البصير ... خطوة متقدمة ونظرة واقعية

البصير ... خطوة متقدمة ونظرة واقعية

عبدالرزاق البصير (1919- 1999)
لقد أضاءت الكلمات ظلمة أيامه. وقادت رحلته الطويلة من تلاوة المراثي على الذين رحلوا إلى مقاومة عسف الذين بقوا. كان عبد الرزاق البصير . كدأب كل من ابتلاهم القدر بامتحان العاهة . قوي الإرادة محبا للحياة ونزاعا للتجديد والمثابرة وقد أضاف للأدب الكويتي لمسة من الغضب والرقة كان يفتقدهما. وهذا الملف الذي تقدمه العربي هو ذكرى متواضعة وفاء للراحل الكبير.

لو اعترضني، في نهاية الخمسينيات وأوائل الستينيات، سؤال يقول: من أديب الكويت الذي يملأ الصورة ويحضر إلى الذهن للوهلة الأولى؟ فستكون الإجابة حاسمة عندي: هو عبد الرزاق البصير.

وأعود إلى ذلك الزمن- عقد الخمسينيات- حيث كانت الصورة في ذهني عن حالة الأدب في الكويت غامضة، وملامح الكتاب غير مكتملة الإطار، لعله بسبب انحصار وسائل النشر التي كانت نشطة في مطلع الخمسينيات، ثم جاءها ما أسكتها، فجفت الأقلام، وانحسرت أكثر الأسماء التي كان من الممكن أن تملأ الساحة الأدبية، ولعلها كانت محبطة. ولكن وسط هذه العتمة التي لا تكاد تلمح فيها عيني شيئا، أو حتى حركة نشاط مرضية، كان ثمة نور بصير يشع من رجل يضع نظارة تداري قسوة فقدان البصر. كان هذا الأديب هو: عبدالرزاق البصير.

ولأن الذاكرة تستدعي الصور في الأذهان، والأفعال بعضها يربط بعضها الآخر، فإن الاستدعاء يشير إلى أن عصرنا يسمى عصر طه حسين، هذا الرجل الذي تعلق بأهداب التصميم وغلف إرادته بعزم الرجال الذين هم من نوع خاص، فليس غريباً، بل منطقي، أن أنسج خيط الإعجاب بالاثنين، بطه حسين الذي كنت شغوفاً بما كنت، والبصير الذي الذي أراه وأسمعه ويملأ- ويكاد يكون منفرداً- ساحة الأدب حضوراً ومشاركة واندفاعاً، إنها حالة من الحيوية المستجيبة والمتخطية الضعف والتراخي الانفصال عن حركة المجتمع، أو الغرور والترفع الذي يطيع مثقفي ذاك الزمان.

إرادة الاستمرار وإيجابية المشاركة

كان البصير إنساناً مختلفاً، وكاتباً منساقاً بحيوية إلى مصافحة الواقع، وقادراً على أن يشكّل من معوقات الحركة حافزاً للنشاط والتوثب. إن الكاتب عين تقرأ، ويد تخط وتكتب، وقدم تتحرّك بحرية بين دروب الحياة. وكان هو محروماً من الأولى، فترتب عليه عجز الثانية، وزاد على هذا أن فاقد البصر لا تتحرك قدماه إلا على هدي خطى قدم أخرى، ومع ذلك استطاع البصير أن يمد لسان التحدي، ويقول هأنذا مقبل، وظل هكذا، مقبلا على الحياة، مشاركاً في صنعها، بطريقة تثير الإعجاب حتى مع تقدم السن وتعقد الحياة، وحينما كنت أشاهده وهو يثبت لنا في كل يوم أن إرادة الاستمرار، وعشق المعايشة تحتاج إلى صبر طويل وحضور دائم أسأل: لماذا هذا العناء؟

الإجابة حاضرة، تنطق بنفسها، فقد أثبت البصير لنا أنه مؤمن بأمور حافظ عليها وظل وفيّاً لها، طوال حياته كلها، سواء أكان هذا بوعي وتفكير مسبق، أم أن هذا الإيمان تشكل قطرة قطرة حتى استوى، ومع ذلك فمن المؤكد أنه إيمان قام على أساس من صبر وعزم وإرادة.

وقبل أن أنظر إلي سيرته، أرخى الذاكرة، وأطلق عنانها لتستعيد ما أعرفه عن البصير، الذي توثقت به العلاقة طوال خمسة وثلاثين عاماً، فأملك، بحكم هذه المجاورة الطويلة في الزمن، أن أستعيد، ليس فقط تلك الحياة المحدودة التي يتحرك بها عامة الناس، ولادة، فعيشا، فموتا، فبقاء في زوايا الذاكرة، ولكن أنظر إلى الحياة التي امتدت منذ عام 1919 حتى بلغت غاية أجلها عام 1999، فلا أعبر اهتماما بالتدافع الزمني فيها، كما أنني، وإن كنت ألمح الظروف الذي أحاط به فأضعه في موضعه، أجد أن البصير شجعنا في سلوكه وتعامله وطريقة عيشه على أن نلغي هذا من حسابنا.

تحفظ الذاكرة أن البصير قال إنه كان، في سنواته الأولى، لم يدرك معنى فقدان البصر، الذي فقده وهو في مقتبل حياته، فكان يرى نفسه مثل بقية الأطفال، فيندفع ويلعب مع من هم في سنّه معتقداً أنه مثلهم. وقد ظل البصير كذلك طوال عمره، فاتحاً بصيرته، فلم يجعل أحداً يحسّ هذا العجز، فهو لا يستطيع أن ينعزل، فإذا كانت عينه قد انطفأت فإن حواسه كلها متوثبة، يرى بأذنه، ويحسّ بوجوده متكاملا من خلال حركة الأصوات، وأي أصوات، أصوات أناس يطرحون أعقد المشاكل، ويناقشون هموما ثقافية وفكرية وسياسية ثقيلة الوطء. لذا عرفته، لسنوات، كان الشيء الحاضر فيه هو عنصر السؤال، وإيجابية المشاركة، وحضور التعليق على ما يثار دون تعصب أو أنانية.

إذا أردنا أن نرافق البصير في مسار حياته، فالذي سيلفت نظرنا تلك المواقف التي تكشف لنا طبيعة الشخصية، التي تشكّلت من داخل هذا الإنسان، فالحكم على أمثاله إذا جاء معتمداً على العوارض الخارجية جاء جزئياً، بل وناقصاً.

عندما نعود إلى عشرينيات هذا القرن، نلمح طفلاً يحكم عليه الظرف، والجهل، فيحاصره عجز العمى، فيتحدد طريقه عند أولئك المقيّدين بالظواهر وشروط المقدرة البشرية المتعارف عليها، فلا يكون لمثله، طبقاً لهذا الأساس، إلا التعليم الديني، ليكون شيخاً معمّماً، مقرئاً أو قاضياً شرعياً. وقد سار البصير خطوات في هذا الطريق، تعليماً وممارسة، فقرأ في مجالس العزاء أيام عاشوراء، وتولى القضاء الشرعي سنوات.

من عنف السياسة إلى رقة الأدب

ولكن هذا الدور- على جلاله- ليس هو الذي يرضي من كان مثله، لذا كانت الانعطافة نحو الأدب والشعر والفن، وكانت هذه الانعطافة الصورة الأولى الظاهرة لهذا التوثّب. ولكن، وقبل هذا، نلمح مظهراً آخر تجلى في دخوله معترك الحياة من باب واسع لا يعهده كل رجال ذلك العهد، ففي منتصف الثلاثينيات، في مجتمع بحري فقير، مكبّل بهموم العيش اليومية، لا يكون الاهتمام منصبّاً عند أكثريته إلا على تدبير أمور الحياة لمن كان مثله وفي موقعه وظروفه الاجتماعية والبدنية، ولكن البصير، أبى إلا أن يدفع بنفسه، وهو دون العشرين من عمره في معترك السياسة العنيف. ولم يكن البصير بطبيعته عنيفاً ولا حادّاً ومتطرفاً، ولكن من مثله، لا يستطيع إلا أن يكون من ضمن النخبة الواعية التي تفكر في المستقبل، وقد صادف هذا الميل لحظة التفتح الأولى عند الإنسان، حيث يلغي حذر التفكير، ويقضي على تردد الخطوة الواسعة، فاندفع مؤيداً حركة المجلس التشريعي، وهو مجلس ثوري أحدث ثورة انقلابية في ترتيب الحياة السياسية. لقد انضم إلى هذا المجلس شعوراً وحركة، فأدخل نفسه ضمن الثائرين، وراح يخطب خطاب المعارضين بحماسة واندفاع. وعندما صفي المجلس، فاعتقل من أعضائه من اعتقل، وهرب، ناجيا نفسه، من هرب. وكان البصير واحداً من الذين تشتتوا في الأرض يتلمس النجاة، ليعود بعد فترة، بعد أن طويت سوّيت تلك الصفحة.

موقف نذكره له، لأن فيه إشارة إلى تلك النزعة المستقبلية الأصيلة التي ظلت مستقرة في أعماقه، تحرّك أفكاره وأنشطته، فهي نزعة الاقتراب من الحياة وتيّارها المتدفق.

وعندما يعود إلى سيرة حياته الأولى، يلجأ إلى وسيلة الأدب، مدخلاً أساسياً لهذا الاتصال الإيجابي بالحياة، وهو الجانب الأكثر وضوحاً في مسيرته، لذا نجده يركّز عليه تركيزاً لا يخطئه الناظر، نلمسه في كثير من أقواله، وفي الزوايا التي ينفذ إليها. لقد كان هذا واضحا عندما واجه السؤال المباشر: ما رسالة الأديب؟ فيقول: "لقد تلقى هذا السؤال إجابات مختلفة، أفضلها- على ما أعتقد- هي الإجابة التي تقول بأن رسالة الأديب هي التعبير عن الحياة"- (في رياض الفكر). وإذا كان قد دلل على هذه الإجابة باستعراض لاتصال الأدب بالحياة، فإنه يعرف أن مفاهيم الناس متباينة حول معنى الحياة، فمنهم من يراها جداً وآخر يراها عبثاً فليس له إلا اللذة، وآخر يراها شراً، ولكن كل هذا لا أثر له في اختياره، فهو منحاز إلى الحياة دائماً رغم وجود مثل هذه المفاهيم.

وقد جاء هذا الانحياز فعلاً متواتراً، ليس فقط على المستوى السياسي، كما أشرنا وشاهدنا، ولكن أيضاً لاحظنا أن دخوله معترك الأدب جاء من هذه البوابة، فأول بروز له، في هذا المجال كان في إبداء رأي في معركة أدبية حول هذا المعنى للحياة، والحادثة تقول إنه عندما أرى احتدام المعركة التي أثارها زكي مبارك ضد أحمد أمين، وكانت حول الأدب العربي، فقد كتب أحمد أمين في منتصف عام 1939، مشخّصاً طبيعة الأدب، ورأى أنه ينقسم إلى أدب معدة وأدب روح، وذهب إلى أن الأدب العربي، في معظمه، أدب معدة، وأن الشعر العربي ظلت تسري فيه الصور الجاهلية، ولم يتطوّر، وأنه شعر لا تحليل فيه. وتصدى زكي مبارك لهذا الرأي في مقالاته متتالية، فاشتعلت معركة أدبية حامية دخلها عدد من الكتّاب، وكان البصير واحداً ممن دخلها، مبتدئاً شهرته الأدبية بها، فنشر أول مقالة له في جريدة البحرين، ينتصر فيها لرأي زكي مبارك، وإن لم يرض عن أسلوبه في الهجوم، لذلك نجد البصير يعلق، فيما بعد، على رأيه القديم قائلاً، كعادته في التقليل من شأن ما يكتب، (ومن المحقق أنني لا أعد تلك المقالات التي نشرتها في ذلك الحين من المقالات التي تستحق التسجيل والنقاش). وقد اكتسب شهرته- البصير- منها، حيث إن أحد المشاركين المخالفين له في الرأي اتهمه بأنه ينظر إلى الأمور بمنظار أسود، أما الذي وافقه الرأي، فقد وصفه بأنه ينظر للأمور ببصيرته، وقد أعجبه التعبير، فأصبح ملازماً له. (أدباء وأديبات الكويت- ليلى محمد صالح).

إن الدلالة التي نخرج منها هي أن لدخوله هذه المعركة دلالة، وانحيازه لرأي زكي مبارك دلالة أخرى مكملة. أما الأولى، فإن موضوع الروح والمعدة، قائم على أساس من تلك الصلة الحميمة بين الأدب والحياة، أو تفسير الأدب على ضوئها، وبهدي منها، وربطه بحركة المجتمع. فهي قضية اجتماعية أدبية، لذلك تحرّكت نزعة وحساسية البصير نحو موضوع يدور حول اجتماعية الأدب.

أما الثانية، أي انحيازه لموقف زكي مبارك، دون لغته، فمرجعها أن الأخير يقف مدافعاً- مع تفهّم واستيعاب- للثقافة العربية، والأدب بالذات، مدركاً جوانبه، بينما أحمد أمين أقرب ما يكون إلى البحث التاريخي والفكري، ينظر إلى خلاصة الظواهر العامة، ويجمع الأفكار السائدة، فغابت عنه الرؤية الأدبية الناظرة إلى الجذور والخيوط الرفيعة التي تنتظم الأدب العربي، وهو متأثر بقراءاته ومعايشته لمقولات الاستشراق، التي انعكست على وجهة النظر التي عرضها، ولا نقول اتهامه أو انتقاصه للأدب العربي. وفي المقابل، نجد أن زكي مبارك كان متمرّداً على درس الاستشراق، واثقاً بنفسه إلى درجة الغرور. لقد انحاز البصير لمن لا يرى الدنية في أدبه وثقافته التي تضرب جذورها في عصور ممتدة، ومن ثم يصعب وصم أدب كامل بحكم مرسل غير مدقق.

انحياز للثقافة العربية

ونضيف أيضا قائلين: إن انحياز البصير للأدب العربي كان نوعاً من الانحياز النفسي النابع من الموقف العام، والمتمثل بركن أصيل وثابت يكشف توجهه القومي، سياسة وفكراً وموقفاً، فهذا اختيار مركزي عنده، واكتشاف هذا الأمر سهل ميسور، فليس لنا إلا أن نتصفّح أي كتاب من كتبه الستة التي بين أيدينا (*)، ومن كان له صبر مثل صبر البصير- رحمه الله- فلينظر في المئات من مقالاته، ليرى تلك العروبة الصافية واضحة الجوانب، والتي لا يشوبها تعصّب أو تحفّظ أو تردّد أو تنازع في النفس، وفيها نرى كيف حمل هموم القومية، والدفاع عن تراثها ولغتها، وسخّر قلمه للحديث عن أعلامها النابهين والمستنير منهم قديماً وحديثاً، وكان في حديثه معنياً بالجوانب التي يرى أن فيها بناء للجانب المشرق من هذه الحياة.

ولكن هذا الانحياز يقوم على أسس واعية، ولا تحكمه مسلّمات العقل الساكن الذي استسلم لعناصر الجذب الظلامية، التي تريد للواقع أن يتوقف، فبصيرته تمتد دائماً إلى المستقبل، فما عرضت فكرة إلا واختار منها المتطور والمستجيب للعصر دون تردد، فهو منحاز للثقافة العربية، معجب بالماضي العربي، يستمد ثقافته ومعرفته، وما يستشهد به منها غالباً، ولكن هذا الانحياز لم يكن يمثل انكفاء أو تمسّكاً جامداً بذلك الماضي، فقد كان رأيه دائماً يمثل خطوة إلى الأمام، دون انقطاع عن ذلك الماضي، أو تمرّد جامح، فهو متمسك بالصلة الإيجابية بين حاضرنا وذلك الماضي وثقافته، لأنه يدرك ويتمثل نزعة التغيير والتجديد الكامنة في النفس البشرية، فيرى أن تميّز الإنسان عن كل المخلوقات الأخرى، إنما بفضل نزعة التغيير هذه، وهي التي جلبت النفع له، وأن هذا التغيير يجب أن يتولد من بذور الماضي. ويدلل على هذه العلاقة الإيجابية بين الماضي والحاضر من خلال تلك الحكاية الهندية التي يستشهد بها في إحدى دراساته. وهي حكاية طريفة، خلاصتها أن ثلاثة أبناء ورثوا عن والدهم بطيخة كان يعتز بها، فاحتفظوا بها حتى دبّ فيها الفساد. فانقسموا بين مَن يريد الاحتفاظ بها رغم رائحتها الكريهة وفسادها، وآخر يريد أن يتخلص منها وجراثيمها. وكان الرأي الثالث هو: (هيا نرمي البطيخة بعد أن نستخلص منها لبّها، فنبذره، فيخرج لنا بطيخاً جديداً تتصل الوشائج بينه وبين تراث أبينا... قليل من الفلسفة)، قصة دالة ساقها البصير تكشف غايته وموقفه، وتوضح الدعوة التي حرص عليها، فكانت ساكنة في كل حرف من حروفه.

إن اختياره التعبير عن الحياة منهجاً وطريقاً للأدب يتجلى في كتاباته، فيكاد يكون الملمح الأول والبارز في كل مقالة من مقالاته، وهذا الاختيار يستند إلى أسس عزيزة جديرة بالنظر، فهو يتلمس مسئولية الأديب، ويربطها بإطاره الأكبر، أي الثقافة التي يرى أنها ليست غاية، ولكنها وسيلة، وليست ترفاً ذهنياً أو مناجاة للعواطف، بل هي غذاء للأفكار والعواطف، وتوجيه لها، وغرض الثقافة أن تسعد الإنسان في هذه الحياة، وكل ثقافة تهدف إلى غير ذلك، فهي ثقافة غير صحيحة. ولتحقيق هذه السعادة، لا بد من تحقيق شرطيها: الأمن والحرية. إن هذه المكانة العظيمة للثقافة عنده جاءت من التصاقها بالحياة، لذلك يعجبه أن يستدعي القول القائل إن الكتاب والمفكرين هم مهندسو الحياة (البصير: لماذا نتثقف؟).

ويزيد على هذا أنه لا يختار من أدوار الأدب إلا ذلك الجانب المشرق منه، فعندما يتحدث عن (النظرة الصحيحة للحياة)، لا يجد مدخلا أحسن من أن (إشاعة أدب التفاؤل من خير ما يقدمه الأديب المفكر لأمته بصورة خاصة، وللبشرية عامة، لأن الناس في أشد الحاجة إلى من يصوّر لهم جمال الحياة ويحبّبها إلى نفوسهم، البصير: النظرة الصحيحة للحياة). وكان هذا ما يفعله، فيكتب عن البطولة في الشعر العربي باعتباره ملمحاً من ملامح القوة المتفائلة بعد سبات طويل، ويميل إلى الحديث عن عمورية ليصنع أملاً في التحدي. وكان كثيراً ما ينبّه إلى الجوانب التي تشيع إشراق الحياة، فيلفت نظره (عناية العرب بالأعياد) ويرى أن (أسلافنا فهموا الحياة) حين ميّزوا بين لحظتي الجد والهزل، ويذهب ليدلل على هذا باقتناع وإحاطة.

وهكذا البصير، ببساطته، ودون ادّعاء، يجاور حياة الناس، ويتلمس حاجتها، ويدعو إلى بنائها بناء سليماً، فلم يكن مستغرباً أن تتوالى مقالاته حتى الأيام الأخيرة من حياته وهو يواجه مرضاً خبيثاً خواتمه القريبة معروفة لديه. لذا لو تكرر السؤال نفسه الذي طرحته في أول هذه المقالة: من أديب الكويت الذي يملأ الصورة ويحضر إلى الذهن للوهلة الأولى؟ فستكون الإجابة حاسمة عندي وواضحة: هو عبدالرزاق البصير، وسأقول أيضاً إن الحياة الثقافية في الكويت، من غير البصير خسرت ملمحاً من ملامحها المنيرة.

رجل الحضور الجميل
بقلم: الدكتور محمد حسن عبدالله

"الحضور الجميل" هو الانطباع المبكر الذي يشعّه شخص عبدالرزاق البصير في أي مجلس خاص أو عام يشهده، والاطمئنان إلى الصحبة، والثقة في الإفضاء محصلة نهائية أكسبته صداقات ومودّات بمساحة الوطن العربي، فأثبتت أن المثقف الحقيقي ليس كلمة على الورق وحسب (بزعم أن هذا هو ما يبقى) إنه إيمان داخلي يؤازره سلوك معلن... قبل الكلمة، وبعدها.

هذا-باختصار- عبدالرزاق البصير الذي عرفته، فأوجب عليّ احترامه منذ التقيته عام 1964 وإلى الآن، في ذلك العام كان فاروق شوشة كبيراً للمذيعين ومسئولاً عن القسم الأدبي بإذاعة الكويت، طلب مني المشاركة بأحاديث أدبية، فكتبت تحت عنوان "الأدب الإسلامي" عدداً منها، كانت إحدى الحلقات عن الشاعر أبي العتاهية، عقب إذاعة الحديث، جرى حوار بشأنه بين البصير وشوشة، خلاصته الرضا عمّا كتبت. في زمن شحيح بالعرفان، لا بد أن تمتن للرجلين: لمن ارتضاك، ولمن نقل إليك، فكان هذا اللقاء الأول في مكتب رئيس القسم الأدبي.

إن صفة "التواضع" إلى درجة الخجل، الذي يوشك أن يكون خجلاً فطرياً طفولياً تتصدّر "بداهة" البصير، وتستمر معه، لدرجة أنه لا يستخدم- على الإطلاق تقريباً- عبارة تتداولها لغة الكتّاب عادة دون تحرّج، مثل: وقد عرضت لهذا الموضوع من قبل، أو: وقد شرحت هذا وبينته في...، إن البصير لا يحيلك إلى نفسه مطلقاً، لا في حديثه الشفاهي ولا في كتبه ومقالاته، إنه خير من يستمع، ويحاور، ويطرح أسئلة قد تكون ماكرة مدبّرة لكشف تناقض أو إشارة إلى نقص في الطرح، ولكن البصير- الذي لا يتخلى عن دماثته- ينيب صيغة السؤال عن إعلان القرار أو استدراج الآخر إلى الاعتذار.

كتب البصير في موضوعات متعددة، لكنها- على انتشارها- ترجع إلى أصل واحد، لعله- هو نفسه- لم يشغل فكره باستخراجه أو تحديده، ولكن قراءته كاملاً لا بد أن تدل عليه، في مجال الإبداع كتب القصيدة، والقصة، والصورة القلمية، وأدب الرحلة، وعن فنون الأدب وفنون العرض كتب النقد المسرحي، وعن السينما في الكويت، وعن الموسيقى والغناء في الكويت أيضاً، أما مواكبته لقضايا ومشكلات مجتمعه، فإن مقالاته خير مؤشر للحركة- الفعل وردّ الفعل، حيث كتب عن التربية والشباب، وعن الجامعة، وعن الثقافة والمثقفين، وعن مجلس الأمة والسياسة المحلية، وعن الموقف من التجنيس، وفي محور النقد العملي أو التطبيقي تعد متابعاته في عرض وتحليل الكتب رصداً أقرب إلى الشمول لأهم ما أخرجت المطابع طوال حياته، ويمكن أن نجد هذا وغيره أكثر تفصيلاً وأدقّ إسناداً في ببليوجرافيا: "الصحافة الكويتية في ربع قرن ".

البصير ... الأديب المتواضع

أودّ أن أتوقف قليلاً عند صفة "التواضع " التي ألمحت إليها، وكيف تأخذ سياقاً بنائياً في طرح مقولاته الفكرية ورصده الدقيق للفروق الفنية، في مقالة له عن شاعر الكويت فهد العسكر، يصف لقاءه الأول بالشاعر، فيقول: "كنت في ذلك الحين لم آلف الأفكار الجديدة، أو الأساليب الجديدة في الكتابة، حتى أني كنت أرى أن السجع هو الأسلوب المفضّل في الكتابة، وكنت أعتقد أن ما يكتب في الصحف هو شيء من قبيل اللغو الذي لا غناء فيه" هذا "الاعتراف"، كتب عام 1964، أي بعد وفاة العسكر بثلاثة عشر عاماً، بعبارة أخرى: ليس هدفه تمجيد الآخر، وهو مما يمكن تجاوزه، وليس من شاهد عليه غير الضمير، غير أن البصير يفضي به، ويرتب عليه ما يجعل من العسكر قدوة، ومرشدا، فقد جرى بينهما حوار عرف فيه الشاعر أن صاحبه يقرأ بعض شروح المعلقات، كان تعليق العسكر: "هذا حسن "، ولكنه أثبت رجل البصير على بداية طريق جديد، إذ وضعه في حومة عصره، بأن قرأ له من شعر الأخطل الصغير، وعرّفه بمجلة سركيس التي نشرت هذا الشعر!!، وقد رضي البصير عن هذا "الكشف " المباغت حتى لقد رجا أمين المكتبة أن يكتب له نسخة من قصيدة الأخطل الصغير ليحتفظ بها، في زمن لم يكن الكتاب ميسّراً للراغب فيه!!

بهذه العفوية العذبة، مسرفة الشفافية، وبعبارات غاية في الاختصار والدقة معاً، يحدّد البصير ملامح الصورة، وما وراء الصورة من انفعالات، وما أدّت إليه من تغيير أيضاً، مدللاً على تواضعه المكين الذي لا يؤثر فيه أن الشاعر كان قد مضى، وأن المبتدئ القديم أصبح علماً ورائداً في الثقافة الكويتية، ومثل هذا أبداه نحوي، إذ أثنى على كتاب "الصحافة الكويتية" بما يراه يستحقه أو يدل عليه، ثم يقول ما كان يمكن ألاّ يقال دون أن يخلّ بقصد المقال: "وقد سبقت لكاتب هذه السطور محاولة للكتابة عن اتجاه كل صحيفة كويتية وتاريخها، فرأيت العجز يحيط بي من كل جانب، ذلك أن هذه الصحف ليست محفوظة بصورة كاملة... " إلخ، والحقيقة أنني- بدوري- لم أصنع ما عجز عنه البصير أو ما صوّرت له دماثته أنه كذلك، لأنني لم أكتب عن اتجاهات الصحف، فهذا مما يحتاج إلى خبرة داخلية، ومعايشة حقيقية، ومن ثم اقتصر جهدي على نوع من "الفهرسة"، وهي ليست "بحثاً" وإن كانت مقدمة ضرورية لإمداد الباحث بالمعلومات والوثائق الأساسية. ثم نعود إلى مقالة البصير عن الشاعر فهد العسكر، لنرى كيف أرشدته حساسيته الشديدة إلى التقاط بعض الأمور الدقيقة التي قد لا تلفت الانتباه، ولكن الناقد البصير سجّلها، واستبقاها في ذاكرته هذا الزمن الطويل، ليضعها بين يدي الباحث في سيكولوجية العسكر وطموحات شعره ومن أين يستمد قدوته، فقد لاحظ البصير أن الشاعر- في حديثه- لا يلتزم العامية الكويتية، ونصّ عبارة البصير: "فقد كانت لهجته- رحمه الله- لهجة تقارب الفصحى، لكنها بأسلوب جديد بالنسبة لي في ذلك الوقت، وكان إذا أراد أن يستعمل شيئاً من اللهجة الدارجة جاء بألفاظ غريبة عني في ذلك الحين: فكلمة "أيو" و " إيش تقرأ" وكلمة "آ" بدلاً من "إي" !!

من المهم في مطالب المعرفة بشاعر أن يقول البصير إن فهد العسكر في مرحلة من شبابه استولى عليه وسواس، وخوف من عذاب الله، حتى لقد لزم المساجد، ثم إنه غادر هذه الرحلة إلى ضدّها!! (أشار صلاح عبدالصبور إلى ما يكاد يتطابق مع هذا في كتابه: حياتي في الشعر) إن تنبّه البصير إلى هذا القلق العصبي، وهذا الانقلاب يدخل في دائرة المتوقع من مثله، أما اهتمامه بطريقة الكلام، واستمداد مفردات وعبارات من لهجات عربية أخرى، فإنه يدل على حساسية مفرطة، وإدراك- قد لا يكون واعياً من الناحية المنهجية- لتساند الاتجاهات حتى تأخذ عمق الظاهرة، من ثم لا يكون تطلّع العسكر أو اطلاعه على شعر بشارة الخوري ذا دلالة فنية معزولة عن تطلعاته الأخرى، إن تعلقه باللهجة أو لهجات خارج الكويت يكاد يضع إطاراً للحلم/ الأمنية الحياتية، بتحقيق نقلة شاملة لا تقتصر على الشعر، وإنما تشمل الحياة الاجتماعية في الأساس.

ولا نريد أن يسبق إلى الفهم من وصف البصير بالتواضع، أو بهذا الخجل الطفول، ولا عزوفه عن الإشارة إلى مقالاته وكتبه كمرجعية لأحاديث مستأنفة، لا نريد أن يفهم من هذا أنه كان حريصاً على استرضاء محاوره كهدف في ذاته، أو أنه على استعداد للتراجع عن قول أبداه، ففي مجال الموقف الأدبي كانت له صدامات وجولات غير قابلة لأنصاف الحلول، وبصفة خاصة حين يطأ هذا المحاور بعض ما يؤمن به البصير من أفكار السياسة، أو مبادئ الفن على السواء، وحواره المشهور مع الشاعر الفلسطيني خالد أبو خالد (وقد كان إبان هذا الحوار النقدي يعمل بإذاعة الكويت) يعطي هذا المعنى، إن قصيدة "على الصليب " التي فجّرت المشهد النقدي، تحوّلت بالحوار حولها من مستوى الغضب لكرامة الوطن إلى علاقة الرمز بالمرموز إليه، وإلى لغة الشعر، وهل يفيدها أن تكون غامضة، أم أن الوضوح أساس تكوينها، فإذا لم يحققه "الشاعر" فإن النقاد ينبغي أن يجلوا المعنى، لأن "فهم " الشعر لا محيد عنه لكي يتم تلقي القصيدة وتحوّلها إلى "قيمة" عند هذا المتلقي، أما الوقوف عند حد الانطباع العام، والرضا بالغموض والتهويم، فإنه قد يؤدي إلى نوع من الحدس الاحتمالي الذي تختلف حوله مستويات التأويل.

إن المرتكز الأساسي الذي يستخلص من القراءة الشاملة لفكر وتطبيقات البصير يستند إلى "الهادفية الاجتماعية"، فالأدب ليس ترفاً، والشعر ليس لعباً بالكلمات أو الصور، الإبداع رسالة، والمبدع مبشّر بهذه الرسالة، الوسيط بين طرفي العلاقة هو الناقد الذي يتفوّق بالفهم، فيجلو المعنى، ويمكّن للرسالة في نفوس الناس، بهذا القدر من الوضوح والتحدّد تستقر قيمة الفن ووظيفة النقد على السواء، ولا يجهدنا كشف منابع البصير في موقفه أو موقعه النقدي، لأنه لم يطرح هذه العلاقة في مستواها الفلسفي "علاقة الفن بالواقع " مكتفياً أو مقتنعاً بالمستوى السياسي- الاجتماعي (علاقة الفن بالجماهير، وبالعصر)، وليس من شك في أن الطابع القومي السائد في الفكر العربي منذ الأربعينيات، وحتى أعقاب حرب أكتوبر 1973 كان يمنح الفنون ألوانها، ويمنح المنظّرين حق أصالة الانتماء إلى أمتهم، وكذلك كان هذا الإطار العام للحركة الثقافية في الكويت، فلم تكن مصادفة أن تستضيف الكويت- حتى قبل إعلانها دولة مستقلة، دستورية (يونيو 1961) مؤتمر الأدباء العرب الرابع (عقد في ديسمبر 1958) تحت شعار: "البطولة في الأدب العربي"، ولم تكن مصادفة كذلك أن يلقي البصير بحثاً في ذلك المؤتمر تحت عنوان: "البطولة في الشعر الحديث "، وفي هذا البحث إلحاح على أن الثقافة حق للشعب، لأنه لا بطولة دون ثقافة، إذ البطولة تنبثق عن الإيمان بالهدف، إنه يؤكد على مبدأ ضرورة جماعية الثقافة، وأنها حق للشعب من زاوية أخرى حين يقرر أن الإضافة الحقيقية التي أضافها الشعر العربي الحديث، وخطابها خطوة أبعد من شعرنا القديم هي تصويره وتمجيده وريادته لبطولة الشعب، "فلم يعد أمر البطولة مقصوراً على القادة والحكام، وهذا هو شعرنا الحديث يتحدث عن البطولة الشعبية في الجزائر وبورسعيد، فيحسن الوصف، ويكشف عن معدن العروبة الأصيل".

هنا يبزغ الأساس التقدمي الذي أقام عليه البصير تصوّره لوظيفة الأدب، وفهمه لدور النقد، ومن هذه الوظيفة الاجتماعية تستجلب عناصر الإبداع، وينفي ما ليس محققاً للوظيفة، فإذا كانت الثقافة حقاً شعبياً، فإن الوضوح ينبغي أن يكون لغة الثقافة ومحصّلتها النهائية حتى تتمكن رسالة الفن أقوى تمكين، وبهذا يكون "الغموض " ضد الرسالة، وضدّ الفن الصحيح أيضاً!!، ولهذا يعجب مما يصفه بادّعاء مثقفين وفنانين أنهم في إبداعاتهم يتوجهون إلى الجماهير، مع ما يرى من غموض واستغلاق وهروب إلى الرمز في تلك الإبداعات، ففي رأيه أن هذا تناقض بين الهدف والوسيلة الموصلة إليه، ولعل إيمان البصير بهذه المقولة كان وراء انصرافه عن الاهتمام بالكتابات الجديدة، في الكويت وخارجها، تلك الكتابات التي أخذت طريقا آخر، واعتنقت أهدافاً أخرى، ليس من بينها التوجّه إلى الجماهير.

إن الحسّ القومي، الجماهيري، المتأصّل تراثياً هو الذي يشكّل الإطار الشامل لكل ما كتب البصير، وكان ارتباطه المبكّر بالنادي الثقافي القومي، ومشاركته في أسرة تحرير مجلته "الإيمان" (التي تعني الإيمان القومي) عام 1953 إلى جانب السقّاف، والخطيب، وعبدالله حسين، وعبدالله يوسف الغانم، ويوسف إبراهيم الغانم، ويوسف المشاري، وهم جميعاً من أقطاب الدعوة القومية في الكويت، لتدل على تجذّر هذا الانتماء، وأنه البذرة الأولى التي ظلت تكبر وتتفرّع حتى غدت دوحة وارفة نقرؤها في هذا النتاج الغزير.

عبدالرزاق البصير تجربة جريئة، متحررة، شديدة التفاعل مع زمانها، فإذا كان نمط المعري (الانسحاب المتأمل المستعلي) موجوداً بين أدباء كفّ البصر، فإن نمط طه حسين (المتفاعل الذي يؤثر ولا يتأثر) موجود كذلك، وقد أضاف البصير نمطاً يخصّه، إذ أعطى التفاعل مرونة الأخذ والعطاء، وتطوير الموقف عبر التجريب وإعادة قراءة المستجدات، وهذا ما تؤكده كتاباته الأخيرة. سيكون من المستطرف أن نعرف أن البصير أول ناقد مسرحي في الكويت، فقد واكب مرحلة المسرح المرتجل الذي صنعه محمد النشمي ورفاقه، وكتب عن عرض مسرحي شهده في مدرسة صلاح الدين (الشعب 23/ 10/ 1958)، وليس لنا أن نتوقع التطرّق إلى الجوانب الفنية في العرض، ولعلها أيضاً كانت متواضعة جدا، في مستوى الارتجال، أما ما شغله، وما يمكن أن يصل إليه بتمامه فهو موضوع المسرحية وحكايتها أو حبكتها، وقد صدر في طرحه عن مبدئه الأساسي وهو أن الفن نقد للحياة، وللمجتمع، غير أنه لم يفته الاعتراض على أمر لم يكن منه بدّ تلك الفترة، إذ يختم مقالته القصيرة بقوله: "وأحبّ أن أنصّ هنا أن العنصر النسائي لا يمكن أن يقوم به الرجال بأي حال من الأحوال"، فأي دعوة أخرى، وأي حلم تحرّض عليه هذه الإشارة المبكرة؟

مواهب أخرى

ذات يوم من مايو 1987 اجتمع عدد من أعضاء رابطة الأدباء على مائدة الشاعر الأديب سليمان الخليفي، كنت من بينهم، بعد الطعام والشراب، طلب الدكتور خليفة الوقيان من البصير أن يغني، امتنع أولاً، ثم رأى أن هذا يمكن أن يكون تحية خاصة لي، إذ كنت على وشك مغادرة الكويت لانتهاء عملي بالجامعة، لقد غنى البصير بقوة وشجن أحسّهما في وصف الأصبهاني لعظماء المغنين الذين ارتجت بأصواتهم وديان مكة في الزمن القديم، لم أكن وحدي دهشاً محتبس الأنفاس لا أكاد أصدّق ما أسمع وأرى، إلى الآن يتردّد شجن البصير وتتواثب قوة روحه في أصداء غنائه الذي يجوب مشاعري ويلح على خواطري كلما طافت ذكرى من أيام الكويت.

بطولة نفس
بقلم: فاضل خلف

ورحل البصير ...

فتذكرت قول أحمد شوقي في وداع حافظ إبراهيم:

قد كنت أوثر أن تقول رثائي

 

يا منصف الموتى من الأحياء

وهكذا الحياة حضور وغياب ومزيج من البؤس والنعيم والدمع والابتسام، فما علينا إلا التأمّل العميق، وعزاؤنا أن نلتمّس ذكرى الراحلين هؤلاء الذين وهبوا الكويت والعرب حبّهم وجهادهم ونضالهم، وتركوا لنا آثارهم المطبوعة في كتب قيّمة، نحيا معهم ونتدبرّ معاني جميلة توجّت مسيرتهم، ونتفهّم دورهم الريادي وعطاءهم الزاخر بلا حدود.

كان البصيرُ فيّاضاً في عاطفته، يغدق من بحر إنسانيته ومواقفه المثالية الراقية، وقد شعرنا بذلك حينما كان يعمل أميناً لمكتبة وزارة الإعلام حتى عام 1991 ، حيث يوجه القرّاء ويناقش الأدباء، ويحنو على الجيل الجديد من الشعراء، ويعايش القضايا السائدة، ويعبّر عن رأيه في صدق وحرية دون مواربة أو خفاء ، كان البصير نموذجاً لرجل الكلمة والخلق الرفيع وسماحة النفس ورحابة الصدر ورقة الأحاسيس وخفّة الظل.

وإلى جانب هذا تميز بدقة البحث الأدبي العميق، والتنقيب في أغوار التراث والتاريخ ولا سيما متابعته المجدة في نفض ستائر النسيان عن شعراء وأدباء عاشوا في منطقة الخليج، ولم تذكرهم كتب النقد أو البحث أو كتاب السير والتراجم الذاتية.

وأعتقد أنه في كتابه "الخليج العربي والحضارة المعاصرة" بذل البصير جهداً واضحاً في دراسة بعض الحقب الزمنية عن بعض هؤلاء الشعراء المبدعين، وكأنه بذلك يوجه الأنظار إلى أصالة الخليج وعمق تجربته الإنسانية والإبداعية.

شخصيات أهملها التاريخ

وترى البصير متحمساً في الكتابة عن تلك الشخصيات التي أهملها التاريخ وصارت في لجّة النسيان، ويحاول بكل بساطة أن يرد لها ملامحها المنسية وصورتها القائمة، ويرجع إليها الرونق والحضور الشجي، ويكتب مرة أخرى، فتضئ الشخصية في الذهن، وتضيف قيمة كبيرة إلى تاريخ الخليج ورجاله المخلصين.

وتعجب لقدرة البصير على الغوص في هذا التراث الأدبي التاريخي، ولولا جهوده، ما عرفنا شيئاً عن شاعر الخليج أبي عبدالله محمد بن يوسف المعروف بالأربلي، وهو شاعر من البحرين يقول عنه البصير " وقد شاء الله أن ينشأ شاعرنا البحراني في هذه الظروف الرديئة، إلا أنه كان محظوظاً لأنه عاصر انتصار صلاح الدين الأيوبي على الصليبيين مما جعل العزة تسري في قلب كل مسلم بصورة عامة، وفي قلب كل عربي بصورة خاصة وكانت موهبة الشعر قد ملأت نفس شاعرنا منذ صباه، وظل يعزز موهبته بما يذيع من قصائد في مدح صلاح الدين الأيوبي بعد أن رحل إلى دمشق ليشاهد استرداد كرامة العرب والمسلمين بإبعاد الصليبيين عن البلاد.

وفي كتابات البصير بحث دائم عن بطولة النفس في مواجهة المحن، ولعله عاش هذه التجربة الأليمة حين حاقت به الظلمات وبدأ يشق جبالاً وعرة أمامه، وأصداء كائنات أصبح في لحظة لا يراها، ويفتقد نعمة البصر نتيجة إصابته بمرض الجدري، وهو ما زال في الرابعة من عمره، فهل يستسلم لهذا المصير؟ هل يخضع وينعزل في الركن بعيداً، تهمي دمعاته ولا ياها أحد؟

لقد كان في يوم ما أن يحاصره التشاؤم والسخط والرفض، ولكنه عشق التسلل خلف ضوء أشرق في حياته وهو إشعاع القراءة فهدأت ذاته الثائرة فوق انسياب الموج الأزرق ونسمات الصباح وأغار يد الطيور وحفيف الريح وزخات المطر.

وأدرك أنها كائنات تحيا حوله يراها ببصيرته، ويعرف كنهها بإحساسه، ويرق لأصواتها بحواسه، ويحلق معها بروحه الهائمة في مسودة الوجد ونضارة الفكر ورهافة الحب، ولذلك حين قرأ لطه حسين رواية "الأيام" أدرك أنه يمضي ثابت الخطى في الدرب المشرق، وأنه اجتاز عتمات الظلام، وأصبح هناك في جزر الظل والماء والورق الخضر والنهار الجديد.

طه حسين... النموذج

وإذا بدا البصير يشهد بأن كتاب "الأيام" لطه حسين كان بمثابة المفتاح الذهبي الذي فتح له أبواب العلم والمعرفة، فإن اعتقادي بأن إعجابه بكتاب طه حسين يرجع إلى جموح ذاته التي تطوي الخنوع، وتتغلب على القهر، وتنطلق وترفض الأسر، وتحلّق بأجنحتها في الفضاء الإنساني هاربة من جحيم الظلام أو معترك الظلم والإبادة.

فها هو يقول بكل بساطة: كنت أعتقد قبل قراءة هذا الكتاب أن الضرير لا يستطيع أن يساهم في الحياة الأدبية ولا الحياة العامة، فما معنى ذلك؟ هذا يشير إلى أن البصير كان في مسيس الحاجة إلى من يثير كوامن نفسه، ويحفّزه على الانطلاق والتفوّق على الواقع وهزيمته.

وقد شاهد في حياة طه حسين المثل والنموذج الرائع لبطولة الكلمة وثورة الروح، واستنفار الذات، ثم الإصرار والتصميم والوقوف ضد الروح العنيدة والتيارات الغاضبة. وينفذ البصير إلى البني السرية لرواية الأيام، ويقول مرة أخرى، وقد امتلك بطولة النفس والشجاعة وهزم الخوف، حينما قال:

"وددت لو درست هذا الكتاب لطه حسين، وقدمته للقراء، ففيه مواقع يجهلها المبصرون ويدركها المكفوفون، ولا يستطيع التعبير عنها إلا أمثالي"، ولكن القدر لم يمهله الفرصة لتحقيق هذا الكتاب الجميل.

فالبطولة النفسية وصراع النفس مع الحياة والواقع وضربات القدر تعد عنصراً أساسياً في توجهات البصير الأدبية، فليس هناك سوى واحة ظليلة من الحب والمغامرة والصمود والثبات تتوج أفكاره وتدفعه إلى البحث الدائم عن الفرسان والأبطال.

وفي مقال بعنوان "فارس من الخليج العربي" من كتابه الخليج العربي والحضارة المعاصرة، يتحدث عن الشاعر قطري بن الفجاءة المازني ويصف ثباته بثبات الجبال التي لا تهزها العواصف، وبقي يحارب مدة عشرين سنة، ما أرسل إلى الجيش غلا وهزمه.

ويعجب البصير بقيدة هذا الشاعر حين يقول:

أقول لها وقد طارت شعاعاً

 

من الأبطال ويحك لن تراعي

فصبراً في مجال الموت صبراً

 

فما نيل الخلود بمستطاع

سبيل الموت غاية كل حي

 

وداعية لأهل الأرض داعي

وما للمرء خير في حياة

 

إذا ما عد من سقط المتاع

ويسجل البصير حبه وإيمانه بشجاعة النفس ومواجهة التعسف والظلم عندما يكتب عن الشيخ يوسف بن عيسى القناعي، وجهوده الوطنية، ويرى أن الشيخ قد دفعته شجاعته الأدبية إلى أن يعلن آراءه بجرأة نادرة على الرغم من أنها تسبب له نفور الكثيرين، فهي تخالف ما يتظاهرون به.

ويلقي الضوء على كبار المصلحين في الكويت الذين حملوا مشاعل التنوير والإصلاح، ووجهوا الحقائق، وفندوا الزيف، وأسسوا فكراً جديداً نابعاً من الدين الإسلامي لإصلاح أحوال الناس ودعوتهم إلى العلم ونبذ الخرافات والتزود بالثقافات الجادّة، والاطلاع على حضارات الشعوب الأخرى، ومن هؤلاء، عبد العزيز الرشيد وأحمد البشير الرومي وأحمد العدواني.

هكذا تبدو جهود البصير مع التراث الخليجي وبحوثه حول أعلام الأدب والفكر، وكيف ثبت هؤلاء في وجه المتغيرات والظواهر الغريبة، وكيف واجهوا المحن وعاشوا قضايا بلادهم، والبصير بذلك يعد من رواد أدب الالتزام، هذا النوع من الأدب الذي يلزم الأديب بالدفاع عن قضايا أمته ومناصرة الأحرار في كل مكان، والتصدي للاستبداد والقهر والمصادرة، وفتح نوافذ الحرية على الطاقات الإبداعية والإنسانية للشعوب.

تلك إحدى سمات كتابات البصير التي ظلت تلازمه حتى رحل عن حياتنا، وكان يسجل في مقالاته الصحفية خواطره وأفكاره حول قضية الكويت والشباب والعلم والتربية والتراث ولمحاته النقدية حول الشعر والفن والقصة والرواية.

قضية الكويت

وجدير بحياة البصير، أن نذكر هنا أهم قضية عاشها في الفترة الأخيرة من حياته، يكتب لها ويبحث فيها مع نفس تتألم لمجريات الأمور، وعصف الأحداث، وذلك منذ محنة الكويت في عام 1990 حتى رحيله، وقد ظل يكتب في قضية الكويت: إنها قضيته القومية والوطنية والإنسانية. وقد عاصر أحداث الغزو كلها ولم يسافر خارج الكويت.

وقد أصدر كتاباً أسماه "الجريمة الكبرى في الكويت وأمانة القلم" والكتاب صدر عام 1995 يحتوي على مجموعة كبيرة من المقالات التي نشرها في الصحف عن قضية الكويت ويقول عن هذه المقالات .إنها ترسم جانباً من تاريخ تلك الجريمة الكبرى التي أوقعها النظام العراقي على الكويت، كما أن هذه المقالات أو بعضها يعبر عما يجول في أذهان كثير من المواطنين الذين آثروا البقاء في الوطن العزيز طوال أيام الاحتلال.

ويصف البصير اليوم الأول للاحتلال بأنه حالة عبثية، ويقول "أصابتنا حيرة شلت قدرتنا على التفكير، لأن ما شاهدناه في تلك الأيام أشبه شيء بمسرح العبث".

ويؤكد البصير أنه قد قرر أن يظل ملتزماً بقضية بلاده ويكتب عن هذه الكارثة حتى يغير الآراء والمفاهيم التي استاع الإعلام أن يؤثر فيها على بعض المثقفين، وأن يعلو بقضية بلاده إلى كل قارئ ومثقف وإنسان يؤمن بالحق والعدل والسلام.

ويقول البصير: "وعلى كل حال، فإنني منذ وقعت الكارثة، لم أكتب إلا ما يتصل بهذه النازلة التي أثخنت الأمة العربية بالجراح".

ويلجأ البصير إلى وضع دراسات ومقالات يمكن أن يقال عنها إنها من أدب المحنة، فهو يطمح إلى اتجاهين، أولاً: إعادة الثقة والأمل في نفوس أهل الكويت وتعميق الانتماء والحس الوطني لديهم، وتعزيز إيمانهم بالله ومشيئته، ثانياً: محاولة إزالة بعض الغشاوة التي ألمت بالذهنية العربية عن تاريخ الكويت واستقلالها وسيادتها بحيث أننا فوجئنا بانفصال حاد وتناقض في موقف بعض المثقفين العرب من قضية الكويت، ومن هذا المنطلق، اقتحم البصير التاريخ الأدبي ليسجل غضبه، وعلى هؤلاء الذين شوهوا التاريخ، وكأنه يوقظ إحساس القراء بأن ما حدث إنما هو سلسلة نابعة من الماضي المؤلم لهذه الأمة، فيكتب عن بعض الأفراد الذين شوهوا التاريخ في الجاهلية وفي الإسلام.

ويصور الحياة المظلمة في فترة الاحتلال، وكيف شاهد التعسف والاضطهاد وقتل الشباب واعتقالهم دون سبب، وتهديد الأطفال والعجائز وكبار السن بالبنادق والآلات الحربية، وبذلك جسّد البصير صورة وحشية حقيقية لهؤلاء الطغاة القادمين، يسرقون وينهبون أرض الكويت وخيراتها.

ولا يتوقف البصير عند هذا الحد، بل يتناول القصائد التي كتبت عن هذه التجربة الوحشية، ويبرز ما فيها من قضايا وطنية، وعشق عميق للكويت الأرض التي ولدنا عليها، وسوف نموت فيها، ومن هذه الأعمال الشعرية ديوان الشاعرة جنة القريني: "الفجيعة"، ويحلل البصير كتاباً آخر من تأليف عزيزة المفرج هو "الزنزانة 60"، حيث كتبت الكاتبة عن تجربة الأسر وسجلتها بكل حقائقها، وكذلك يقرأ البصير للأديبة ليلى العثمان "الحواجز السوداء" ويحلل ما فيها من أحداث مثيرة.

ويبدأ البصير في الحديث عن الأسرى الكويتيين وترسيم الحدود، ويتابع أعمال اللجنة، ويجلس مستمعاً إلى قصص أم الشهيد أو زوجة الشهيد، ويسجّل كل ذلك في خواطره وكتاباته، ولا يغفل البصير أن يذكر وقائع عن تاريخ الكويت وإعجابه برجال وحكّام وقفوا بشجاعة، وناضلوا، ومنهم الشيخ عبدالله السالم الذي وقف كالطود الشامخ الراسخ حينما آثار عبدالكريم قاسم زوبعته المعروفة، وحين يقوم البصير بزيارة الشيخ عبدالله ينشده قائلاً:

يا ابن الأماجد كنت خير أب لنا

 

إنّا لشخصك دائماً نترقب

أوتيت يا أمل الكويت بصيرة

 

للمشكلات تحلها إذ تصعب

يهنيك هذا النصر أن جهودكم

 

نجحت بحمد الله فيما ترغب

لقد وقف البصير بكل شجاعة تجاه قضية بلاده مدركاً وواعياً أنه يحارب ويناضل ويؤدي دوره الوطني مثل كل كويتي أو عربي مؤمن بهذه القضية، وكان يقول دائماً: علينا بالاتصالات المستمرة بجميع دول العالم، نوضّح لهم بالوثائق أن الكويت كيان مستقل، مما يعني أن جميع ادّعاءات رئيس النظام العراقي باطلة.

هذا هو البصير الكاتب الوطني والإنسان الذي يقف في الخطوط الأولى مدافعاً ومحارباً، منتشاً بالأماني ومحتشداً بالأحلام، ويبصر دربه ليرى في الظلام ما لا يراه غيره في النور والحياة.

ولا ننسى أن البصير من مواليد الكويت 1919 في منطقة الشرق، ودرس القرآن في الكتاب وحفظه، ثم درس على يد علماء الدين قواعد النحو والبلاغة وفقه الدين والفلسفة القديمة في الكويت والنجف، وقد عمل في القضاء لمدة اثنتي عشرة سنة في المحاكم الخاصة بالأحوال الشخصية ثم مأذوناً شرعياً. وكان البصير عضواً في جمعيات أدبية كثيرة أهمها رابطة الأدباء، ولجنة التراث والبحوث والترجمة والتأليف والرقابة، وشارك في معظم المؤتمرات الأدبية، وقد رشّحه الدكتور طه حسين ليكون مراسلاً للمجمع اللغوي في القاهرة أو مجمع الخالدين. لقد رحل البصير، ولكنه باق في ضمير الأمة، وسيبقى مصباحاً مضيئاً بالنور والحب والإرادة والعزيمة التي لا تُقهر، إنه حقّاً الرجل الذي تحدى الظلام، وأبصر بثاقب بصيرته الحياة الجميلة الرائعة، فسلام على روحه وهو في ديار الخلود.

البصير.. وألفاظ الحضارة
بقلم: إبراهيم الترزي

كان زميلنا المجمعي الجليل المرحوم الأستاذ عبدالرزاق البصير من أحرص الأعضاء على الوفاء بحق المجمع، وإحسان الأداء المجمعي ببحوثه، ومناقشاته، في مؤتمراتنا، على امتداد ثلاثني دورة مجمعية.

لقد بدأت صلتي به مع بداية عضويته المجمعية عام 1968، ولكن هذه الصلة وُلدت يافعة، قوية، حميمة، فلم تنشأ- كالعهد بكل صلة وليدة- غضة ناعمة، تتدثر بالحرص والتحفّظ، وتتجمّل بالخفر والرقة، وتلوك عبارات الثناء والمجاملة الجوفاء!

ولعل هذا يرجع إلى طبيعته، وتكوينه النفسي، والاجتماعي، والثقافي، فالشيخ البصير ذو شخصية جهيرة، يأخذك بطلعته العربية الخليجية، وطلاقة وجهه، وطلاقة لسانه، وهيئته المتحفزة المتوفرة، فهو دائماً جيّاش موّار بهموم لغوية، وأدبية، وفكرية، يُقبل بها عليك إقبالاً ودوداً يجتذبك إلى مشاركته فيما يشغله ويهمه من هذه الشؤون اللغوية، والأدبية، والفكرية، وقد يعتري حديثكما اختلاف يدفع بكما إلى حلبة نقاش، حيث المحاورة بالرأي، والمصاولة بالحجة، وقد تأخذ الشيخ البصير حدّة يأخذها عليه بعض محاوريه، ولكنها- في واقعها- حماسة لرأيه، واعتداد به، وهو في كل ذلك يمسك بزمام نقاشه، حتى لا يجمح به، فيثير غباراً يحجب الحقيقة والحق، أو يقدح شرراً يحيل صلته بمن يحاوره إلى دخان ورماد، فالشيخ البصير عظيم الحرص على أن تحُفّ المودة والسماحة ما ينشأ بينه وبين محدثه من حوار، وعلى أن يسوده احترام للرأي، واستعداد لتقبّله، حين تنهض به الحجة، ويدعمه الدليل.

هكذا كنت أرى الشيخ البصير في كل مؤتمر مجمعي يشهده بالقاهرة، حيث تدور المناقشات في قاعة جلسات المؤتمر مع زملائه أعضاء المجمع، حين يأخذون في نظر الأعمال المجمعية التي تنجزها لجانه كل عام، من المصطلحات العلمية والأدبية والفنية وألفاظ الحضارة، وقرارات اللجان اللغوية التي تعمد إلى تيسير قواعد العربية، وتصويب ما يضيع على الألسنة والأقلام من ألفاظ وأساليب يظن خروجها على نهج العربية وضوابطها.

ويحرص الشيخ البصير على الإسهام ببحث في الموضوع الذي يقترحه المؤتمر لمعالجة قضية من قضايا اللغة، أو الأدب، أو العلم، كما يحرص على الإسهام في مناقشة بحوث زملائه المجمعيين: العرب والمستعربين.

البصير وقضية التعريب

ومن أهم القضايا التي عالجها أعضاء المجمع، وشارك فيها الشيخ البصير ببحوثه قضية "التعريب "، وبخاصة تعريب العلم والتعليم في الجامعات والمعاهد العليا، فهو ينوّه بقدرة اللغة العربية على استيعاب العلوم، والتعبير عنها، ووضع المصطلحات لها، مشيداً بتجربتها الفذّة في القرون الوسطى، حين كانت هي وحدها لغة العلم السائدة في العالم كله، وقد أهّل العربية لهذه السيادة اللغوية: العلمية والحضارية ما في طبيعتها من حيوية ومرونة، وخصوبة اشتقاقية، وقدرة على النمو، والتطور، والازدهار، ويقول:

"وحين انتشر الإسلام في مشرق الدنيا ومغربها، واختلطت الأمة العربية بسائر الأمم، وانفتحت الأبواب على مصاريعها لمعارف اليونان، والرومان، والفرس، والهنود، اتسع صدر اللغة العربية لتقبّل تلك المعارف الكثيرة الواسعة، فلولا أنها لغة حضارة لعجزت عن احتواء تلك العلوم والمعارف التي تدفقت كالأمواج المتلاطمة، وفي عصرنا الحاضر، لا يكاد يجد جديد في أي ميدان من ميادين العلوم، والفنون، والمعارف إلا وقد أخذت ترحّب به لغة القرآن الكريم أعظم ترحيب، لقد ترجمت وعرّبت عشرات الآلاف من المفردات التي تتضمن مصطلحات علمية جديدة، وبخاصة في ميدان العلوم التطبيقية والطبيعية، كالطب، والكيمياء، والفيزياء، والصيدلة، والهندسة، والفلك، والرياضيات، وكذلك في ميدان العلوم الإنسانية كالتاريخ، و الجغرافيا، والفلسفة، والاجتماع، والأخلاق ".

ويتصل بذلك بحثه المجمعي في "توحيد المصطلح العلمي العربي "، الذي يعد الركيزة الأساسية للنهوض بتعريب العلم والتعليم في وطننا العربي، فتراه يحمل على من تأخذهم الجرأة في وضع المصطلحات العلمية، أو الأدبية، أو الفنية، من أفراد، وهيئات، في مختلف البلدان العربية، فصار أمر المصطلح العربي إلى فوضى، وبلبلة، جعلت الباحثين العرب لا يفهم بعضهم عن بعض، بعد أن تعددت المدلولات للمصطلح الواحد، والشأن في المصطلح أن يجمع الباحثين والقرّاء على مدلول واحد يصطلح عليه العلماء، أو الأدباء، أو المشتغلون بالفنون، ويتداولون استعماله، حتى يسود التفاهم بينهم، ويأخذ بعضهم عن بعض في عالمنا العربي، ويرى الشيخ البصير أن يُترك وضع المصطلحات للمجامع العربية، وأن يتم توحيد المصطلحات العربية من خلال "اتحاد المجامع اللغوية العلمية العربية"، ويشيد الشيخ البصير بمجمعه في القاهرة الذي أخذ على امتداد ستين عاماً يضع المصطلحات في مختلف العلوم والفنون والآداب، حتى أخرج منها العديد من المعجمات العلمية المتخصصة، وفي ألفاظ الحضارة، ومصطلحات الفنون.

ويهيب الشيخ البصير بكل المسئولين في الأقطار العربية إلى إصدار تشريع يُلزم الجامعات، والمعاهد العليا، ومراكز البحوث، بتعريب العلوم والتعليم، والأخذ بالمصطلحات التي يضعها مجمعه اللغوي بالقاهرة، وتوصياته التي تتوالى عاماً بعد عام، في مؤتمراته السنوية، التي تضم أعضاء المجمع من البلدان العربية، والمستعربين من البلدان الإسلامية، والأجنبية.

وفي بحثه، " اللغة العربية وألفاظ الحضارة" يدعو الشيخ البصير إلى النهوض بتطهير اللغة الفصحى، ولغة الخطاب، من الكلمات التي شاعت في عهود الأمية، والتخلف، والضعف، وبخاصة الكلمات الدخيلة التي تسللت إليها من اللغات الأجنبية، ويستشهد لذلك بما حدث في الكويت فيقول: "ولعل أوضح مثال لذلك ما حدث لمعجم الألفاظ هنا في الكويت، فقد كنا نستعمل كثيراً من الأسماء التي لا نكاد نعرف غيرها، وإن كان استعمالها قلّ في وقتنا الحاضر، بفضل انتشار التعليم، والتثقيف، وارتفاع مستوى الحياة، من ذلك- مثلاً- كلمة " الدريشة " للنافذة، أو الشباك، و " الكمبازي" للمحتال كثير الخداع، و "الشاخ " لمعدن الفضة، و "الكبت " للخزانة التي توضع فيها الثياب ونحوها، و " الكراتي " للذي يعمل كاتباً في الحكومة، أو التجارة، أو الشركات، و "الكرفاية" لسرير النوم، و "الكاروكة" لسرير الأطفال، وغير ذلك من الألفاظ التي انتقل أكثرها من اللغات الأجنبية، كالفارسية، والتركية، والهندية، والإنجليزية ".

ناقد ساخر ... أحياناً

ولا تفوته السخرية مما شاع لدى البعض من كلمات منحوتة، مستهجنة مرذولة مستشهداً على ذلك بقولهم: "يتبرجع " من البرج العاجي، و "يتأنسن " من الإنسانية، و "يتسمبص " من السمع والبصر، و "يتشخصن " من الشخصية، و "يتجمعن" من الاجتماع!

وفي بحثه " بين العامية والفصحى" يدعو إلى التقريب بينهما، عن طريق محو الأمية، ونشر التعليم، والتزام أجهزة الإعلام- وبخاصة الصحافة والإذاعة المسموعة والمرئية- باللغة الفصحى، وتعميمها في كل أقطار الوطن العربي، ويشن الشيخ البصير حملة عاتية على الكتّاب والشعراء- في الكويت وسائر البلدان العربية- الذين يستخدمون العامية فيما يُنشئون من أدب، أو مسرحيات، أو تمثيليات: مسموعة ومرئية، ويجهز على دعواهم إلى استخدام العامية، بقوله:

"لو افترضنا أن العامية أقرب إلى نفوس الجماهير من الفصحى، فإن علينا ألا ننتهج هذا السبيل لأسباب عدة: منها: أن لكل قطر لهجات عدة، فبأي لهجة منها يكتب الكاتب؟! ".

"يضاف إلى ذلك أن اللهجات العامية تتغير من عصر إلى عصر، ومن منطقة إلى منطقة، فكل كاتب يكتب باللهجة العامية يكتب لقطر من الأقطار، إن لم نقل لمنطقة من المناطق، وكل ذلك يجعل آثاره لا تصلح إلا لمدة يسيرة، ولقطر معين، ثم لا تلبث هذه الآثار أن تئول إلى الاندثار! ".

ويختتم ذلك بوجوب الالتزام بالفصحى، لأنها الأساس الأول لتوحيد شعبنا العربي في كل أقطاره، ويقول:

"إن اصطناع اللهجة العامية يعارض الوحدة العربية، وهي أمل يسعى إلى تحقيقه كل عربي مخلص لهذه الأمة، ذلك أن اصطناع اللهجة العامية يعمّق تجزئة الأمة العربية، ويقوي الدعوة إلى الإقليمية"!

ويشيد الشيخ البصير بتجربة قامت بها "مؤسسة الإنتاج البرامجي المشترك لدول الخليج العربي "، التي أعدّت برامج تلفزيونية للأطفال باللغة الفصحى السهلة، القريبة الفهم والتذوّق، وقد أرسلت المؤسسة بعض برامجها إلى مصر وسوريا ولبنان والأردن والعراق، وبعض بلدان المغرب العربي- إلى جانب دول الخليج العربي- ليتعرّفوا مدى إقبال الأطفال- في هذه البلدان العربية- على هذه البرامج، ومدى فهمهم لها، وتأثّرهم بها، فكانت نتائج ذلك سارة، مبشرة، مؤكدة أن اللغة الفصحى قادرة على أن تكون لغة تواصل بين أطفالنا الصغار، الذين يشبون بذلك على حبّ هذه اللغة، واستخدامها بسهولة في أحاديثهم وكتاباتهم.

باحث في التراث... أيضا

وفي بحثه عن تراثنا العربي، يفيض في الحديث عن أهمية النهوض بجمع مخطوطاته المتناثرة في مختلف بلدان العالم، ورصدها، وإحصائها إحصاء موضوعياً، والتعريف بنسخ كل مخطوط، على أن ينهض بذلك علماء المخطوطات المتمرّسون، وبخاصة في معهد المخطوطات التابع لجامعة الدول العربية، ثم يختتم بحثه بتوجيه نداء إلى مجمعه في القاهرة، حيث يقول:

"بقي أن أرجو مجمع الخالدين أن يصدر توصية تدعو إلى توحيد جهود المحققين، وتنسيقها، فنتجنب بذلك الازدواجية في التحقيق ونشره، مثلما حدث لكتاب "الجُمان في تشبيهات القرآن"، لابن ناقيا البغدادي، فقد حققته وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية في الكويت، وحققه الدكتور أحمد مطلوب، وأصدرته وزارة الثقافة والإعلام في العراق... "!

"وإني لآمل مخلصاً أن يصدر مجمع اللغة العربية بالقاهرة توصية بتنظيم تحقيق التراث العربي، لتكون جهود المحققين متناسقة، ونجني منها ثماراً أفضل مما جنيناه في حقل تحقيق تراثنا، وليس ذلك بعزيز على مجمعنا العظيم".

هذه وقفات سريعة مع الزميل المجمعي الراحل الأستاذ الكبير عبدالرزاق البصير، في مسيرته المجمعية التي امتدت ثلاثين عاماً، حفلت بأعمال جليلة، سوف تظل حيّة متألقة في ذاكرة مجمعه اللغوي بالقاهرة.

حوار أخير مع البصير
أجرى الحوار: جهاد فاضل

في زيارته الأخيرة للبنان، جمع بيننا هذا اللقاء الذي لم أكن أدري أنه الأخير، وأن هذا الحوار سوف يصبح أشبه بوصاياه الأخيرة.

يؤلف هذا الحوار مدخلاً إلى سيرة الأديب الكبير الراحل عبدالرزاق البصير وأدبه، ففيه يتحدث عن جوانب من سيرته: عن دخوله مبكراً حلبة العمل السياسي وهو دون العشرين من عمره، إلى أن ساهم بعد ذلك في تأسيس كتلة الشباب الوطني في الكويت وصار خطيباً لها، ويعرض، ربما للمرة الأولى، لأثر العمى الذي ابتلي به في حياته، وعمّا يجمعه بأدباء عرب في القديم والحديث كانوا أيضاً كفيفي البصر كأبي العلاء المعري وبشار وطه حسين.

وعندما ألححت في سؤاله عن غياب البوح الذاتي في أدبه، وعن انصرافه إلى "الخارج" أي إلى الشأن الأدبي أو الفكري العام، لم أظفر بأجوبة مقنعة، لقد أدلى بنفوذ "النظام العام" الفكري على الخصوص، وبكون الظرف غير ملائم كي يبسط القلم كل ما تجده النفس أو ما تشعر به على النحو الوارد في الحوار.

  • يحضرني وأنا أجالسكم الآن سؤال حول تجربتكم الجوّانية بالذات، أنا أعرف أن لكم مرادفاً في تجربتكم النفسية هو المعرّي وبشار في القديم، وطه حسين في الحديث، إنها تجربة فريدة: أديب هو بصير من حيث الفكر والروح، ولكنه كفيف على صعيد النظر أو البصر، مثل هذه التجربة جديرة بأن تُبسّط للقارئ لمعرفة هذا المخزون النفسي والروحي الذي صدرتم وتصدرون عنه.

- هذا السؤال عميق وعميق جداً، ولكنني أعتقد أن الاشتراك في هذه الآفة، وهي فقد البصر، لا يكون عند المكفوفين واحداً، كل إنسان يبقى على المزاج نفسه الذي تربى عليه، أو نمت ثقافته منه.

أبو العلاء المعري وزهده في الدنيا، وقدرته الحافظة إلى غير ذلك، لكن هناك تجربته التي عاشها التي تختلف اختلافاً كلياً عن تجربة بشار، بشار إنسان منطلق وكأنه لم يكن كفيفاً، لقد أعطى نفسه كل ما تشتهي من الناحية المادية.

طه حسين يختلف عن هذا وذاك، يختلف لأن تجربته في الحياة تختلف، أنا أعتقد أن هذه الآفة لا تستطيع أن تجعل المبتلين بها على نهج واحد في حياتهم إطلاقاً، هذه آفة يُبتلى بها الشخص وتبقى شخصيته، تبقى تربيته، تبقى بيئته وكيف يعيش، كيف تربّى، فأنا لا أرى أن هذه الآفة تجعل المبتلين بها مشتركين في شيء على الإطلاق، وهذا رأيي.

  • ولكن، أليس لها تأثير في النفس والروح والحياة الداخلية بشكل عام؟ أليس هناك بالتالي، من قواسم مشتركة؟ هذا الانصراف عن، الخارج، والانكباب على الداخل، هذه "الجوّانية" بالذات، أليس لها أثر، وأثر واحد في الأدب، في الإبداع، في النظر؟

- لا بد أن يكون طبعاً، لكن، كما قلت لك، كل إنسان حسب تربيته، بعض الناس لا ينصرف إلى الداخل إطلاقاً، أنا أعتقد أن بشار بن برد لم ينصرف إلى الداخل، لا أذكر أنني قرأت في ديوانه شكوى من ابتلائه بهذه الآفة، طه حسين بالذات، يشتكي كثيراً منها، ويحسّ بثقلها عليه.

أنا شكواي كثيرة من هذه الآفة، ولكنني لا أخرجها في ما أكتب من المقالات إلا قليلاً، كتبت مقالين أو ثلاثة عما أُصبت به، وعما أحسسته وعرفته، ولكن ما كتبته وما أحسسته، كان غير ما كتبه وأحسّه أبو العلاء المعري وبشار وطه حسين، وكلهم كانوا على الحال التي ذكرتها لك، كل إنسان حسب بيئته، هذه الآفة تؤثر، ولكن ليس إلى الحدّ الذي تغيّر في فكره، على الإطلاق.

هناك كتب مثل "نكت العميان"، لكني لم أر محلاً لي في حكاياته.

أنا والمعري وطه حسين

  • المع

 

سليمان الشطي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




عبدالرزاق البصير





عبدالعزيز الصرعاوي رئيس رابطة الاجتماعيين الكويتية يكرم الراحل البصير مارس 1997





البصير مع الأديب الجزائري الطاهر وطار وليلى العثمان وأحمد السقاف





البصير في مكتبة وزارة الإعلام القديمة حيث كان أمينا لها





البصير بين المشاركين في ندوة الإبداع الفكري- الكويت 1981م





البصير يمثل الكويت في المؤتمر الثاني لكتاب آسيا وإفريقيا إلى جانبه الأستاذ فوزي عبدالقادر ممثل مصر





البصير مصافحا الدكتور طه حسين أثناء زيارته في منزله بالقاهرة- 1964





البصير لدى زيارته إدارة الأزهر- 1964





البصير في إحدى اجتماعات مجمع اللغة العربية بالقاهرة 1971 م





البصير مع موسى زنيل مدير إدارة الثقافةوالفنون بوزارة الإعلام القطرية أثناء إلقاء محاضرة عن أحمد بشر الرومي 1983





الراحل ضمن وفد الأدباء العرب في مؤتمرهم بالمغرب عام 1970