربعين، ونشر كتابه الأولى سابق الذكر في سن الحادية والخمسين، وهو من مواليد 1932 بالقاهرة، ونجل المفكر الإسلامي الكبير الدكتور أحمد أمين، وتخرج في كلية الحقوق جامعة القاهرة عام 1953، وعمل محاميا، فمذيعا في " الإذاعة المصرية، والتحق بعد ذلك بالقسم العربي بهيئة الإذاعة البريطانية في لندن، ثم التحق بوزارة الخارجية المصرية عام 1957.. وبذلك انخرط في العمل الدبلوماسي حيث عمل في كندا والاتحاد السوفييتي ونيجيريا وألمانيا الاتحادية والبرازيل ثم سفيرا لمصر في الجزائر، وقد أحيل إلى التقاعد عند بلوغه الستين عام 1992.. وهو الآن كاتب متفرغ.

فتجربته الحياتية السابقة والتي قضى أكثر من نصفها في العمل الدبلوماسي زودته بزاد لغوي وثقافي واجتماعي، ساهم في بلورة معظم آرائه وكتاباته المتميزة، والتي ما فتئت تثير جدلا ونقاشا واسعا لطالما أزهاه وأرضاه، وبقدر حبه للكتابة أحب العمل الدبلوماسي.

وفي هذا اللقاء الذي يعود به إلى انطلاقته الأولى التي كانت في مجلة "العربي" يطرح سبل حوار الأمة المستقبلي مع فئاتها وجماعاتها المختلفة، ويرجع التطرف إلى المظالم الاجتماعية، ويراهن على جيل الشباب، ويتحدث عن اتجاه الثقافة العربية وعن تقييمه للشعر العربي القديم والمعاصر. وهذا الحوار يثير كثيرا من القضايا ذات الاهتمام الفكري والسياسي على صعيدي التنظير والممارسة لمفكر ينتمي إلى بيئة ثقافية دينية، حاملا هـموم أمته، ومواجها لردود أفعال الآخرين، معايشا للتراث والمعاصرة في آن واحد.. والحوار معه هو محاولة للاستفادة من تجربة دبلوماسية وفكرية ذات عمق متشبعة بالثقافة العالمية، دون الانبهار بثقافة الغرب، ومتمسكة بقوة بتراث الأقدمين مغربلة له باستعمال العقل، ومختارة لما يمكن أن يثري الحاضر.

يحاوره خالد عمر بن ققه، الكاتب والصحفي الجزائري المهتم بقضايا الأمة العربية، الثقافية منها والسياسية على الخصوص، وصاحب مؤلفات منها: "الإسلام وحضارة الانتحار"، " الجهاد والثورة"، "فصول من قصة الدم في الجزائر"، "اغتيال بومدين.. الوهم والحقيقة"، "إيران الحرب والنساء" ناهيك عن المقالات الكثيرة المتنوعة المنشورة في العديد من المجلات والصحف العربية.

  • بدأتم حياتكم العملية محاميا، فمذيعا في هيئة الإذاعة البريطانية لمدة سنتين، وبعدها عملتم لمدة خمس وثلاثين سنة في المجال الدبلوماسي، لذلك جاءت كتاباتكم متأخرة، فهل أنتم نادمون على ما فات من حياتكم في الأعمال السابقة؟ وماذا استفدتم من العمل الدبلوماسي- تحديدًا- على مستوى التنظير والممارسة؟

- بداية أقول: إنني أثناء عملي في السلك الدبلوماسي المصري، كنت أكتب بانتظام في الصحف والمجلات، ولي أكثر من كتاب ظهر قبل اعتزالي العمل الدبلوماسي، ولكنك محق في قولك إن عملي في الدبلوماسية استغرق جانبًا من طاقتي كان يمكن أن ينصرف إلى التأليف. لكنني على أي حال لست نادمًا على عملي لسنوات طويلة في السلك الدبلوماسي، لأنه أتاح لي فرصة الاطلاع على حضارات متنوعة وثقافات متباينة، ووسع- بلا شك- من أفقي ومفاهيمي، وجعلني أكثر تقبلا لآراء الآخرين ولمعتقداتهم وتقاليدهم، وهذا بطبيعة الحال يخدم الفكر. والمثل العربي القديم يقول: " من لم يعرف غير بلده لم يعرف بلده، ومن لم يعرف غير دينه لم يعرف دينه، ومن لم يعرف غير لغته لم يعرف لغته"، فأنا عندي الآن ست لغات أجنبية وزرت في حياتي أكثر من أربعين دولة، وتعرفت على شعوب أوربية وأمريكية وإفريقية وآسيوية.. وغير ذلك. ولا شك في أن هذا الاطلاع على الآخر، كان له فضل كبير على ما أكتب.

  • لقد أخذ العمل الدبلوماسي فترة كبيرة من حياتكم، فهل لو كان لديكم مال لتفرغتم للكتابة وتركتم العمل الدبلوماسي؟

- إن كنت تقصد أنني لم ألتحق بالعمل الدبلوماسي إلا من أجل تغطية نفقات معيشتي، فالإجابة تكون بـ "لا"، لأن والدي ترك لنا ثروة لا بأس بها، كانت تكفي لو أنني اخترت التفرغ للكتابة حتى دون مقابل. لكنني حقيقة أحببت العمل الدبلوماسي، وظللت فيه حتى أحلت إلى التقاعد في سن الستين، ولكني أيضا وفي نفس الوقت، لم أحزن كثيرًا حين أحلت إلى التقاعد، لأني رأيت أن الفرصة باتت سانحة مع بلوغي سن التقاعد لأن أنصرف كلية إلى الكتابة، وأخصص كل طاقاتي ووقتي للتأليف، خصوصًا الكتب التي يتطلب تأليفها تفرغًا كاملًا، وأهمها كتاب في (السيرة النبوية" سيصدر في ثلاثة مجلدات عند إتمامه بإذن الله.

  • هل يمكن اعتباركم رحالة على مستوى رسمي؟

- أعتقد أن الإجابة ب "نعم " فبوسعي أن أؤلف مجلدًا مشوقـًا عن رحلاتي، لأن خبراتي في الدول المختلفة وفي ظل أنظمة مختلفة، منها النظام الشيوعي، " إذ عملت في الاتحاد السوفييتي أكثر من أربع سنوات، ومنها النظام الليبرالي، والرأسمالي، والفاشي، وقابلت شخصيات عامة من خروشوف وبرجنيف، وكوسيجن إلى هـيلمت شميت، وكول، وكاسترو، وبن بيلا، وبومدين، ويمكن لى أن أتحدث عن هذه الشخصيات حديثا يجد فيه القارئ طرافة.

درس من صراع الأمين والمأمون

  • لقد صنفتم ضمن فريق الإسلام المستنير، فإلى أي مدى يمكن أن تكون النتائج البحثية مختلفة، مع أن المرجعية واحدة؟ وما الذي يجعل هذا الكاتب مستنيرًا والآخر ظلاميًا، مع أن كليهما يعتمد على القرآن والسنة والتراث بشكل عام؟

- هذا أمر طبيعي، إذ يمكن لفنانين أن يجتمعا أمام موضوع واحد، مثلما فعل فان جوخ وجوجان، حين جلسا أمام سيدة يرسمانها، فجاء كل منهما بصورة مختلفة تمامًا. ويمكن أيضا لأديبين أن يصفا نفس المنظر أو نفس البلد ونفس الشعب، ويأتي الوصفان مختلفين، المهم هنا في العين، لا في موضوع الرؤية. كذلك بالنسبة للإسلاميات، يمكن أن تكون المرجعية واحدة، كأن يقبل مفكران على دراسة موضوع واحد، وتكون النتائج التي يتوصل إليها كل منهما مباينة لنتائج الآخر، فالتكوين هنا هو الأهم، وكذلك طبيعة النظرة إلى المسائل والاهتمام أو التركيز على نقطة دون أخرى، ويمكن هنا أن أذكر لك كيف أني طلب منى في المدرسة الثانوية، وأنا في سن الثانية عشرة، إعداد بحث عن الصراع بين الأمين والمأمون، فكتبته، وأريته لوالدي، فسمعت منه يومهـا درسًا لم أنسه، وكان له فضل عظيم في توجيهي في تناولي للموضوعات الإسلامية. قال لي: "المصادر الوحيدة الخاصة بالصراع بين الأمين والمأمون أربعة لا غير، ابن طباطبا وهو شيعي، والطبري وهو فارسي، واليعقوبي وهو شيعي، وأبوحنيفة الدينوري وهو فارسي، فإذا كان الفرس والشيعة هـما المرجعين الوحيدين لقصة الخلاف بين الأمين والمأمون، وعرفنا أن أم المأمون كانت أمة جارية فارسية، بينما أم الأمين- زبيدة- قرشية عربية، والمأمون كانت مشاعره مع الشيعة في بداية عهده، وميالاً إلى الفرس، ومشاعر الأمين سنية، أدركنا على الفور أن هناك تحيزًا من جانب المصادر للمأمون دون الأمين، وبالتالي ، نأخذ تصوير شخصية الأمين بعين الحذر، لأن هناك تشويهاً متعمداس لصورته، وتحيزا كاملا إلى جانب المأمون، وذلك من خلال معرفتنا بالمصادر. فهذا الدرس الذي تلقيته من والدي- مبكراً- جعلني شديد الاهتمام بمسألة المصادر أو ما نسميه ب "العنعنة" وتمحيص هوية هذه المصادر قبل الاعتماد على حكمها .

  • ضربتم لنا مثلا باللوحة الفنية حيث يمكن للرؤيتين الفنيتين أن تتعايشا. لكن هل يمكن للرؤيتين الفكريتين أن تتعايشا. أم من الضروري أن تلغي إحداهما الأخرى؟

- أنا أؤمن بالتعايش، وأدعو إليه، وأعتقد أنه بوسع كل جانب أن يفيد الجانب الآخر برؤيته الخاصة، لأنه مهما بلغنا من سعة الاطلاع والعلم، لا يمكننا أن نحيط بكل شيء. فاختلاف وجهات النظر، ليس بالضرورة دليلا على خطأ جانب دون جانب آخر، وإنما يعني أن هذا المفكر قد التفت إلى جوانب لم يلتفت إليها المفكر الآخر، وبالتالي يمكن أن يكمل بعضنا بعضًا، ويوسع من مفاهيمه ومدركاته، وهذا يذكرني بالقصة الشهيرة لشخصين وقف كل منهما تجاه زاوية من تمثال، وشرع كل منهما يصف التمثال وصفًا مناقضًا لوصف الآخر. كان الاثنان على حق، لأن كلا منهما تناول الموضوع من زاوية خاصة. أو مثل قصة العميان الذين أدخلوا كل فيل، ولمسه كل منهم من جهة، فصوره تصويرًا مختلفًا.

  • هل من الضروري أن يقابل كلمة استنارة- في مجال الفكر- كلمة ظلامية؟ وهل يصح إطلاق كلمة ظلامي على الفكر؟

كان الأستاذ "محمود شاكر، رحمه الله، يقول: " أنا لا أفهم إطلاق صفة المستنير على بعض الكتاب في الإسلام، فهل هناك إسلام مستنير وإسلام ظلامي؟ أم أن الإسلام كله نور، ومن لم يستنر به فهو غير مسلم"، وهذا قول صحيح، إنما يمكننا أن نقبله للتمييز بين مفكرين يؤمنون بحق المسلم في الاجتهاد، وإعمال الفكر في القضايا الإسلامية، ويعتقدون أن السلف رجال ونحن رجال، وحقنا مثل حقهم في التصدي لقضايا إسلامية، وبين مفكرين آخرين يؤمنون بتقليد السلف وعدم الخروج عن أقوالهـم، ويعتقدون أن جميع القضايا قد حسمت وبتت من قرون خلت، وليس من حقنا أن نعيد النظر فيها.

المظالم وتسييس الدين

  • هل ترون معنا أن هناك الآن سحبًا للإسلام من المجال الثقافي والمعرفي لصالح المجال السياسي؟ حيث إن النقاش يدور حول الإسلام كجماعات وأحزاب وتنظيمات. ولم يتناول كمرجعية تمثل مقولات فكرية ونظرية إلا قليلًا؟

منذ وفاة النبي صلى الله عليه وسلم. كثيرًا ما اتخذ الإسلام قناعًا لأغراض سياسية ودنيوية محضة، فقد كان معظم- إن لم يكن كل- أصحاب الجماعات المكونة من أناس لهم مظالم سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية يصوغون مذهبهم صياغة دينية، وكانت كل فرقة أو جماعة تنعت الأخرى بالكفر والمروق عن الدين، وتعتقد أنها هي فقط المتعلقة بأهداب الدين الصحيح. وظل هذا الحال إلى اليوم، وأعتقد أن معظم أفراد جماعات الإسلام السياسي اليوم من الذين يعانون من مظالم معينة صحيحة أو متوهمة يقودهم أناس يستغلون هذا التعطش لدى أتباعهم إلى إزالة المظالم من أجل الوصول إلى السلطة التي هي الهدف الوحيد لهم، وليس الدين.

  • لكن مع هذا ستظل الإشكالية قائمة، فمن ناحية يحرك العمل السياسي من لا يفقه في الدين. ومن الناحية الأخرى فإن الباحث الجاد الواعي الذي يتحرك على أرضية الدين مرفوض من الآخرين. وباختصار لا يوجد لقاء بين ما هو فكري- في الإسلام- وبين ما هو سياسي. فما الحل يا ترى؟

أعتقد أن الحوار مع الجماعات الإسلامية التي تحركها مطامح سياسية محضة، وأيضا مع الأفراد إلى حد كبير، لا جدوى منه، لأن التحاور لا يكون مجديًا إلا حين يكون الطرفان شديدي الرغبة في التوصل إلى معرفة الحق، ويقولان بكل إخلاص مع الإمام الشافعي:" ما حاورت أحدًا وتمنيت قط أن يخطئ ، ولا باليت أن يبين الله الحق على لساني أو على لسانه " ، في هذه الحالة فقط يكون الحوار مجديًا، ونتساءل: كيف يكون الحوار مجديًا مع شخص يحاول استغلال الدين لتحقيق مآرب سياسية؟ كذلك فإن الحوار غير مجد مع أفراد يريحون بالهم وضميرهم حين يؤمنون بفكر بعينه أو رأي ما دون غيره، لأنه يتفق مع تكوينهم النفسي.

و"فرويد" له قول مشهور محتواه: "إن الرأي هو ما يعتقده المرء في سبيل إراحة ذاته " ، ففي حالة كهذه يصبح من المستحيل على الشخص أن يقتنع برأي مخالف وأن يتبناه، ناهيك عن أن كثيرا من أفراد الجماعات الدينية الذين إن حاورهم المرء، ولم يجدوا إجابة على حجج الخصم يقولون: إنهم لم يدرسوا هذه النقطة بالذات دراسة وافية، وإن شيخهم أو إمامهم أو أميرهم لاشك قادر على أن يتصدى لحجج كهذه بالتفنيد.

  • هل يعني هذا تعذر إقامة مشاريع ثقافية لمواجهة الفكر المتطرف؟

يمكن إقامة مشاريع ثقافية لكن ليس مع المتطرفين، وإنما مع الشباب الذي لم يكون لنفسه رأيا قاطعًا بعد، يمكن أن نسهم إسهاما قيمًا في تشكيل مفاهيم الشباب عن الدين، وتوضيح الأمور لهم، وتحصينهم من الوقوع في فخ المتطرفين، فهذا هو المجال الوحيد المجدي العمل فيه.

  • " أحس هنا أنكم تتحدثون بيأس عن الذين تبنوا فكرًا متطرفًا، فهل عدم الحوار معهم مسألة منتهـية؟

أعتقد أن التصدي للجماعات المتطرفة لن يكون عن طريق الحوار، إنما يكون بإزالة المظالم التي دفعتهم إلى التطرف، والتي منها: المظالم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، والعمل على إصلاح الأمور داخل البلاد وإعادة بناء كيان الدولة على جميع مستوياته، وتحسين الظروف المعيشية، والقضاء على الفساد، والحد من بذخ الإنفاق من جانب الأغنياء، فهذه المعالجة كفيلة بالحد من انتشار التطرف بين الشباب، وأعتقد أن مجرد زيارة لأحياء فقيرة عشوائية في القاهرة، ثم زيارة القصور الفاخرة التي تقوم في القرى السياحية في الساحل الشمالي لمصر، كفيلة بأن تجعلنا ندرك جذور التطرف الديني لدى الشباب.

ضرورة الجمع بين التراث والمعاصرة .

  • ننتقل إلى موضوع التراث.. ألا ترون أن استحضاره في حياتنا المعاصرة، يعطلنا عن معايشة حياتنا الحالية نفسها؟

إطلاقًا، فالشخص هو امتداد الماضي إلى المستقبل، ولا يمكن لشخص أن يأتي بعمل ذي قيمة أو يعيش حياة صحية دون أن يتصل بماضيه ويستوعبه ويصله بما يريد أن يحققه في المستقبل، والحالة الوحيدة التي يشكل فيها التراث عائقًا عن المعاصرة هي حين نقبله دون مناقشة أو دون غربلة أو إعمال الفكر فيه، وأيضًا حين نقدسه بطريقة تحول دون تحكيم العقل. والمشكلة- في الواقع- خاصة بمجتمعنا الإسلامي دون المجتمعات الأخرى، فمثلًا، إذا نظرنا إلى سلسلة كتب "بنغوين" نجدها تنشر لأفلاطون كما تنشر لبرتراند راسل وجان بولي سارتر، والقارئ الغربي يمكن أن يقرأ اليوم في أرسطو وغدا في فيتجسنشتاين، دون أن يحس بأنه يتنقل من تراث إلى معاصرة، أما بالنسبة لنا، فقد أصبح مع الأسف الشديد- من يقبل على كتب التراث فقط، أو كما يسميها بعض الشباب الساخر المستغرب الكتب الصفراء، وهناك من يستغرق في قراءة أحدث الكتب فقط، مهملاً لتراثه، والاثنان طبعًا على خطأ، ومن الواجب الجمع بين الثقافتين، لا بحيث يتمثلها الإنسان، وتصبح مزيجا يدخل تكوينه، والمؤسف أيضًا أن اللغة العربية وهي في تدهور ملحوظ عند أفراد الجيل الجديد جعلت من المتعذر على المتخرج من مدارسنا في الوقت الحاضر أن ينظر في كتب مثل: كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهـاني، أو مقدمة ابن خلدون، ورسائل الجاحظ، وغيرها من الكتب العظيمة التي كان ينبغي أن تدخل في تكوين الجميع. ومن ناحية أخرى، نجد أن معظم المقبلين على القراءة في التراث وحده جاهلون باللغات الأجنبية التي تتيح لهم النظر فيما يخرج به فكر الحضارات الأخرى في زماننا هذا. فالعنب إذن حصرم بالنسبة للاثنين، وهو ناتج عن عجز أكثر منه عن موقف عقلي. وما أصنعه أنا الآن، هو أني أقرأ في الصباح مثلًا الإمتاع والمؤانسة لأبي حيان التوحيدي، وفي المساء: آخر مسرحية لداريوفو، أو بيترفايس، دون أن أحس أني قد انتقلت من التراث إلى المعاصرة أو من كتب مصريين وعرب إلى مؤلفين غربيين، وهذا الموقف ورثته من والدي الذي كان يفعل نفس الشيء .

  • لكن هناك صعوبة في الإلمام بكل ما يطرح على الساحة الفكرية والأدبية خصوصًا بعد تعدد وسائل الاتصال وتنوعها؟

طبعًا، الإلمام بكل ما يطرح يتعذر على أي قارئ، من هنا تكون ضرورة الغربلة، أي الاختيار الدقيق لما نقرأه، وهذا هو السبب في طرحي في مقال نشرته مجلة "العربي"- منذ بضعة أشهر فكرة مشروع لنشر أهم مائة كتاب في التراث العربي من الجاهلية حتى عهد الجبرتي، وقد كنت أقصد الشباب بالذات، أي أن تكون هذه المكتبة في كل بيت، وأن تختصر بعض الكتب الكبيرة، التي نجد فيها الكثير من الغث فمثلا، كتاب الأغاني، وهو من أربعة وعشرين مجلدًا، لا أظن أن أي شاب في زماننا هذا يمكنه أن يحيط كل هذه المجلدات، لذلك يمكن اختصارها في مجلدين فقط مع الاحتفاظ بكتب معينة بحالها مثل (مقدمة ابن خلدون" أو"حي بن يقظان " لأبي طفيل، أو"طوق الحمامة" لابن حزم.. إلخ.

  • كيف يمكن لنا الاعتماد على مناهج قديمة مع تغير الظروف الزمانية والمكانية، وحتى المعرفية والفكرية كما أشرتم في السابق إلى أسلوب والدكم في البحث، والذي سرتم عليه أيضا؟

- أعتقد أن الباحثين الغربيين يلجأون إلى نفس الشيء لكن بطريقة مختلفة، فنحن نقول: "عن فلان، عن فلان، عن فلان أنه قال"، وهم يحيلون القارئ إلى الهامش (انظر صفحة كذا من كتاب كذا"، الذي ذكر هذه المقولة، هو إذن نفس المنهج في البحث، والتحقق من مصداقية المصدر، ولكن بأسلوب مختلف.

معرفة أسباب التنزيل

  • سبق أن كتبتم سلسلة مقالات حول أسباب التنزيل، فهل معرفة الإنسان المعاصر لأسباب التنزيل ضرورية؟ وبأي الأسباب نأخذ بالنسبة للذي يدخل الإسلام حديثًا مادامت هناك آيات قد نسخت؟

- معرفة أسباب التنزيل مهمة للغاية، وتلقي الضوء على أمور يمكن أن تفيدنا فائدة عظمى في معرفة وإدراك مجال تطبيق النص، فمثلًا حين ندرك أسباب نزول آيات الحجاب، يمكننا أن نلمس سقوط العلة وتغير الظروف التي دفعت إلى ورود هذا الحكم أو ذاك، وهذا يحدد لنا مدى حريتنا في ضوء مسايرة الحكم القرآني لمقتضيات العصر. مثال آخر: الإسلام يبيح نظام الرق، ولكني أعتقد أنه ما من مسلم يمكنه الآن أن يستنكر تحرير الرقيق. كذلك فإن القرآن والسنة حسنا كثيرًا من وضع المرأة المسلمة وتجاوز المظالم التي كانت تلحقها في العصر الجاهلي. ويمكن لنا أن نتتبع الاتجاه الذي يشير إليه القرآن الكريم والسنة، ونحذو حذوهما في سبيل تحرير المرأة، ونحقق لهـا ما لم يتحقق في العصور الأولى من الإسلام، ونكون في نفس الوقت ملتزمين بالإسلام ولم نحد عن تعاليمه، حين نلتمس الهداية في إشاراته وتوكيداته إلى الطريق الواجب اتباعها. وهنا تحضرني قصة رائعة- سواء كانت صحيحة أو غير صحيحة- تروي كيف أن أبا نواس حين أراد قرض الشعر استأذن الناقد الكبير خلف الأحمر فقال له خلف: لا آذن لك حتى تحفظ مائة ألف بيت من الشعر الجاهلي، فمضى أبو نواس وغاب ثلاث سنوات، ثم جاء وقال: حفظتها، فقال له خلف، أنشدني إياه، فأنشده بعضها، وسأله: أتأذن لي الآن بقرض الشعر؟ فقال له: لا آذن لك حتى تنساها وكأنما لم تحفظهـا قط.

فمضى أبونواس وغاب حتى نسيها، ثم عاد وسأله: أتأذن لي الآن؟! فقال خلف الأحمر: قد أذنت لك، ومعنى هذا أن ما يريده خلف الأحمر من أبي نواس، هو أن يستوعب روح الشعر، ولو طبقنا نحن هذا على الإسلام، نجد أنه علينا أن نستوعب روح الإسلام، نقرأ في السيرة، والعلوم القرآنية، وعلوم السنة، والتاريخ الإسلامي، والشريعة، والأدب، وبعد أن نستوعب كل ذلك، ونحس أن الإسلام قد سرى في أنفسنا مسرى الدم في العروق، يكون لنا الحق في الاجتهاد كيفما شئنا وباطمئنان، لأننا لن نخرج عن حدوده.

مدرسة أحمد أمين

  • هل ما تطرحونه الآن هو نفس ما كان يطرحه والدكم أحمد أمين؟ وإذا كان كذلك، فهل أنتم امتداد له؟

- ليس بنفس الصياغة، وإن كانت- الروح واحدة، وبالتأكيد أنا أمثل نفس المدرسة، فالمثل يقول: التفاحة لا تقع بعيدًا عن الشجرة، لكنني لا ألصق به أي مسئولية عما أقوله اليوم، فأنا تشربت روحه وفكره، ثم مضيت في سبيلي أنشد مسايرة هذا الفكر وهذه الروح لاحتياجات عصرنا التي تغيرت عن احتياجات عصره.

  • هل يمكن أن يحدث إثراء في الأدب وبالذات الشعر لو اتجه الشعراء الشباب بإنتاجهم إلى النقاد قبل أن يتجهوا به إلى الصحف والمجلات، حيث يتم النشر بناء على العلاقات الخاصة والمحاباة؟

- كان من الممكن أن يحدث إثراء للفكر والآداب والفنون، لو أن لدينا نقدًا عالي المستوى، لكن مع الأسف، فإن حال النقد في عالمنا العربي متدن للغاية. فغالبية النقاد لا يمدحون ولا يطنطنون إلا لأصدقائهم أو ما يهدى إليهم من كتب لإرضاء هذا بغية نيل حظوة أو الحصول على منفعة، أو انتقاد ذاك لعداوات شخصية يمكن أن تبعث على نقد هادم معاد، وأعتقد أن هذا هو حال معظم النقاد عندنا اليوم، أي أنهم إما يتهارشون تهارش الحمير لأنهم أصدقاء، أو يأكل بعضهم لحم بعض، لأن بينهم عداوات شخصية. ولا أظن أن الفنان أو الكاتب يمكنه أن يستفيد كثيرًا من النقد في مثل هذه الحالة الراهنة.

  • ألا ينتج عن هذا جيل ملوث الفكر مزيف الوعي، ويستبعد الموهوبون من الحلبة؟

- هذا هو الواقع، فالجيل الجديد عنده شعار ومبدأ هو: "من تعرفه أهم مما تعرفه!"، أي أن الذين تعرفهم من أشخاص أكثر فائدة لك من الفكر الذي تعرفه، وطبعًا هذا شيء مؤلم ونحن جميعا ندرك الصعوبات التي مررنا بها في سبيل أن نجد مجالات للنشر، في حين نجد أصحاب دور النشر ورؤساء تحرير الصحف والمجلات يعطون المساحات الواسعة لأسماء كبيرة ولمشاهير الكتاب حتى لو كتبوا كتابات غثة، فلو قرأت مقالات بعض كبار الكتاب دون أن تعلم من هو كاتبها لألقيتها في سلة المهملات من دون تردد، ولكن الاسم الكبير يغري الناشرين ورؤساء التحرير، الذين لا يهمهم غير كثرة التوزيع.

  • أيعني هذا أننا نعيش في عصر النجومية؟

- هذا صحيح، وليس فقط في عالمنا العربي، بل في الغرب أيضًا، وهناك مقولة مشهورة، للسير لورانس أوليفييه يقول فيها: " في الماضي كانت هناك ممثلات يحاولن أن يكن نجمات، أما اليوم، فعندنا نجمات يحاولن أن يكن ممثلات! ". فالنجومية من العلامات المؤسفة في هذا الزمان، لأن النجومية تخدم التوزيع، وهذا كل ما ينشده منتجو الأفلام أو الناشرون أو رؤساء التحرير.

  • هل هذا يعني أنه على الكاتب أن يبحث كيف يكون نجمًا قبل البحث في كيفية أن يكون مفكرا؟

- هذا هو الواقع المؤلم، لكن الواجب أمر آخر وممكن أن يعزي الكاتب الجاد نفسه بأنه في نهاية الأمر لا يصح إلا الصحيح، يعني أنه لن يمكنك أن تلقي بورقة خفيفة مسافة طويلة. وأذكر هنا قولًا مأثورًا لشوبنهار يقول فيه: " الشهرة معبد لا يدخله أناس إلا بعد وفاتهم، وسيتطهر من أناس كثيرين دخلوه أثناء حياتهم دون حق".

الصحافة والحركة الأدبية

  • إلى أين تتجه الثقافة العربية؟

- توجهات الثقافة العربية مؤسفة لأكثر من سبب، فالصحافة مثلًا لعبت دورًا مضرًا بالأدب، فلننظر إلى كتاب شهير مثل "الإسلام وأصول الحكم، لعلي عبد الرازق سنة 1925، لم يطبع منه إلا خمسمائة نسخة، ومع ذلك آثار ضجة كبيرة في العالم الإسلامي، والآن يمكن للكاتب أن ينشر مقالًا في صحيفة توزع مليون نسخة ويكون له ملايين القراء، لهذا أعتقد أن الصحافة تسببت في الظاهرة التالية: أن كثيرًا من الكتاب ليسوا على استعداد لأن يقضوا ثلاث أو أربع سنوات في تأليف كتاب يطبع منه ثلاثة آلاف نسخة، ويمكن ألا تباع تلك النسخ إلا في ظرف عشر سنوات، ولا يعرفه إلا عدد محدود، بينما الصحف تضمن له الانتشار الفوري والواسع، فيمكن أن يتسبب مقال جيد في شهرة فورية للكاتب، فهذا إغراء رهيب للكتاب، ناهيك عن أن هناك مجلات وصحفًا تدفع قدرًا ضخمًا من المكافآت، يمكن أن يكون الكاتب في حاجة ماسة إليها لسد احتياجاته، بينما لا يحصل من ناشر الكتب إلا على مكافأة زهيدة أو غير مضمونة. لهذا فإن كثيرًا من الناشرين يشتكون اليوم من أن الكتب التي تقدم إليهم لطباعتها هي في الغالب مجرد تجميع لمقالات نشرت في الصحف والمجلات، ولا يوجد هناك كتاب مترابط الفصول، يقضي فيه الكاتب سنوات. وهو ما أثر سلبا على الحركة الأدبية والفكرية.

افتقار الشعر العربي القديم إلي الإخلاص

  • ماذا تتذوقون من الشعر؟

- أنا أحب كثيرًا الشعر الإنجليزي، إذ أعتقد أنه أخصب من غيره، وأفضل من الشعر الفرنسي والألماني، فله جمالية خاصة في دلالته وفي اختلاف توجهاته، وثرائه الفني، أما بالنسبة للشعر العربي، فعلي أن أذكر أن والدي لم يكن إطلاقًا شغوفًا به، رغم تخصصه في الأدب العربي والحضارة الإسلامية، لأنه كان يراه فقيرًا، وغير مخلص في تعبيره. فهو في الغالب إما فخر أو هجاء أو مديح في خلفاء وولاة وسلاطين، طابعه العام الافتقار إلى الإخلاص، ومجرد صياغة أو نظم، وليس تعبيرا صادقا عن العواطف، فمعظم شعر المتنبي مثلا ورغم عظمته هو في المديح، وكل شخص يمدحه يقول له: " وكل مديح في سواك مضيع"!

ثم ينتقل من ممدوح إلى آخر. يطمع أن يوليه كافور "الفيوم" فيمدحه، وحين ينقض كافور وعده، يهجوه، ثم أسمعه يفخر بنفسه:

أنا ابن اللقاء، أنا ابن السخاء

أنا ابن الضراب، أنا ابن الطعان

أو أسمع الفرزدق يهجو جريرًا:

يا ابن المراغة أين خالك إنني

خالي حبيش ذو الفعال الأفضل

جميعهـا شعر زائف لا يمس القلب. وأنا أشفق على تلاميذ المدارس العربية عندنا حين يدرسون قصائد لأمثال الفرزدق وجرير والأخطل المليئة بالبذاءات وبالسباب، في حين أن قرينه في السن في المدارس الإنجليزية أو الألمانية يدرس بليك وكيتس، وهايني وجوته، أيضا أنا لا أفهم لماذا قضينا سنوات طويلة في المدارس ندرس أشعار الفرزدق وجرير وهذه السخافات، ولم ندرس أجمل ما في الشعر العربي مثل الروميات لأبي فراس الحمداني، أو لزوميات أبى العلاء المعري.. وغير ذلك وبالنسبة لي فأنا اعتبر الروميات التي كتبها أبوفراس وهو في أسر الروم أجمل ما في الشعر العربي، وأحسن كثيرًا مما كتبه المتنبي.

  • إذا اعتبرنا قولكم السابق ثورة على الشعر العربي القديم، فماذا عن الشعر الحر المعاصر؟

- أنا لا أرفض الشعر الحر إذا كان جيدًا، فهو قد حرر القصيدة العربية من قوالب جامدة، وإن كان من الصعب حفظ قصائد الشعر الحر عن ظهر قلب، وأنا أستمتع كثيرًا بقراءة نزار قباني وصلاح عبدالصبور، وأدونيس.. وغيرهم.

 



أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




حسين أحمد أمين





خالد عمر بن ققه





من مؤلفات حسين أحمد أمين