كيف نستشرف المستقبل العربي؟

كيف نستشرف المستقبل العربي؟

يمكن تشبيه الرؤيا الاستشرافية بالوقوف على ربوة عالية لاستطلاع آفاق المستقبل إنها نوع من الحدس التاريخي يحدد البوصلة التي نتجه على هديها.

من المهم فك الالتباس الذي يحيط باستشراف المستقبل، وبالدراسات المستقبلية، حيث تعني الدراسة المستقبلية القدرة على التحكم في المستقبل من خلال الاستعداد بمجموعة من المبادرات والخطط المتراتبة لمواجهة الاحتمالات االمختلفة، ومن ثم فالعمل المستقبلي يستهدف إحداث نقلة نوعية متمايزة بين الحاضر والمستقبل.

ويعنى استشراف المستقبل بالتعرف على آليات الحركة ومحدداتها وسبل الربط بين هذه الآليات وبعضها البعض الآخر، ويعني ذلك وضع سيناريوهات ومشاهد بديلة.

ولذا يعتبر بعض المستقبلين أن استشراف المستقبل عبارة عن تنبؤ مشروط.

كما أن مفهوم (الاستراتيجية) يتداخل مع مفهوم (الاستشراف) ويمكن الذهاب إلى أن الاستشراف يكون مضمون الدراسة المستقبلية ، في حين أن الاستراتيجية هي محور المشروع من مرحلة الاستشراف إلى مرحلة الإستراتيجية.

وبينما يسمي الفرنسيون الدراسة العلمية للمستقبل باسم استشراف Prospective فإن الإنجليز يسمونه "التنبؤ" Prognosis. .

ويفضل مستقبلي بارز مثل كورنيش Cornish استخدام مصطلح "الريادات المستقبلية " Futuristiscs بدلا من مصطلح "المستقبلية" حيث يعرف "الريادات F.Studie أو الدراسات المستقبلية،Futurism" بأنها "ميدان نشاط يعمل على تحديد التغييرات المستقبلية المحتملة" ،فالحياة الإنسان والعالم، وتحليلها وتقويمها يعني، ضمنا منهجا عقلانيا للمستقبل أكثر منه صوفيا، ولكنها تتقبل أيضا المناهج التجريبية والتصورية كمساهمات معرفية يمكن أن تكون مفيدة وصالحة، فالريادات المستقبلية هي مجموعة من النشاطات المميزة التي تنشأ عن النظرة المستقبلية.

لم يعد المستقبل رجما بالغيب، ففي العالم آلاف الباحثين المستقبليين Futurists يؤمنون بأننا نستطيع بذل الجهد لتحسين حياة البشر في عالمنا، وهذا الهدف يحققه الجهد الإنساني المبدع، حيث يعتمد في تحقيقه على قدرتنا على تفهم إمكانات المستقبل لنتجنب كوارثه، وأنه في الإمكان حضارة أرقى من أي حضارة سابقة.

ولعلنا في تتبعنا لتطورات الدراسات المستقبلية، نذكر جهود جول فيرن، و هـ. ج. ويلز، وويليام أوجبون ، وس. كولام جيلفان، ودانيال بل، وتيودر جوردن، والفين توفلر ، والروسي ج. ودوريردف، والفرنسي جاستون برجيه ، وجان نوارتيته وغيرهم.

كما نذكر من علمائنا العرب شيخنا المهدي المنجرة، وإسماعيل صبري عبدالله، وأنطوان زحلان، والسيد يسين، وعلي نصار، وسمير أمين، وسعد الدين إبراهيم، وإبراهيم سعد الدين، وإبراهيم العيسوي، وحامد عمار، وجميل مطر، وعلي خليفة الكواري، ومحمد عايد الجابري، وضياء الدين زاهر وغيرهم.

لقد انفجر فيضان من الكتب والدوريات في الستينيات عن أبحاث المستقبل داخل الولايات المتحدة، مرتبطة ينمو التخطيط الحربي العسكري ، وخطط الانتشار العسكري وتطوير برنامج الفضاء، أما في أوربا، فإن هدفها تغيير مؤسسات الدولة، وترسخت دراسات العلم والتكنولوجيا في المستقبل في السبعينيات وفيزياء السطح، والليزر والعلوم الحسابية التقديرية.

ومن أهم الدوريات المستقبلية "بروفيتوس" و" سياسات البحث المستقبلي " إلى جانب جهود العديد من معاهد ومراكز المستقبل وخاصة معهد المستقبل بمؤسسة راند الأمريكية وبرنامج اللجنة الأوربية للعلم والتكنولوجيا Fast.

جمعية مستقبل العالم

وعلى سبيل المثال، تعتبر "جمعية مستقبل العالم " W.F.S . من أشهر المؤسسات الدولية التي تضم عددا مرموقا من الأكاديميين ، وقد بدأ نشاطها على يد إدوارد كورنيش Cornish، وتضم عشرات الألوف في عضويتها ، وتصدر مجلة شهرية بعنوان "عالم المستقبل" وأخرى فصلية كما أصبحت مادة أو مقررا أو مشروع استشراف المستقبل Futurology مادة أساسية تدرس في مئات الكليات في العالم، وتعنى هذه الجهود جميعآ بفهـم البنى والأنساق التاريخية والتدفق المعلوماتي الهائل لتحليل درجات التنبؤ والقياس والمقارنة لمشاهد المستقبل، ويكفي أن نعرف أن الهند أنشأت معهدا للدراسات المستقبلية. ويمكننا أن نقرأ عناوين بعض المؤلفات المعنية بالمستقبل والتي صدرت منذ الستينيات ليتأكد لنا هذا الوعي بضرورة الاستعداد للمستقبل، ومحاولة توقعه، بل وتوجيهه: "العالم سنة 2000" لبروس نوسباوم، و"بناء المستقبل" للجنرال أندريه يوفر، و"المستقبلية" لإدوارد كورنيش وزملائه من أعضاء جمعية مستقبل العالم، وايردين، و "العالم 2000: العضلات العالمية ومستقبل البشرية" لأكاديمية العلوم السوفييتية، "خطوط الأفق" لجالا أتالي، ومؤلفات عالم اجتماع المستقبل الأمريكي الأشهر ألفين توفلر "صدمة المستقبل" و "الموجة الثالثة" و"تحول السلطة" "وخرائط المستقبل" وغيرها.

تعد الخبرة العربية في مجال استشراف المستقبل حديثة عهد، ويعود أحدثها إلى نهاية السبعينيات منذ "استراتيجية تطوير التربية العربية" للمنظمة العربية للتربية والعلوم والثقافة 1977 ومشروع "استشراف مستقبل الوطن العربي" الصادر عن مركز دراسات الوحدة العربية بيروت 1988، و" مشروع إيديكاس 2000" لجهاز تنظيم الأسرة والسكان في مصر بتمويل من صندوق الأمم المتحدة للأنشطة السكانية و"إيديكاس" اختصار للاسم، الكامل للمشروع وهو "استشراف النتائج الاقتصادية والديموجرافية لاستراتيجيات بديلة للتنمية في مصر حتى عام 2000 " ومشروع "المستقبلات العربية البديلة" لمنتدى العالم الثالث وجامعة الأمم المتحدة ، ويعده البعض أول مشروع بحثي متكامل حول استشراف المستقبل العربي ، وهناك أخيرا المشروع الحالي " مصر 2020"، والذي يرأسه د. إسماعيل صبري عبدالله.

وينبغي الإثسارة إلى مشروع منتدى الفكر العربي بعمان حول "مستقبل التعليم في الوطن العربي" وهو مشروع ضخم صدرت منه عدة مجلدات، ومما يزيد من صعوبة الدراسات المستقبلية مسألة التغيير، فوتيرة التغير مع الثورة المعرفية التكنولوجية، وثورة الحاسوب والاتصال تجعل التغير الشيء الثابت الوحيد في حياتنا، وهو ما يجعلنا نتجاوز "صدمة المستقبل " وتغيراته اللاحقة بتعبير توفلر إلى إدراج الذهنية العربية، والجهود البحثية العربية في سياق منظومة التفكير المستقبلي وخاصة أن البعض يطرح مشككا السؤال عن قدرة بنية الفكر العربي المعاصر على استيعاب مثل هذه المفاهيم المستقبلية. وإن كان الجابري يرى أن الماضي يمارس تأثيره في اتجاه المستقبل عندما تكون العوامل الفاعلة الحاسمة داخلية محضة، أما عندما تكون هذه العوامل خارجية مرتبطة بالآخر العالمي، فإن العوالم الداخلية والماضوية تخمد وتفقد قوتها على التأثير الحاسم في مجرى الأمور، ومن هنا ، فلا بد من التأكيد على أن المستقبل الذي يتحدد انطلاقا من معطيات الفترة الراهنة يختلف كثيرا عن المستقبل الماضى الذي كانت تحدده معطيات ما كان يشكل الحاضر بالنسبة إليه، وهذا يعني أن المحددات التي كانت تدخل في تجديد المستقبل الماضي لن يكون لها أثر في المستقبل الآتي.

العرب ودراسات المستقبل

ومع وطأة العولمة، فإن ضرورة الدراسات المستقبلية في الحقل العربي تعد بمنزلة محاولة للتمرد على الاستسلام لحتمية زائفة تحملها العولمة، وتشي بالأمل في إمكان المشاركة العربية في صنع مستقبلنا أولا ، ومستقبل العالم بدرجة أقل، ومن المهم أن نقدم رؤية عربية بديلة تستند إلى ما نسميه "ثقافة المقاومة " في مقابل رؤى غربية أحادية في "نهاية التاريخ" وبول كيندي في "الاستعداد للقرن الحادي والعشرين وصمويل هينتنجتون في "صدام الحضارات" وحيث تم تهميش العالمثالثية، ومن بينها المنطقة العربية، في صناعة المستقبل الإنساني، وحتى لا يبدو الموقف وكأنه أمر إجباري لدخول قطار العولمة "وإلا فاتنا".

نعم إن "الحاضر حامل بالمستقبل" كما يقول ليبتنز، ولكن إن تسييد رؤية تشاؤمية مبعثها حرب القبائل العربية الراهنة، أو حروب "داحس والغبراء" المعاصرة والتي تتبدى في التمزق والوهن العربي الراهن، والخضوع للهيمنة الأمريكية، والاصطفاف في طابور النظام العالمي الأمريكي الجديد يجب ألا يقف مانعا من استشراف مستقبل عربي أفضل، وطرح الحال الوحدوي كمخرج وحيد من نفق التاريخ الذي نركز فيه منذ هزيمة 1967، وهو ما يعني في الأساس أهمية امتلاكنا لإرادة التغيير والتقدم للدخول في التاريخ مجددا، نعم، إن "الوقت لم يفت بعد" كما يقول مايور ثاراجوتا المدير الحالي لليونسكو في عنوان كتاب أخير له، إلا أنه أيضا "الانتظار لم يعد ممكنا" كما يقول في الكتاب نفسه، وإن الرهان على المستقبل لم يعد ترفا إلا لأولئك الذين يرضون بمصير ساكني الكهوف وقردة الأشجار، بل "إننا إلي المستقبل نمضي، والغد هو: بالنسبة لنا الشيء الحافل بالأحداث، ففيه سيكون كل ما يتبقى من مشاعر هنا وجميع أولادنا كل ما هو عزيز علينا" كما جاء في محاضرة هـ. ج. ويلز. بالمعهد الملكي في 42 يناير سنة 1902.

إن ركون الذهنية العربية إلي الماضي، وسمتها الماضوية تقف عقبة كئودا دون ازدهار الوعي المستقبلي والدراسات المستقبلية العربية، نعم، كما يقول ويلز أيضا "إن جهلنا بالمستقبل واقتناعنا بأن ذلك الجهل لا شفاء منه أبدا هما وحدهما اللذان يمنحان الماضي تفوقه وسيطرته على أفكارنا".

وقد صاغ جورن نسيبت Naisbitt في كتابه Megatrends أو الاتجاهات الكبرى سنة 1980 المعنى السابق بقوله "أحسن طريقة لتوقع المستقبل والمشاركة فيه تتمثل في فهم الحاضر". إنها جدلية الحاضر والمستقبل مجدداً.

ترحيل الحاضر

ومع ذلك، فإن ثمة تحذيرا من فردوس الدراسات المستقبلية فإن كان المستقبل لا مهرب منه إلا أنه من الخطورة ترحيل كل شيء إلى المستقبل ، وتحويل أجندة " قضايا الحاضر الملتبسة إلى المستقبل فالشعوب التي فقدت حاضرها لا يترقب منه أن تملك المستقبل بالضرورة وخاصة في ظل العجز عن السيطرة على الحاضر أو فهـمه كأضعف الإيمان فالفقر فوق أسلاك الحاضر الشائكة إلى أرضية المستقبل المحددة عملية محفوفة بالمخاطر، وغير مأمونة من المستقبل كارثة، والهروب إلى المستقبل كارثة أشد، فإذا كان الماضي جد المستقبل، فالحاضر هو أبوه الشرعي، ولا جدوى من الرهان على الحفيد إن كفرنا بالأب ويئسنا منه ويعبر محمد حسنين هيكل عن هذا الالتباس بعبارة بليغة: "نحن لا نتوقف لفرز الماضي، ولا نسعى لقراءة الحاضر، ومن ثم فالمستقبل مجهول، إننا لا نعرف في أي طريق نندفع إليه بسرعة مذهلة" ويحذر علي نصار وهو عربي بارز في الدراسات المستقبلية من التشاؤم تجاه المستقبل انعكاسا لصورة الحاضر العربي القائمة بقوله "نحتاج إلى تجاوز التشاؤم بين مفكري الوطن العربي، والذي يتحقق بالاقتراب من تجارب دراسة المستقبل بنماذج صريحة تستكشف البدائل والآفاق وتعبر عن حقيقة الطاقات العربية، وقد لاحظنا في تجربة تحضرية لدراسة "استشراف مستقبل الوطن العربي"، إنه رغم اتفاق عينة المفكرين العرب واجتماعهم حول أهمية دراسة المستقبل، فإنهم كانوا يستبقون العمل الاستشرافي ولا يتصورون إلا تصورات قائمة للمستقبل العربي.

نعم، باغتنا القرن الحادي والعشرون بتعقيداته الهائلة المعاكسة ، وسوف يمارس سلطاته الضاغطة تجاه استلابنا بوسائل وآليات سنعجز عن استيعابها والتفاعل معها إذا لم ننعطف إلى مسار مختلف عن المسار الحالى علميا واقتصاديا وفكرياً.

ومهمة دراسات المستقبل في وعينا العربي أن تبحث عن أسلم السكك والطرق لولوج المستقبل، وامتلاك أكثر الميزات قدرة على التنافس، وتوسيع وتنويع الخيارات، أما بشرنا كما يطرحه مفهوم "التنمية البشرية" وضمان استدامة التنمية العربية.

العولمة وحالة السيولة

من اللافت أن الدراسات المستقبلية تعرضت لانتكاسة بعد تفكك الاتحاد السوفييتي، وانهيار الكتلة الاشتراكية وانتهـاء الحرب الباردة، وما ترتب عليها من أزمة في العلوم الاجتماعية نتيجة سقوط النظريات القديمة.

إن الشعور السائد في العالم بأن العالم في حالة سيولة وهلامية، وفقد اليقين، وخاصة بعد هزيمة الحتمية الماركسية، وبدا أن اليقين الديني يقدم الملاذ البديل.

وعلى المستوى العربي، فقد هزت كارثة الكويت الثقة فى صدقية الدراسات المستقبلية المتحققة وخاصة مع انسداد الطرق أمام العمل العربي في مجالات التنمية والسياسة والحريات وبات العجز العربي سمة للمشهد كله، وتوافق ذلك مع انهيار الكتلة العالمثالثية وهو ما نال مني درجة الثبات النسبي التي تعتمد عليها أي دراسة مستقبلية، وأصبحت حالة السيولة العالمية الإقليمية تعوق دقة الجهود المستقبلية العربية بل إن مشهد التفجير الديني والعرقي في العالم، وفي المنطقة بدأ يحتل الصورة كلها (البلقان- أفغانستان- الصومال- العراق- الهند / تركيا - وسط إفريقيا ...إلخ) وما تتعرض له الدولة القومية من تهديد على صعيد العلوم السياسية إلا أن العولمة بصيغتها الأمريكية تظل على صعيد العلوم السياسة من أهم تحديات الدراسات المستقبلية حيث يلاحظ جميل مطر أن الدول العربية ستشهد صراعا مكتوما أحيانا، وعلنيًّا أحيانا، أو تباين شريحتين في الجماعة البحثية: شريعة منحازة، بتنفيذ مشروع المستقبل حسب الوصفة الأمريكية ووصفة "الصبنكة" الصندوق والبنك الدولي- وكالة المعونة الأمريكية وشريحة منشغلة- برصد إخفاقات الشريحة السباقة، أو بقضايا ثانوية ماضوية في غالبها وسوف يقلل الحماس لحتمية العولمة وفضليتها من اهتمام وحماسة الباحثين في الدراسات المستقبلية" راجع تفصيل هذا المنحى في ندوة الدراسات المستقبلية العربية نحو استراتيجية "مشتركة " لمعهد البحوث والدراسات العربية.

على أن ثمة تحذيرا من غلبة كفاءة النمذجة المحررة على التنبؤ والتفسير، فإذا كان علم المستقبل يعد شكلا معقدا للضبط الاجتماعي تستخدمه النخب وصناع القرار من أجل السيطرة الإدارية، فإن إيليا حريق يتحفظ على أن نجاح التأثير الفائق للنماذج المحررة المستخدمة في دراسات المستقبل تخدم مصالح من هم في السلطة أي الذين يمتلكون القوة بالفعل ومن ثم فالذي نحتاج إليه في هذا الصدد هو علم اجتماعي يبدأ صعوده من القاع، ويمكن أن يكشف لنا أساليب الممارسة والكفاح كما يبدعها الناس في صراعاتهم اليومية ضد ظروف القهر، وأن يكشف لنا عن الطرق التي تجعل أساليب الكفاح هذه أكثر فعالية في تحويل الواقع الاجتماعي إلى واقع يشعر فيه الشخص العادي بأنه يستطيع التأثير في مسار الأحداث في المجتمع.

 

محسن خضر

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات